محمود طه آفاق جديدة لفن الخزف العربي

محمود طه آفاق جديدة لفن الخزف العربي

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

في غالبية الفنون التطبيقيّة، والحِرف والمشغولات اليدويّة، وتزيينات وزخارف العمارة الإسلاميّة الداخليّة والخارجيّة، كان للخط العربي دوره الأساس، في تشكيل بنيتها التشكيليّة والتعبيريّة والزخرفيّة، على اختلاف خاماتها وموادها ووظائفها الاستعماليّة والجماليّة الدلاليّة، ومن بينها لوحات القاشاني التي غطت جدران العمائر الإسلاميّة الدينيّة والمدنيّة، من الداخل والخارج.

وتميزت هذه اللوحات بالجمع الموفق والمنسجم، بين الزخارف والتشكيلات المستوحاة من الكتابة العربيّة، أو المُشكّلة منها، أو المحيطة بها، وهي ذات بريق معدني مُلوّنة بالأزرق والفيروزي والآجري والأبيض، وغيرها من الألوان التي ارتبطت بهذا النوع من الفن العربي الإسلامي التي جاءت زخارفه وتشكيلاته، مستويّة مع الخلفيّة، أو تبرز عنها بنفور بسيط. وهو ما تنفرد به تجربة الخزاف الفلسطيني محمود طه بجملة من الخصائص والمقومات، تجعل منها حالة جديدة ومتميزة، على صعيد فن الخزف الذي كان ومازال، يُنسب إلى الفنون التطبيقيّة، وتغلب عليه سمة الوظيفة الاستعماليّة التي تصعدت كقيمة خلال مراحل تاريخيّة لاحقة، لتعانق قيمة أخرى جديدة، بدأت زخرفيّة تزينييّة، ثم تطورت إلى قيمة جماليّة تعبيريّة، ربطت هذا الفن بإحكام، بفن قديم وعريق مارسه الإنسان مبكراً هو فن النحت.

حيث ظهر ما يُعرف ب(الخزف الفني التعبيري) وهو ما يمكن أن نطلقه على الأعمال التي ضمها معرض الفنان طه الأخير في صالة الشعب للفنون الجميلة بدمشق والذي أطلق عليه عنوان (المقامة العاشرة ورق وطين وذاكرة 2).

ضم المعرض 50 عملاً فنياً بينها 28 عملاً منفذاً من الخزف، و22 لوحة نافرة منفذة بالاستعانة بالحاسوب، تحمل خصائص فنه وتجربته بالكامل، إن لناحية الأشكال والعناصر والمفردات المستخدمة في بنائها وصياغتها، أم لناحية مضمونها ودلالاتها.

أما أعمال الخزف فتنقسم إلى فئتين: الأولى جاءت على هيئة صمديات (كتلة في فراغ) دائرية الشكل أو مستطيلة، والثانية على هيئة صوانٍ دائرية وشبه دائرية معلقة أو مستلقية، تلتقي مع الخزفيات الأخرى بالصياغة والعناصر.

بمعنى أن ثمة وحدة محكمة، في الشكل والمضمون تسيطر على أعمال الفنان محمود طه ؛ شكلت تجربة محمود طه الفنيّة عموماً، إحدى العلامات البارزة، في التشكيل العربي المعاصر، وكانت ولا تزال، في مقدمة التجارب المسكونة بهاجس التوفيق المقنع والمُعبّر، بين تراث وطني وقومي عميق وثر وأصيل، وبين معاصرة مفتوحة على الجديد دوماً.

الصمديات الفراغيّة

ضم معرض الفنان طه الأخير 13 قطعة خزفيّة صمديّة فراغيّة تمثل أحدث نتاجه الفني، وهي على شكل دوائر ومستطيلات مثبتة على حامل، ومشغولة من وجه واحد. الدوائر تلتقي مع باقي الخزفيات من حيث المعالجة، إذ يجمع فيها بين التشكيلات الهندسية المجردة، والمشخصات (قبة الصخرة، قباب، مآذن، وجوه، بيوت) وبين الحروف والكلمات العربيّة التي يتقن تخطيطها والتعامل معها وتوظيفها في معمار عمله الفني المجسم والمسطح الذي يحرص على التنويع في ملمس ودرجات ألوان عناصره، بهدف تحريكه وإغناءه تشكيلياً .

وتعبيرياً، وفي أحايين كثيرة، يقصره على لونين ومشتقاتهما (بني وأخضر، أزرق وأحمر، أزرق وأخضر) مع التأكيد على تداخلهما عبر النصوص والكلمات والزخارف التي تأتي كثيفة وحاشدة أحياناً، وقليلة مدروسة، أحياناً أخرى.

