رفضوا النجومية.. وأحبوا البساطة

«ناس الغيوان» دراويش الأغنية المغربية

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

فرقة موسيقية غنت للأصالة وتغنت بها، التزمت بعكس هموم الناس وقضاياهم، فارتبطت بضمير ومعايشات مجتمعها المغربي، والعربي عامة.إنها «ناس الغيوان» الفنية الموسيقية، التي تستمر منذ تأسيسها مطلع السبعينيات من القرن الماضي، في تجديد وتجويد عطائها، متخذة من شعار الالتزام في عوالم الفن، هدي دربها، ومشعل مسيرتها الذي تذكي نوره بمضمون موسيقاها وكلماتها المحاكية للأفراح والمعاناة الاجتماعية.


كانت كلماته مشبعة بطعم الشجن والحنين، وهو يستهل حديثه عن «ناس الغيوان»، شغفه وقدره ومرتع حبه وهواه. هذا هو بحق التوصيف الدقيق لحال الفنان عمر السيد، قائد الفرقة، وهو يهم بشرح طبيعة هذه الفرقة ومضمون منتجها الفني، إذ انطلق مسترسلاً في عوالم سرد جميل شائق، يقص معه حكاية البدايات وملامح المسيرة، بإخفاقاتها ونجاحاتها ومنغصاتها، وصولاً إلى نجومية «ناس الغيوان» وتعمق دورها ومكانتها المجتمعية:

كنا مجموعة شبان: العربي باطما، بوجميع هكور، عمر السيد، علال يلا. في ستينيات القرن الماضي، متحمسين ومحبين للفن والناس. جمعتنا الأقدار سوية في حي شعبي بالدار البيضاء، يدعى «حي المحمدي» .

ووحدتنا طبيعة الاهتمامات والميول والمواهب. وبدأنا ملامح الطريق في خطواتنا الأولى بأن عملنا في مسرح الهواة آنذاك، ثم التحقنا إثرها بالعمل المسرحي الحقيقي مع الفنان الراحل الكبير، الطيب صديقي، وذلك تحديداً في العام 1967.

وقدمنا مجموعة مسرحيات احترافية مع صديقي (تحديداً بين العامين 69-70)، عرضت في المغرب تونس والجزائر ومصر وفرنسا. ومن ثم شرعنا سوية في العام 1970 باتخاذ الخطوات المبدئية اللازمة والتفرغ لتشكيل الفرقة، فكان ذلك. وكانت تلك المحطة عنواناً لولادة نجمة جديدة في عوالم الفن، وهي نجمة «ناس الغيوان».

اسم على مسمى

وكأن المايسترو السيد، عرف بخبرته وتملكه لقدرات إدراك قيمة النغم وحبكة قوة المعنى والفكرة المرادة، أننا في وارد التحول، وقبل الولوج في تفاصيل أخرى متشعبة عن الفرقة وتاريخها، إلى تساؤلات تخص رغبتنا في معرفة كنه معنى مسمى الفرقة، وسببه.

وبذا فهو لم يبقنا في حيرة أبداً بينما نحن نفتش في محاولة مقاطعته بأسئلة تفصيلية عن معنى المسمى. فاستجاب لتحديدات مسار الحوار، منتقلاً إلى تفسير معنى «ناس الغيوان»، وكيفية حرصهم في الفرقة، على التقيد بأن يكون خط عطائها ترجمة حقيقية صادقة لأقانيم تلك التسمية كواقع ملموس مشهود، تبرهنه الفرقة عبر التزامها بموضوعات تمس قضايا الناس وهمومهم:

مؤكد أن معنى المسمى هو نفسه سبب اختيارنا له ليكون عنواناً لفرقتنا ولنا. إن «ناس الغيوان» في المغرب تعني الأشخاص الذين يتقنون لون ونموذج الإيقاع الموسيقي الذي يدعى «الملحون»، وهم أيضا المحبون والبسطاء، أو إذا أردت «الدراويش» نوعاً ما.

وهكذا فالملحون هو المعبر عن اللحن العذب الملتصق بصورة صدق وغنى وجمال المعنى والتزامه، وكذلك القرب من الناس. وبذا كان قرارنا وخيارنا أن نقدم أنفسنا على أننا أهل الكلمة الراقية الجوهرية واللحن المؤثر الصادق والمخلص. ركزنا على ذلك منذ الخطوات الأولى، إيماناً منا بأننا ماضون في درب طويل ملؤه حميمية الارتباط الوجداني بالناس.

