مصارعة الثيران.. تعكس هوية الأسبان

مصارعة الثيران.. تعكس هوية الأسبان

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

سمراء، رائعة الجمال، ملامحها تجمع بن سحر الشرق والغرب، شعرها الأبنوس المموج يطير في كل الدنيا، قدّ ممشوق يزيد ثوبها بلون السماء جمالاً وجاذبية، وذيله الطويل يداعب نسمات أسبانية عندما تبدأ السمراء تدق الأرض بكعبيها معلنة بداية رقصة الفلامنكو الشهيرة، هنا في أسبانيا التي جذبت سياح العالم من أجل سمراء الفلامنكو.

حلبة واسعة مستديرة حولها مدرجات شاسعة تمتلئ بالمتفرجين على الوجه الآخر لأسبانيا. مصارع الثيران ذو القدّ الممشوق، القوي، والعقل الثابت الذي يسيطر على قوى الثيران الشرسة، ليكسب «الماتادور» وهي الكلمة الأسبانية لمصارع الثيران ـ ليكسب الجولة والجولات التالية لها، عندما يصوب السيف بحركة استعراضية في مكان لا يعرفه سواه في عنق الثور، هذه هي أيضاً أسبانيا، بلاد «الفلامنكو» و«الماتا دور».

ومن هنا كانت حكايتها جديرة بأن تُحكى أو ترى، فلك الاختيار، أن تراها رأي العيان كياناً رائعاً وجميلاً وأيضاً مثيراً وأن تقرأها أو تستمع إليها فأطلق لخيالك العنان فلشطحات الخيال سحرها أيضاً.

معاً نحكي، ونقرأ، وربما نستمع لقصة أسبانية جذبت كل العالم، وألهمت كبار الفنانين، ومبدعي الفن السابع والكتاب.

«كوريدا توروس» كلمتان اسبانيتان تعنيان «مصارعة الثيران»، وهي رياضة مثيرة وقديمة، تتم فيها المواجهة بين مصارع الثيران ذي المواصفات الرياضية والجسمية والشكلية الخاصة جداً، وبين ثور في حلبة واسعة مستديرة على مرأى ومسمع من الناس ـ غالبيتهم من السياح ـ الذين يأتون من أركان العالم الأربعة لمشاهدة تغلب الإنسان على شراسة حيوان مثل الثور، ضخم شرس ومتحد.

تعتبر هذه الرياضة الأخطر على الإطلاق بين الرياضات العنيفة، لأنها بين إنسان وحيوان، وخطورتها تكمن في أن مصارع الثيران المتمرس المحنك فيها لا تتوافر حماية من أي نوع لجسمه سوى بدلة رائعة الجمال يصل سعرها لآلاف الدولارات، وهذا الملبس لا يقيه من قرون الثور الحادة الصلبة.

قديماً كانت تسبق مباريات مصارعة الثيران عادة تتلخص في إطلاق الثيران من حظائرها لتصل إلى حلبة المصارعة، ويجري الناس أمامها، وهم يرتدون ملابس حمراء قيل إنها تثير الثيران، ويتسابق الناس أمام الثيران، حتى تصل هذه الحيوانات الشرسة لداخل الحلبة، ولكن هذا التقليد القديم نتج عنه العديد من المخاطر بالناس، فتقلص، ولم يعد يمارس حالياً.

والمشهد الأول داخل الحلبة، التي يحاصرها المشاهدون على شكل دائري في المدرجات ـ هذا المشهد عبارة عن استعراض المصارعين الراكبين على جياد مدربة وآخرين يترجلون، وغيرهم من المصارعين المعروفين بأنهم «صمام أمان» في حالة حدوث خطر مفاجئ من قبل الثيران، فيقوم هؤلاء بتشتيت انتباه الثور عن المصارع ويظل المصارع والثور في حالة مراوغة رياضية، مدروسة كل عواقبها، وكل حركة خطرة خلالها جديرة بحبس أنفاس المتفرجين واتساع عيونهم، وتصفيق هائل مصحوب بكلمات أسبانية أشهرها «تووريه» وهي نوع من التشجيع للمصارع المحنك ذي القدّ الرياضي الممشوق كالرمح المسنون.

وغالباً بنسبة 98% تقريباً يكون الفوز للمصارع بعد ان ينهك قوى الثور والذي ينتهي بغرس سيف حاد جداً في منطقة بعينها وسط عنق الثور، فتشل حركته، ويخر صريعاً على أرض الحلبة معلناً بذلك فوز العقل على القوى الحيوانية الشرسة، فمراوغة العقل لها الغلبة دائماً.

