المكان والمرأة أهم إلهاماته الشعرية

نزار قباني قنديل أخضر على باب دمشق

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

«جلست والخوف في عينيها، تقلب فنجاني المقلوب، تقول لا تحزن، فالحب عليك هو المكتوب يا ولدي».

نعم فالحب هو المكتوب في كل أشعار شاعرنا الكبير الراحل عن عالمنا ـ المنزوع الحب ـ بالحب سطر كلماته. وبه جاءت معانيه تتوق للحظات حب بكل معانيه، به بنى أبيات قصائده..حب المكان هو مفتاح شخصية نزار قباني. عشقها وتغنى بعشقها، حضورها راسخ في قلبه، يشتعل في أفكاره وكلماته، أحبها حتى أصبح يشببها، إنها دمشق الحب الأول والحب الدائم بالنسبة له. مدينه نزار قباني المفضلة والفاضلة لها كل الحضور العنيف الأبدي، المدينة التي لونت أشعاره.

وشقت بداخله انفاقاً ومتنفساً، انها المكان الذي لم يستطع التخلص من سطوته واستحواذه، أو لم لا؟ فلكل وطن معنى ورمز يختزلهما القلم والمكان والذكريات، الوطن بالنسبة لأي إنسان هو «كل الدنيا»، هو العالم في قبضة يد، والمعنى في تلافيف الدماغ والحبيب في القلب والنفس.يقول نزار قباني في واحدة من قصائده عن دمشق، عن حبه: «عنوان يشبهني أكثر من كل التصاوير التي أخذت لي منذ ولادتي وحتى اليوم عنوان يجعلني محفوراً في ذاكرة الناس..

كما رباعيات الخيام

وغزليات عمر بن أبي ربيعة

وخمريات أبي نواس

وسوناتات بيتهوفن

فغنويّ موجودة في مفكرة أي وردة دمشقية

ولغتي مشتقة من مفردات الياسمين».

فبهذا الجمع أو الإضافة بين المكان والإنسان يكون التماهي، التداخل والتجانس المزج بلا حدود. إنها قصة شاعر ووطن. وقد سمى نزار قباني المنزل الذي ولد فيه وترعرع بداخله باسم «قارورة العطر»، فطفولته قضاها تحت مظلة الغيّ والنسمات ويعتبره نهاية لحدود العالم، فكان بالنسبة له الصديق والواحة والمشتى والصيف، هو الدنيا بين أنامله، على سجادة فارسية تفترش بلاط الدار ذاكر قباني دروسه، وحفظ أشعار عمرو بن كلثوم والذبياني وطرفة بن العبد.

الأم ـ أم نزار قباني ـ والمكان منزله بدمشق هما كل أشعاره التي زرعتها في قلب اللغة، فالأنثى الأولى في حياته هي أمه، بدورها تختزل البيت في يدها، صوتها هو صوت نسمات المكان، رائحتها هي الفل والياسمين المطلين من بين عروشهما يقول عنها «رحمه الله.. فكانت تحب الشام والماء وزهر الياسمين.

وتحول بيت نزار قباني حديثاً إلى مزار سياحي، مثلما منزل أسمهان، وغيرهما من منازل المشاهير وأهل الفن والأدب في سوريا، وبيت نزار قباني على قائمة أجندة السياحة في دمشق، فهو ـ مثل معظم البيوت الدمشقية صُمم على طراز العمارة الشامية التقلدية رائعة التصميم تخرج من تحت عباءة تاريخ المعمار العربي ، تستقطب الزائرين من أنحاء العالم.

وقد اجتمع فنانو المسرح السوري في منزل مؤسس هذا المسرح العريق في شهر مارس (آذار) الأخير ـ أبو خليل القباني ـ في منطقة كيوان غربي العاصمة دمشق لإحياء احتفالية يوم المسرح العالمي، وفي نهاية الندوة أعلنوا تحويل منزل نزار قباني إلى مزار سياحي، بعد أعمال الترميم التي قامت بها وزارة السياحة السورية.

وهو المنزل الذي تفجرت فيه شحنة الشعر لدى نزار قباني، من خلال تأمله لشجيرات الياسمين والنارنج واللبلاب والكباد (نوع من الزهور) التي جميعها تزدان بها ساحته الواسعة المبنية من الحجر الأبيض والأسود معاً بالإضافة لزخارف من اللون الزهري ونافورة صغيرة يقف عند حافتها أسراب الحمام واليمام يتأملها نزار بكل الحب والانتماء، فتغنى بشعر متفرد لشاعر خاص جداً.

ولأن منزله هو عالمه الذي يلي العالم الأصلي دمشق، فله الخصوصية في حياته، فهو منزل عريق فيتكون من طابقين، الأرضي والأول، وفي الطابق العلوي غرفة نزار قباني.