وأما بالنسبة لموضوعات أغنياتنا، سابقا والآن، فهي بحق خير ونعم الترجمة والتفسير لما رمناه من التسمية. كونها دوما عاكسة لواقع حياة المجتمع، مجسدة لمعاناة وأفراح وآلام الناس. فمثلاً أول أغنية قدمناها كانت عن الرشوة، وقد وجدنا في التراث المغربي أغنية تحكي عن الرشوة وسوءاتها ومخاطرها، فتلك الظاهرة قديمة ودائمة، لهذا قدمنا الأغنية التراثية التي تعالجها لتحكي عنها في واقع تلك الأيام محاولة التصدي لها.

إننا نحرص باستمرار على مواكبة أحاسيس ومشاعر وأفكار ومعايشات الناس في المجتمع المغربي عبر أغانينا، وهكذا وفي هذا كانت أغانينا المختلفة في المجتمع المغربي، وأيضاً على المستوى العربي، وتلك الخاصة بالقضية الفلسطينية، مثل: «مزين امديحك»، «يا صاح»، «غير خذوني»، «انتفاضة».

يبقى شعارنا هو الالتزام بمضمون الأغنية المفرحة والطربية الجادة الملتزمة، التي تتناغم مع ومضات قلوب وعقول ومشاعر الناس. لتفرحهم وتخفف عنهم وتنصرهم.

نحن دوما نحلق في عوالم الأندلسيات ونبدع في مرابع الأغاني الصحراوية والامازيغية، نرى أنفسنا عصفورا دائم التغريد، وهو يحسن ترجمة لحن وكلمة في قالب رؤى مجتمعية. إننا باقون كفنانين نعنى بالتخصص في نسج مضمون الكلمة واللحن المعبرين، اللذين يخلقان أفق التأمل والأمل، والدلالات والرؤى الصوفية.

لا للعصرنة نعم للأصالة

يتابع السيد عمر توضيح رؤية وتوجهات «ناس الغيوان». فعيناه تشيان بمخزون قصص كثيرة، تختزن فيها وتتقلص ذكريات وآفاق محطات النجاح أو هنات الإخفاقات، وكذا تصورات وتنبؤات المستقبل. لتتلمس في نظرته الكثير من الحنين والبريق الحزين الرافض للانكسار. فما مرد ذلك يا ترى؟

وأين هو مستوى ومنسوب نجاح الفرقة ومكانتها حالياً في ظل انتشار الأغاني العصرية، وما عانته من أحداث ألمت بها؟ وكيف باتت تتموضع وتتأقلم بأغانيها التراثية في ظل استحواذ الأغاني العصرية على اهتمام الناس؟ يقول السيد في هذا الصدد:

لا زلنا نخط معالم الدرب بعزم وتفاؤل، مستندين إلى محبة الناس، وتاريخنا الحافل بالنجاحات، وكذا الخامات والإمكانات التي نتسلح بها لتمدنا بقوة استمرارية نوعية في المستقبل.

فالموروث غني ولا ينضب، وهمتنا قوية وإرادتنا لا تلين، وبذا لا يظنن أحد بأنه يمكن لأي روحية عصرية رنانة في صميم الأغنية والموسيقى، يمكن لها أن تزيح أو تزعزع جوهر ومكانة وشعبية ما نقدمه من تراث موسيقي يحوي عبق الأصالة ووهج تأثير الكلمة، وصدق الالتزام بقضايا الناس، مؤكد أن تجددنا دائم من خلال تلك الدماء الجديدة في الفرقة حاليا، والتي باتت توفر مساقات امتداد لروح الفرقة، مثل:

حميد ورشيد باطما، أخوي المرحوم العربي باطما، وأيضاً شقا عبدالكريم، تلميذ العلال. صحيح أن هناك أحداثا أعاقتنا وأحزنتنا وقهقرتنا قليلاً، كوفاة المرحوم العربي باطما، ومرض العلال. لكن هذا لا يعني أننا يمكن أن نتراجع أو نتوقف أو نقبل بأن يكون مستوى حضورنا وتأثيرنا المجتمعي متواضعا.

هذا مستحيل فنحن من تربت مع لحننا وكلمتنا، أجيال مغربية كاملة، قدرت ووعت وعرفت قيمة الكلمة الموسيقية الصادقة الوفية للناس، وقيمة اللحن التراثي الذي يأبى إلا أن يكون باعث الفرح في النفوس، ومنشدا للحق والخير، ومحاربا للظلم.

وفي شأن انتشار الأغنيات العصرية حاليا، وفي ما إذا كنا نحن نواجه صعوبات إزاء هذا الواقع، أو نشهد تراجعا. وكذلك عن ماهية تطويرنا لمنتجنا الفني ولآلاتنا. أصحاب تجربة ومدرسة لا مجال لأن ننسلخ عن رؤاها ومبادئها، فمن المستحيل أن نعنى بعصرنة منتجنا ورصيدنا الفني بالوجهة الحالية. ربما أننا نحاول أن نواكب متطلبات العصر راهنا.