المشهد الأخير، تدخل البغال إلى الحلبة ويكون عددها حوالي أربعة بغال ضخمة وقوية لجر الثور المغلوب والمتأرجح فيما بين سكرات الموت واليقظة، يجرونه خارج الحلبة، ويكون في انتظاره جزارون عمالقة متدربون على تقطيع لحمه وسلخه تمهيداً لبيعه.

سؤال يطرح نفسه بقوة هنا، كيف يتم تدريب المصارع؟ منذ الصغر يتم تدريبه على هذه الرياضة التي تتطلب الشجاعة واليقظة والعقل الراجح والذكاء الثاقب وسرعة البديهة وجمال وخفة الجسم في مواجهة واحد من أشرس الحيوانات وأكثرها مراوغة في القوة، وليس في العقل.

وهناك اختلافات بين مصارعة الثيران في دول العالم، التي تنقسم بدورها إلى ثلاثة أنواع، أشهرها:

ـ الأسبانية، ويبدأ موسم مصارعة الثيران في أسبانيا من شهر مارس وحتى شهر أكتوبر، ويكون «للماتادور» المصارع المحنك ستة مساعدين، يتدخلون من وقت لآخر، وهذه النوعية من المصارعة بهذا الشكل هي الأصل في هذه الرياضة الخطرة، وغالباً ما تنتهي بقتل الثور بطريقة خاصة .

البرتغالية، في البرتغال لا يتم قتل الثور على مرأى من المشاهدين لبشاعة المشهد الذي لا يتحمله الكثيرون، وإنما يتم ذلك على يد الجزار المحترف، وفي حالات أخرى قد ينجو الثور، ويعالج، ولكنه لا يصلح لهذه الرياضة مرة أخرى، ولكنه يطلق في المزارع حتى نهاية عمره، وغالباً يتم استخدامه لاستيلاد الثيران كأجيال جديدة، لا يعرف أحد كيف وأين تبدأ وأين تنتهي.

ـ الفرنسية، ذلك النوع الفرنسي من المصارعة يتم دون إراقة دماء، ويكون فقط على سبيل الترفيه، لا عنف فيه ولا حبس أنفاس أو اتساع عيون، حيث يتسابق المتبارون في انتزاع شيء ما يعلق على رأس الثور الصغير الوديع غالباً.

ولكن الأصل في هذه الرياضة هي أسبانيا، ويوجد بها أكثر من 400 حلبة لمصارعة الثيران، أيضاً هناك بعض أنواع المصارعة في أميركا اللاتينية. وأكبر حلبة مصارعة ثيران في العالم توجد في برشلونة بأسبانيا وتتسع لحوالي 55 ألف شخص، ويقتل فيها قرابة 500 ثور سنوياً.

وماذا عن العالم العربي؟

يوجد نوع مسالم من مصارعة الثيران ولكنه مختلف تماماً، فالمصارعة تكون فيما بين ثورين، ولا تدخل للعنصر البشري فيها، وفي سلطنة عمان وبالتحديد في ولايتي صحار وبركاء تتم تربية الثيران للمصارعة داخل الحلبات الخاصة، وتكون الغلبة للثور الذي يجبر الآخر على الانسحاب منهكاً ضعيفاً.

ويتم إعداد الثيران لذلك إعداداً خاصاً، ويتم العناية بها وإطعامها أطعمة تحفز العضلات وتقوي البدن، ويولي العمانيون أهمية كبيرة لمصارعة الثيران، خاصة في ولاية صحار، حيث تجري المنافسات أسبوعياً تقريباً في مساء كل يوم جمعة، ويحتشد محبو هذه الرياضة حول الحلبة.

توجد تجارب مماثلة نسبياً في الإمارات، خاصة في الفجيرة، وهي من الرياضات الشعبية القديمة التي اشتهرت بها الفجيرة بصفة خاصة، وهي رياضة وهواية مارسها الأجداد منذ زمن بعيد، وتعتبر من الموروثات الشعبية، فضلاً عن التسلية والمتعة.

تحول جديد تشهده رياضة مصارعة الثيران، وهو تحول في الآراء والاتجاهات حولها، فقد رفعت الحكومة المحلية في مدريد رسمياً مصارعة الثيران إلى مرتبة الفن الذي يحميه القانون، وذلك في استفزاز واضح لمنافستها العتيدة برشلونة، والتي بدورها تناقش فرض حظر تام على مصارعة الثيران في اقليم كتالونيا الشمالي.