حيث مازالت تتمدد على جدرانها نباتات اللبلاب وأغصانها متدلية في جمال على نوافذها ودرابزين الدرج الذي يربط بين الطابقين، وفي غرفته طاولة خشبية مزخرفة بالصدف المعشق في الخشب والموزاييك الدمشقي الشهير الذي تحده خيوط من الفضة الخالصة وهي الطاولة (المنضدة) التي كان يكتب عليها كل قصائده متخذاً من دمشق والأم والبيت كل إلهاماته، وربما لهذا السبب كانت أهمية وصف ذلك المنزل المميز.

خزانة متوسطة الحجم من الخشب المعشق على طريقة الأرابيسك، داخلها ملابسه وصورة لوالده المجاهد توفيق قباني بالإضافة لمجموعة من الكتب التاريخية والتراثية والشعرية.

وليس بعيداً عن منزل نزار قباني، وفي منطقة باب شرقي، توجد العمارة الجميلة التي تشبه عمارة قصر العظم، يوجد قصر سليم النعسان الحفيد الذي ورث القصر والمشغل عن أجدادهم، وقام ببناء هذا القصر سليم الأكبر منذ 500 عام وهو مؤسس فنون الأربيسك والموزاييك الدمشقية الذي حوله لمدرسة على مدار القرون الماضية تخرج منها العشرات من المتخصصين في هذه الفنون الجميلة التي اشتهرت بها دمشق.

وهو حالياً مزار للسياح الذين يسجلون كلمات مأثورة في الكتاب الذهبي للقصر، ومن الشخصيات الهامة التي زارت القصر الملكة اليزابيث الثانية ملكة بريطانيا، ويروي سليم لكل السياح قصة الثوب الحريري الذي صنع في هذا القصر، وقدم هدية لملكة بريطانيا، وهو حرير دمشقي عال الجودة المعروف باسم «بروكار» الدمشقي الشهير، وهو الزي الذي ارتدته ملكة بريطانيا اليزابيث الثانية يوم زفافها.

ولأن منازل العظماء هي جزء من تاريخهم ومصدر من مصادر الهاماتهم وانتمائاتهم، فقد تم تحويل منزل نزار قباني إلى مزار رائع، ربما بعض من الزائرين الرومانسيين يستمعون في خلفية المكان لأجمل قصائده لقارئة الفنجان ورسالة من تحت الماء اللتين تغنى بهما العندليب الأسمر فكانت عبقرية الصوت وملامح العندليب تتداخل وكلمات نزار قباني الذي يعد واحداً من أصدقاء العندليب وكثيراً ما تقابلا في فيلا حليم بالزمالك وفي لندن بمزل حليم وفي دمشق في منزل قباني.

وفي ندوة عقدت في مكتبة الأسد بدمشق استمرت ثلاثة أيام شارك فيها نخبة من المثقفين العرب والباحثين في الأدب، قرروا عقد مهرجان شعري دولي يحمل اسم الشاعر، وتخصيص جائزة للشعر العربي تحمل اسم الشاعر نزار قباني، كما أكد الحضور بإجماع على ضرورة ترجمة اعماله إلى اللغات العالمية، ودعوا إلى إطلاق اسمه على قاعة أو مُدّرج في كلية الآداب بجامعة دمشق وطلبوا من وزارة الثقافة السورية اعادة طبع جميع اعماله الكاملة.

وكان الباحثون والمتخصصون في الأدب والشعر تناولوا في أبحاثهم المستفيضة مواقف نزار قباني السياسية والاجتماعية والإنسانية، ومدى تأثير انتمائه الحاد لبلده دمشق علي مسيرة أعماله، ودور أمه في حياته، أيضاً ألقوا الضوء على آرائه الفكرية والفنية، وتقنيات التعبير في أسلوبه، والبناء الشعري لقصائده، بالإضافة لصورة المرأة في أعماله وصورة الآخر في شعره.

وقدم الباحثون أكثر من 28 بحثا حول جوانب متنوعة من تجربة الشاعر الكبير نزار قباني، مما أثرى الندوات بالمناقشات والمداخلات والحوارات التي أضفت على الندوة رؤى مختلفة ربما كانت تطرح للمرة الأولى.

ومن جهتها ذكرت وزارة الثقافة السورية ـ التي رعت الندوة ـ بالتعاون مع مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري في كلمة ختامية إن خطتها في المرحلة القادمة تتضمن رعاية الثقافة وأعلامها في مجالات الإبداع جميعا، صونا للثقافة العربية وتثبيتا لخصائصها في حمايتها من المخططات العالمية بطمس هوية الثقافة العربية.

وعبّر الناقد السعودي الدكتور سعد سلطان القحطان في كلمة له باسم المشاركين في الندوة «عن إن نزار قباني بقي في الوجدان العربي حيًّا، لأنه أسس لمألوف جديد في الحياة الثقافية العربية يختلف عن المألوف القديم».

وعلى مائدة المسلسلات الرمضانية التي يعتاد المشاهد العربي متابعتها في رمضان احتلت الدراما التاريخية مساحة كبيرة، من أهمها الملك فاروق، وأسمهان وليلى مراد وحليم، حكاية شعب، وعبدالناصر، ونزار قباني، فكان مسلسل نزار قباني من إنتاج سوري سيناريو وحوار قمر الزمان علوش، استنادا للسيرة الذاتية للشاعر نزار قباني، المسلسل من إخراج باسل خطيب ومن إنتاج شركة الشرق السورية.

