في الظلام تتسعُ عينُ الصوت.. وتبتكرُ الأيدي طريقها نحو الوصول بتحسُّس المكان.. وفي الليل الْمُسلَّط عليهم، عاش كبار الأدباء في العالم في حجرة محددة بحوائط مغلقة على نفسها، لكنها مفتوحة من ناحية السقف، أو بمعنى أدق من ناحية السماء.. ففي ركن بعيد نتابع محاورات هوميروس، شاعر الإغريق الكفيف وصاحب ملحمتي «الإلياذة والأوديسة» الخالدتين، مع أبي العلاء المعري، رهين المحبسين والجامع بين الفلسفة والأدب، ونقتفي أثر غزليات بشَّار بن برد، ودندنات الأعشى.

هذه فقط نماذج من أدباء وشعراء العالم الذين حُرموا نعمة البصر ومُنحوا البصيرة التي أضاءت لغيرهم متعة الحياة بالأدب الراقي، لكن القائمة لا تقف عند ذلك الحد في كل العصور، فهذا هو عبدالله البردوني، شاعر اليمن في العصر الحديث. والقيرواني، والإمام شمس الدين الذهبي. لكن النماذج التي ذُكرت في البداية جديرة بأن تدفعنا إلى دخول عالمهم المظلم شكلا والمضيء مضموناً، والتعرّف إلى ملامح الدروب التي سلكوها عبر سُلَّم الرُّوح؛ ليروا ما لم يره مُبصر.لقد اهتم مؤرخو الأدب بقائمة العميان في الآداب العالمية، فرصدوا معاناتهم وكيفية اختراقهم المجهول الصعب، وامتلائهم بالمستحيل الممكن؛ لذا كانوا علامات فرقة في تاريخ الأدب العالمي؛ ولهذا فإن حياة وأساليب كتابة العميان جديرة بأن تُدرس.

ولا بد من الإجابة عن أسئلة كثيرة، مثل: كيف كانوا يصفون ما لا يرون؟ وكيف توصَّلوا إلى وسائلهم الخاصة للتعلم والإبداع؟ وهل كان الاستماع فقط دربهم إلى التحصيل والاتصال بالعلوم الأخرى؟ هوميروس إنه شاعر الملاحم الإغريقية الخالدة، الذي ما زال مختلفاً حول شخصه، فقيل إن اسمه مستعار، ويُرجَّح أنه عاش في العام 850 ق.م. تقريباً، وآخرون يرجّحون أنه عاصر حرب طروادة المفترضة، التي كانت بين العامين 1184، 1194. لكنَّ هناك إجماعاً من قبل الباحثين على أن مؤلفه الأثير، «الإلياذة»، يعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، وتُعد الإلياذة أقدم النصوص الأدبية الغربية المكتوبة على الإطلاق، ويميل كثير من الباحثين إلى أن هوميروس كان شاعراً متجولا، الأمر الذي يشير إلى أنه كان أشبه بالأعمى الشحَّاذ الذي يغني بين عامة الناس، من إسكافيين وصيادين وخزّافين وبحارة وعجائز، في الطرقات.

وهذا ما يحيّر الكثيرين حتى هذه اللحظة، فهو في نظر البعض أعمى متسوّل، وفي نظر آخرين منشد في بلاط النبلاء، لكن أقليَّة تراه أسطورة غير موجودة أصلا، وهذا ما لم ترض به ملحمة الإلياذة الشعرية، التي تحكي قصة حصار طروادة، والتي تم جمعها بعد وفاة هوميروس على الأقل بـ 100 عام، ولكن تأثير الرجل في الثقافة الإغريقية لا شك فيه، فقد أقرَّ الإغريق أنفسهم بأنه معلمهم الأكبر.

أبو العلاء

اشتهر الملقب ب«رهين المحبسين»، العمى واعتزاله الناس، فقد بآرائه الفلسفية الجريئة، ولم يمنعه فقدانه البصر من تحصيل علوم الأدب واللغة والفقه والشعر والتفسير، بالإضافة إلى معرفته العميقة بالأديان والمذاهب وعقائد الفرق الشيعية- كما يستدل من شعره- علاوة على معرفته بالتاريخ، واعتبره كثيرون مرحلة متطورة من مراحل الفلسفة العربية. وقد عاش المعري زاهداً في الدنيا، لا يأكل لحم الحيوان لمدة 45 عاماً، ولا يلبس من الثياب إلا الخشن، حتى إن زهده بدا واضحاً في شعره حين قال:

من ساءه سببٌ أو هاله عجبٌ

فلي ثمانون عاماً لا أرى عجبا

الدهرُ كالدهر والأيامُ واحدة

والناسُ كالناس والدنيا لمن غَلَبا

بشار والأعشى

ونتوقف لحظات عند بشار بن برد، الشاعر العربي الذي عاش في فترة نهاية الدولة الأموية وبداية الدولة العباسية، والذي كان ضريراً ودميماً، لكنه شاعر شهير بزندقته وتجاوزاته في الهجاء، على الرغم من أن كثيرين أكدوا على أن الرجل كان بريئاً من ما نُسب إليه من فحش، لكن اتهامه بالسكر والتعلق بالنساء وإدمانه الغناء وجلساته، كان كافياً لأن يُضرب بالسياط حتى الموت، فدُفن في البصرة وكانت نهايته في عصر الخليفة المهدي، وكان من الذين اشتهروا من شعراء العرب بالغزل والهجاء الشديدين حتى التطرف.