على حين ينخرط مصارعو الثيران والفلاسفة ورجال السياسة في جدل غاضب ومحتدم حول هذه الرياضة الدموية، والتي تكتسب في الوقت نفسه مرتبة الشعار والرمز. وأعلن «استرانزا أجويري» رئيس الحكومة الاقليمية في مدريد إن مصارعة الثيران ستدرج في قائمة الأشياء ذات القيمة الثقافية الخاصة التي يحميها القانون.

أما اقليما بلنسيه ومرسيه فاعتبر كل منهما ان هذه الرياضة ضمن التراث الثقافي الشعبي الذي يحميه القانون أيضاً، إضافة إلى اعتبار حلبة مصارعة الثيران مثل المباني والآثار التاريخية ومنح منظمي استعراضات مصارعة الثيران إعفاءات ضريبية.

وتوفر مصارعة الثيران في أسبانيا فرص عمل لنحو 200 ألف شخص سنوياً، وربما من هنا فإن تأثيرها هام وفاعل في القضاء على البطالة، ولكن فرص العمل هذه لها شروط خاصة جداً وثقافة متفردة في مجال هذه الرياضة الأسبانية التي يعتبر الأسبان أنها رمز لهوية بلادهم وإرث وتراث، وتدر هذه الرياضة سنوياً عائداً يقدر بنحو 5,1 مليار يورو أي حوالي 2 مليار دولار.

هناك وجه آخر مأسوي بالنسبة للثيران، حيث يقتل سنوياً 12 ألف ثور تقريباً، خلال ما يزيد عن ألفي نزال سنويا، في البلاد التي يحظى فيها مصارعو الثيران بنجومية وشهرة عالمية وثراء يفوق كل ما يحظى به نجوم هوليوود. وفي الوقت نفسه يتزايد الوعي بحقوق الحيوان في هذه البلاد المولعة برياضات تكثر فيها إراقة الدماء، تتراوح فيما بين مصارعة الديوك والثيران ومصارعة الماعز.

وقد أشارت وزيرة البيئة الأسبانية «كريستيانا ناربونا» في الآونة الأخيرة إلى أن مصارعة الثيران تشوه صورة أسبانيا الحضارية في الاتحاد الأوروبي، مقترحة ان تحذو أسبانيا حذو جارتها البرتغال، حيث لا تقتل الثور أمام المتفرجين، ولاقت دعوتها تلك اعتراضات من قيادات الحزب الاشتراكي، الذي تنتمي إليه، حيث دافعوا عن هذه الرياضة باعتبارها ثقافة وإرث أمة، وإن التعليق عليها إعلامياً يكون في صفحات الثقافة وليست الرياضة، متعللين بأنها جزء من ثقافة شعبي.

وماذا عن الفن؟

استحوذت رياضة مصارعة الثيران على اهتمام الكثير من الأدباء والرسامين والمغنين والسينمائيين، ففي العام 1965 خصص المغني الفرنسي الشهير «جان فيرا» لهذه الرياضة أغنية «الحسناوات» وجاء في إحدى فقراتها التي تقول «الموت في المسالخ، الموت في الحلبات».

أما من يطالع سيرة حياة إرنست هيمنجواي الأديب الأميركي الشهير فيجد ان حياته تشبه مصارعة الثيران، فيها المخاطر والمكسب والشهرة، وكان يعتبر هذه الرياضة نموذجاً رائعاً لكيفية مواجهة الإنسان للخطر وتحديه عن طريق الاقتراب منه.

وأقام هيمنجواي صداقات كثيرة مع مشاهير مصارعة الثيران، ومصارعة الثيران هواية جمعت بيكاسو وهيمنجواي على الأقل من ناحية الإبداع الفني، فكثيراً ما عبر بيكاسو في لوحاته عن مصارعة الثيران، ليس فقط لأنها رياضة عريقة، وإنما أيضاً لأنها تتحدى المخاطر.

ويجسد بيكاسو صديقته «دورا» على شكل «مينوتور» أنثى تظهر فيه ذات قرنين ووبر مثل شكل الثور، كما تظهر عشرات اللوحات لبيكاسو أيضاً تظهر المرأة كمصارعة تصارع رجلاً في شكل ثور همجي.