هذه الخصائص والمقومات مجتمعة، تنسحب على الأعمال الخزفية الأخرى في المعرض والبالغ عددها 15 قطعة دائرية وشبه دائرية، مسطحة أو محدبة، مركونة على حوامل لتُشاهد من أعلى، ويمكن أن تثبت على الجدران كمعلقات، أو كدراسات للوحات جداريّة كبيرة.

نافر ومجسّم

في عدد قليل من أعمال الخزف، مزج الفنان محمود طه بين النحت النافر والمجسم، عندما فرّغ مربعات ومستطيلات على شكل نوافذ وأبواب، في القطع المستطيلة الناهضة في الفراغ. مانحاً إياها سماكة كافية لاحتضان كرة معلقة من أعلى بخيط، وقابلة للحركة، أو مثبتة ضمن الشكل المفرغ، وعليها إنسان، أو يقوم بإشغال هذا الشكل، بكتل لأجساد إنسانيّة مشغولة بشيء من التبسيط والتلخيص والتجسيم، سبق لنا ورأينا شبيهاً لها، في عدد من الأعمال المسطحة.

أما اللوحات المنفذة بوساطة الحاسوب بسطوح نافرة وغائرة، وملامس متنوعة، وألوان متدرجة، فهي لا تختلف عن الأعمال الخزفيّة كعناصر وألوان وصياغة، مع سطوة واضحة لملمس القماش الخشن (الخيش) على غالبية عناصرها، وغياب اللمعة الخزفيّة عنها.

خصائص ومقومات

المنجز الفني لدى محمود طه، مشغول بعناية ودراسة وتوافق كبير بين عناصره المشخصة والمجردة والكلمات والنصوص والألوان. فكل شيء لديه موضوع في مكانه، ويؤدي دوره المطلوب، إن لناحية الشكل أو الدلالة، ما أسعفه بالخروج بتكوينات قوية ومحكمة تحتضن أطيافاً كثيرة، من الموروث الفني العربي الإسلامي (لاسيما منه الخزف والقاشاني) .

وبأطيافٍ أخرى، تحتضن حداثة فنيّة وفرتها له، دراسته الأكاديميّة، واطلاعاته ومتابعاته للتقانات الخزفيّة المعاصرة التي استفاد منها ووظفها ببراعة في منجزه الفني، مع ملاحظة هامة ورئيسة، هي غياب مفاجآت فرن الخزف عن أعماله.

وقدرته المتميزة، على تدريج اللون الواحد من الفاتح إلى الغامق، وخلق تأثيرات رائعة للظل والنور، في المساحة اللونيّة التي يقاربها كثيراً، باللوحة المشغولة بالفرشاة، الأمر الذي جعل منجزه ثراً وغنياً وحاملاً لخواص ومقومات فنون كثير منها:

اللوحة، والمحفورة، والمنحوتة، وقطعة الخزف، ولوحة المينا، والقاشاني، ولوحة الخط العري، والسجاد، والأرابيسك، والإعلان، ما يؤكد اجتهاده، وسعة إطلاعه، وسطوة هاجس البحث والتجريب عليه.

ما كرس الروح التراثيّة في تجربة الخزّاف محمود طه، وربطها بإحكام بالفن العربي، مادة الخزف، ومزاوجته الموفقة، بين الخط العربي (الذي يُتقن كتابته بشكل جيد) والأشكال الهندسيّة والهيئات المشخصة الإنسانيّة والمعماريّة، وتنويعه المدهش، في ملمس العناصر والأشياء في لوحاته المسطحة ومجسماته على حد سواء، مع الاستدراك والتأكيد، على أن الخط العربي، شكّل في غالبية أعماله (إن لم نقل جميعها) البطل المطلق.

فالعبارة أو الكلمة، هي المحور الأساس فيها، عليها وبها، يبني تكويناتها واستناداً إلى معناها ودلالاتها، ينسج فكرتها ومعناها المتمحور حول الجرح الفلسطيني النازف منذ ما يربو على ستين عاماً وحتى اليوم!!.

تقدير

نتاج الفنان محمود طه غزير ومتنوع، موزع في العديد من الدول، كما قام بتنفيذ العديد من الجداريات الخزفيّة، وقد نالت أعماله عدة جوائز وبراءات تقدير؛ هذا الفنان المولود في (يازور) بيافا الفلسطينية عام 1942، والحاصل على درجة البكالوريوس في الفنون (تخصص خزف) من أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد عام 1968، والدارس لأصول الخط العربي وطرزه على يد الخطاط العراقي الشهير (هاشم محمد الخطاط).

محمود شاهين

Email