وكذلك كان الأعشى، الذي اُعتُبر واحداً من كبار شعراء الجاهلية، وقد امتاز عنهم جميعاً بوصفه المتقن للخمر، وهو من أصحاب المعلّقات الخالدين، وقيل إنه أدرك الإسلام ولم يُسلم، وكان يقال عن شعره إنه يُعزُّ به ويُذلُّ.

جون ميلتون

وحين نروح إلى شمال البحر الأبيض، نلتقي بواحد من أبرز شعراء الإنجليز، أو الغرب عموماً، إنه جون ميلتون صاحب القصيدة الشهيرة «الفردوس المفقود»، والتي تعد علامة فارقة في آداب العالم، فهي تحكي قصة الشيطان وهبوط آدم وحواء إلى الأرض.

وقد كان ميلتون نشيطاً في حياته السياسية والدينية، وكانت حياته شريطاً طويلا من المآسي والمفجعات، فقد مات ابنه الأصغر ثم ماتت زوجته في العام نفسه، وحين تزوج من أخرى ماتت أيضاً مع طفلتها الرضيعة، وظل متخبطاً في الحياة إلى أن مات في العام 1674م، وكان من بين آراء ميلتون أن العقل الذي منحه الله للإنسان، تظهر آثاره في القدرة على الاختيار. وقدَّم ميلتون المرأة من منظور ديني، ولم يتعرض لها كجسد أبداً في كتاباته، بالرغم من أن عصره كان مليئاً بالكتابات الحسّية القائمة على الإثارة.

طه حسين

ومن ميلتون إلى العصر الحديث، وتحديداً في 14 نوفمبر العام 1889، وبدقة أكثر نحو جنوب مصر، باتجاه قرية «الكليو» التي تبعد كليو متراً واحداً من مركز مغاغة بمحافظة المنيا؛ حيث كان مولد طه حسين، الكفيف الذي قلب الحياة الثقافية المصرية، والذي تتلمذ على يد الإمام محمد عبده، أحد روَّاد التنوير في مصر، والذي عانى الكثير من ويلات فقدان بصره، فقد أُهين من بعض شيوخه بسبب عاهته، الأمر الذي دفعه ليحصّل ما لم يحصله شيوخه، فكان كثير الجدال، مستخدماً الحجة والمنطق.

وكانت تطلعاته بلا حدود، فسافر إلى فرنسا؛ لتنتقل المعاناة معه بأشكال أخرى، وحصل على رسالة الدكتوراه عن أديبه الأثير والمشابه له في كثير من الظروف، أبي العلاء المعري، حتى إن المفكر المصري أحمد لطفي السيد، أستاذ الجيل، كان كلما خاطبه تجاوز القواعد اللغوية قائلا له: «أنت أبو العلائنا».

وقد حصل طه حسين على دكتوراه في علم الاجتماع، وعلى شهادة دراسات عُليا في اللغتين اللاتينية والرومانية، ثم عمل أستاذاً للتاريخ اليوناني والروماني، فكان موسوعة ثقافية تتحرك على الأرض، حتى إنه اقتسم مع الأديب والمفكر، عباس محمود العقاد، المولود معه في العام نفسه، الحياة الثقافية ومعاركها في مصر، في النصف الأول وبدايات النصف الثاني من القرن العشرين.

الاتصال بالعالم المرئي

يعلق د. مدحت الجيَّار، أستاذ النقد الأدبي بكلية الآداب جامعة الزقازيق، على ماهية وجوهر هذه الحالة، لافتا إلى أن المكفوف في الذاكرة البصرية الإنسانية، قد تعوّدنا أن نراه مصطحباً لشخص يعتمد عليه في الاتصال بالعالم المرئي، فيكون دور هذا المرافق، مساعدة الأديب على التنقل من مكان إلى آخر، والقراءة له، وأن يكون كاتباً لما يُمليه عليه، أو قارئاً لما يود الاستماع إليه، لكن كثيراً من الأدباء المكفوفين حاولوا ابتكار طريقة خاصة في التعامل مع العالم الخارج عن حدود ظلمتهم؛ وذلك بتأكيدهم على أن حاسة البصر التي فقدوها، انتقلت بكل ما فيها من قدرة إلى حاسة البصيرة، وقد أَوردت مصادر أدبية أخباراً عن المكفوفين أكدت أنهم يتميزون بالذكاء الحاد، حتى قيل: «قَلَّ أن وُجد أعمى بليداً».

دار الإعلام العربية