أما الشاعر الأسباني «لوركا» فقد استحضر مشهداً به مصارعة الثيران اذ كان مشدوهاً بفكرة الموت، التي يرى الحياة من خلالها، وكان موت صديقه مصارع الثيران «أجناشيو ميخياس» جرحاً نازفاً في جسد القصيدة المعروفة باسم «بكائيات لوركا» التي جسد فيها الصراع فيما بين الحياة والموت، ومنها هذه الأبيات الموحية برقصة الموت المحمول على أكتاف المصارع:

«ما أعظمه مصارعاً في الساحة

ما أعظمه جبلياً في الجبل

ما أرقه مع السنابل

ما ألطفه مع الندى

ما أبهره في المهرجان».

ونقول إن مصارعة الثيران تراجيديا بين العقل والقوة، بين المراوغة والهمجية، بين الإنسان والحيوان، بين الموت والحياة.

رولان بارت و«الكوريدا»

صدر في مدينة مونتريال بكندا بعد 44 عاماً على تأليفه، كتاب غيرمنشور لرولان بارت، يمدح فيه العديد من الرياضات التي أحبها على مدار حياته، فهو ـ بارت ـ كان شغوفاً بالرياضة، والكتاب بعنوان «ميثولوجيا» أو «أساطير» وركز فيه على رياضة مصارعة الثيران وسباق الدراجات الهوائية والمصارعة الحرة.

يقول عن مصارعة الثيران «الكوريدا» إنها تكاد أن تكون رياضة، ولكنها تعكس الكثير وتتخطى كونها رياضة فقط، فهي أناقة احتفال وقواعد صارمة لمعركة غير متكافئة، معركة بين سيطرة عقل الإنسان على همجية الحيوان، الذي رمز له بقوة الخصم الجسدية، وهي تدخل ضمن العلم والتكنيك وسرعة البديهة، والعقل اليقظ والمسيطر في كل الاتجاهات.

ويشبه الحلبة بالمسرح فيقول «هو مسرح مزيف» لأن الموت فيه حقيقي، لأن هذه التراجيديا المسرحية ذات الفصول الأربعة نهايتها الموت دوماً، وتقدم الإنسان في أفضل حالاته، وهي شجاعة الوعي، وعن الخوف الذي يقبله الإنسان ويتخطاه بحرية، ثم إن الثور لا يعرف الإنسان، بينما الإنسان يعرف ويسيطر على الحيوان.

«الماتادور» الأسطورة

كانت الصورة النمطية الكلاسيكية لأسبانيا، التي شاعت حول العالم خلال فترة السبعينات من القرن الماضي، تتمثل في راقصة الفلامنكو أو مصارع الثيران، فهما وجهان لعملة واحدة، ولكن هذه الصورة تغيرت قليلاً وصارت أكثر حداثة، فهي حالياً مزيج يجمع بين مصارع الثيران وعارضة الأزياء أو مذيعة التلفزيون.

والحقيقة أن أول من زاوج بين العالمين ـ عالم الفن وعالم مصارعة الثيران ـ هو «لويس ميجيل دومينجين»، فقد ارتبط هذا «الماتادور» الأسطوري شكلاً وقوة وبراعة بعلاقات وصداقات مع أشهر نجمات السينما العالمية، ومن بينهن ديبورا كير، لورين باكال، رومي شنايدر. وكان ميجيل مصارع الثيران الكلاسيكي الذي أسهم في خلق صورة الرجولة الأسبانية المعروفة والتي انعكست في السينما الأسبانية. وكانت له صداقات مع سلفادور دالي وبيكاسو والمخرج العالمي أورسون ويلز.

مصارعو الثيران الجدد

هم في الواقع ورثة «الما تادور ـ الأسطورة» لويس ميجيل دومينجين، وأعادو «الماستر سين» الخاص به ولكن على طريقة حديثة، فلهم حضور قوي في الإعلام الأسباني والعالمي، وبالفعل لهم حضور على أغلفة المجلات والإعلانات، ويتكسبون من الإعلانات أكثر مما يتكسبون من الرياضة ذاتها، اذ يبلغ أجر المصارع الشاب حالياً 210 آلاف يورو عن المنازلة الواحدة بينما يتضاعف هذا الأجر في حديث صحافي أو إعلان.

وقد تمكن الجيل الجديد من ان يقذف «أكثر من عصفور بحجر»، فقد تحدى ذاته، والعديد منهم يصارع بمفرده أربعة ثيران في نزلة واحدة، معها يكون الأجر فلكياً. ولقصص النجاح دائماً وجه آخر، ربما مأساوي، هنا يكون الموت صرعاً لثور خانه عقله الحيواني واغتر بقوته الجسدية.

منى مدكور

Email