ولكن الثابت أن أي تغيير أو تطوير على مستوى اللحن أو الكلمة، نشترط أن يحتكم إلى معيار الابتعاد عن الميوعة، ليكون بذلك بدرجات ومناخات طفيفة قليلة جدا، بحيث لا يمس الجوهر.

أريد أن أقول بصراحة إذا كان التجديد أو العصرنة في الفن، يعنيان أن ننسلخ عن مضمون أصالة الجوهر في التراث الفني، فنحن وبصراحة تامة، ضد هذه العصرنة، حتى ولو كانت ستجعلنا نتخلف عن الركب، ولكننا نعي تماما أن الناس متمسكون بالموروث والأصالة الفنية، وذلك من خلال ما نقرؤه في عيونهم، وما نسمعه من تعبيرات من قبلهم، إلى جانب شعبية أغانينا.

باقون...

تتلالأ في عيني السيد سمات الثقة والفخر وهو يبين سر حميمة علاقة الفرقة بالناس، متحولا إلى تأكيد قدرة الفرقة على تجاوز أي صعوبات تعترضها لتتحدى أي مخاطر تقهقر أو زوال في المستقبل، من خلال رصيدها وخطها، وأيضا وجود جيل شاب (كما يقول : شاب بالنسبة له، فأصغرهم في الـ 48 من العمر) سيتولى مسؤولية إنجاح مهامها ومتابعة خطها.

ولا ينسى قائد الفرقة هنا، أن يلمح إلى أنهم يعتنون بخامات الشباب، لكنهم لا يسعون إلى استقطاب أي احد، ويقدم مبررات حجة متفرعة الخطوط في هذا الصدد:

بنيت ركائز وجود هذه الفرقة، منذ البدايات، على محبة الناس والقرب منهم، فاستقت بذلك قوة استمراريتها ومتانة دعائمها من مكانتها لديهم. كما استحقت ثقتهم وعشقهم لها عبر صدق التزامها وشفافية الكلمة المغناة الملتزمة.

وبذا فإن هذه الركائز والأسس هي مقومات وخلطة سر نجاح «ناس الغيوان». نحن وعينا هذا بعمق، ولذا لم نتوقف في الاستزادة وايجاد سبل الديمومة، لتعيش الفرقة بالناس ولهم، إذ استطعنا دمج عدد من الشباب ليتربوا في أحضان الفرقة، مثل رشيد وحميد وشقا، وها هم الآن يشاركون في قرار توجيه دفة عطائها ومسارها وشحذ همتها، مستفيدين من أرضية مكانتها وسمعتها وشعار عملها ورؤاها. إن ناس الغيوان باقون وباقية معهم أصالة المغنى.

نحن أصحاب دور أساسي في حفظ الموروث الموسيقي المغربي، كما أنني أود أن الفت إلى أننا لسنا، مثل الكثيرين غيرنا، دعاة استقطاب وتحفيز لخامات الشباب ليأتوا إلينا، نحن نحرص فقط على تقديم فن راق، والشباب يقدمون إلينا ويتمسكون بنا بفضل منتجنا وتوجهنا، وبذا نحن فقط نريد الخامات التي تقتنع بتلقائية ودون تأثيرات، بقيمة مشروعنا الفني.

ومن ثم تريد أن تكون (هذه الخامات) جزءا حقيقيا من مشروعنا. إننا هنا نقتدي برؤية محددة، مفادها: أكبر حيلة في التاريخ هي ترك الحليلة.

إن ما ميز فرقتنا، منذ البداية، هي سمات البساطة ورفض منهج النجومية الفنية، فنحن لم ولا ولن نعترف بما يسمى نجوم الغناء، نحن لحن وكلمة يترجمان مشاعر وأحاسيس ومعايشات وأفكار الناس بصدق وشفافية وإخلاص. وهكذا فان علاقتنا بالناس هي ومنذ البدايات، على مدار أكثر من أربعين عاما، تمتاز بأنها وجدانية نقية ورفيعة.

وبذا ترى انه لا وجود في قاموسنا لكلمة جمهورنا. إنها كلمة غير مستساغة لدينا، فهؤلاء هم أحباب الغيوان، هم أهلها واكسير حياتها وعطائها، هم من نصرونا وشجعونا طوال عقود أربعة. من أحبونا فزادونا إصرارا وقوة لتحقيق النجاح.

رفعت أبو عساف

Email