قام بدور نزار قباني الممثل السوري الشاب تيم حسن، وقام بدور نزار في شيخوخته سلوم حداد، شارك في العمل من الممثلين الكبار أسعد فضة وصباح الجزائري وقمر عمرايا ورونا أبيض، وقام بدور قباني في مرحلة الطفولة الطفل الموهوب مجد باسل الخطيب.

بثته قناة دبي وغيرها من الفضائيات في العالم 2005، وقام تيم حسن بتقديم شخصية نزار قباني في مرحلة الشباب. وكان ذلك مسؤولية كبيرة على الفنان في 21 حلقة، لأن لشخصية شاعرنا كاريزما خاصة جدا وظروفا حياتية وعبقرية الفكر والإبداع، ولذلك تضافرت جهود الممثلين والشركة المنتجة لتقديم عمل رائع.

وقد استعان تيم حسن ببعض من أفراد عائلة الراحل نزار قباني للتعرف عن قرب عن كل شيء حول شخصيته من عاداته وتقاليده وسر ولعه بدمشق وتواجد المرأة في أشعاره، وبرع الفنان تيم حسن على تجسيد شخصية نزار قباني داخليا في مزاجياته وهدوء سلوكياته بالإضافة إلى العمق وكيفية استلهام الشعر، كما ركز كذلك على حركاته وملامح وجهه في التعبير العام والتعبير بالشعر.

بالإضافة إلى كيفية تصرفاته الرصينة في المحافل الدولية والندوات والمحاضرات، وقد جمع تيم حسن العديد من الكتب المؤلفة حول نزار قباني كما قرأ تيم ديوانه كاملا بأجزائه التسع ليستشعر بلحظات التوهج وانطلاق الكلمات ورصانة المعاني، معه جمع فيروز الشطآن، وبحث عن حبيبته التي تطاير شعرها الغجري في كل الدنيا، فاكتشف أن ليس لها عنوان، أرسل رسائل من تحت الماء، وحبس الدمع في المقلتين..

فجاء دوره ملائما لكل حالات شاعرنا الكبير الذي علم الحب «لكل الدنيا»، وسبق ذلك خوف وهيبة غلفت الممثل الشاب تيم حسن، لأنه سيعكس شخصيته غير أي شخصية أخرى، فيها رصانة وجنون وعبقرية.

والسؤال الذي يفرض حضوره هنا هو مسلسل من ثلاثين حلقة يمكن خلاله اختزال حياة نزار قباني الشاعر والإنسان وصوت نابض بالحب والجنون والجمال؟

الإجابة كما رواها تيم حسن في إحدى المقابلات معه جاءت بأنه يحتاج لمئات الحلقات عن حق، فحياة نزار قباني في مصر وحدها وعلاقته بالمجتمع المصري بأبسط شخصياته كالبواب ومديرة المنزل، وأعقدها مثل علاقاته بالمثقفين والسياسيين كعبدالناصر والكتّاب، كل ذلك يحتاج لمئات الحلقات فضلا عن حياته خلال الأسفار حول العالم، وعلاقاته بأصدقائه وأهله وجيرانه والطريف أن ما أزعج تيم حسن خلال هذا المسلسل هو ضرورة وضع العدسات اللاصقة لساعات طويلة أمام الكاميرات، فكان بمثابة عبء نفسي أن يشعر بجسم غريب في عينيه.

وفي كل الأحوال يبقى نزار قباني بأشعاره وفلسفته الحياتية وتواجده المتوهج بين كل محبيه، والمرأة لا بد وأن تكون الأكثر سعادة لأنها بالنسبة له القيمة والأم والحبيبة وكل الدنيا.. فهي «موتيفا» رقيقة مكانها بين رموش العين حتى يراها في اليقظة والمنام.

أما دمشق فلا بد لها أن تفخر بكل الحب والانتماء الذي يكنه لها ابنها البار جداً بها.. فأولاها بكلماته وأشعاره وأسكنها قلبه ووجدانه.

«هذه دمشق وهذي الكأس والراح إني أحبُ وبعض الحب ذباح

أنا الدمشقي.. لو شرحتم جسدي لسال منه عنقيد وتفاح

ولو فتحتم شراييني لسمعتم في دمي أصوات من راح

زراعة القلب تشفي بعض من عشقوا وما لقلبي إذ أحببت جرّاح

مآذن الشام تبكي إذ تعانقني وللمآذن كالأشجار أرواح

للياسمين، حقوق في منازلنا.. وقطة البيت تغفو حين ترتاح

طاحونة البن، جزء من طفولتنا فكيف ننسى وعطر الهيل فوّاح

عاشت كلماتك دوماً.. يا سفير الحب والجمال والجراح.

منى مدكور

Email