يجمع غالبية قراء شعر خالد البدور على سطوة الحضور لغربة ما، وربابة موجعة تجر قوس الوحدة والحنين الهادر الذي لا يتوقف عن الجريان وعن كلمات هاربة إلى متاهات الألم، وعن الليل كشاهد كبير ووحيد على اعتلاجات النفس، والباب الذي ينتظر الزوار والنافذة التي تسأل عن قمر، وعن أناس كانوا بالقرب، ثم تغيرت ملامحهم،.

حيث تبقى الصور الشعرية المتوترة تلاحق غيمة كبيرة من ذلك الحنين الذي يبدو جاثماً كجبل أمام شاعر ترقق شعريته مفردات الكلام الحياتي بعيداً عن الكلفة والتصنع، في حالة تشبه اعترافات طفولية بريئة، وتتوضع بمنوال تقص نافذ عبر مسبار دقيق لروح طائر محلق في الفضاء، ليشرف معها على قراءات جمل الوجود وتضاريسه الوعرة.هي لغة شاعرية، تختزل السرد الشعري ابتغاء نيل ذلك التوتر الحساس في الصورة الشعرية التي تتجلى في مفردات قليلة لا تثقل كاهل المتلقي، بل تستقبله استقبالاً دافئاً لترحل به بين مسافات الليل في الأمكنة التي يختارها. إنها روح شاعر يقرأ الأزمنة والتحولات والتبدلات ليرصدها ويسجلها. يقتنصها قنصاً بريئاً، لا توحش فيه.

تلك هي ميزات وخصائص شعر خالد البدور الذي يقول عنه الشاعر نوري الجراح: «أشياء الغياب من فقد وموت وتلاشٍ وفراغ هي ما يحرك المشاعر الدفينة المتلاحمة في شعر خالد البدور، يختزل هذا العالم في أشيائه الأساسية التي يتكون منها.

فالغياب يحضر هنا بمعنييه الفلسفي والحسي لشاعر تنبهت حواسه لتنشغل بفكرة الزمن عن طريق تعمقها بذكريات تحولت إلى تهيؤات، فبات استشعارها والانشغال بها منجم الشعر، ومانحه الطاقة، على رغم ما ينبض فيه من أشواق لنيل السلام، في ما يمكن لمسه من أشياء الوجود والأمل».

«بدوي

يرحل خالد البدور في هذه القصيدة مستنجداً بشيم الرجال الأوائل، ببساطة العيش والقلوب الصافية، بالصحراء الفضاء الممتدة تحت القمر، المكان السانح لعيش الحرية والانطلاق، بالحادي والشدو الجميل، برائحة القهوة المرة الآتية من جذور التاريخ التليد وزمن الشعر الحقيقي، ماداً حبال الذكرى إلى ذلك الزمان الجميل، الزمان الوطن، بساطة وحكمة وخيمة شعر ونخيل وقمر وحب عذري، مقابل كل ما جلبته المدينة الحديثة وسطحت واستحلت الإنسان لإنفاذ وتحقيق أغراضها المادية الصلبة الجافة.

وخنقته بين بناياتها الشاهقة وأرصفتها التي لا تتعامل معه إلا كرقم، تعويض استعادي عن هدير المدينة الحديثة الثقيل، وعن عزلة الإنسان فيها واغترابه، فالمدينة الحديثة جاءت بأشيائها الجديدة المستوردة، حتى الوجوه تم استيرادها، وما عادت رائحة القهوة العربية تفوح من بعيد..

لهذا يبحث البدور في كثبان الحنين عن تلك الصور الحياتية التي لازالت شرايين قلبه تطبع ملامحها فوق جدرانه، ولازالت تطارده وتسكنه، ويقلقه غيابها عن الحضور. إن شفافية الشاعر ورهافة إحساسه تضغط بقوة عائدة به إلى تلك المدينة البكر التي لم تشوهها الرياح الجديدة، ووجوه الغرباء:

«برياح عشاق سروا

وجفت على ذيك البقاع

آثارهم

لا ما دروا

كيف الزمن بيمر

لا ما اسألوا

عن لون باكر

خلف السراب

وين انزلو بآبارهم

ماتت حكايات كثيرة بعدهم

وما احد بقى منهم

يقول السالفة

اسمع

طويلة قصتي.. قصة رياح الشوق

في روح بدوي».

يعبر الشاعر خالد البدور عن إرهاصات قطاع كبير من جيل عاصر الانفصال عن جذور هويته، وهو المأزق الكبير الذي تعاني منه الشخصية «الإماراتية» على وجه الخصوص وربما الشخصية «الخليجية» على وجه العموم، فالمنطقة تعرضت لموجة مدنية عارمة اقتلعت حضور التفاصيل الحياتية والمكانية وغيبت ملامحها، مثلما بدلت سلوكيات وغيرت عادات،.

بل بدت شراسة سطوتها في التغيير واضحة في تشويه الثقافة الأصيلة، إنه اقتلاع قاس ومؤلم، تناولته الدراسات الخليجية كثيراً، لكن قليلاً من الشعراء كرسوا تجربتهم الشعرية حديثاً حولها، وخالد البدور يمثل أحد هؤلاء الذين اعتنوا بحيثيات تلك القضية.

حيث لم تنفصل قصيدته عن هذا الهم الكبير، ويتجلى ذلك واضحاً في القصائد الأخيرة، إذ يبدو الشاعر، وعند هذه المحطة التاريخية من عمر مسيرته الشعرية، أكثر انغماساً في التأمل والانتحاء نحو فلسفة الجرح الذي أصبح مزمناً.

خالد ونجوم

في «مطر على البحر» الذي يضم قصائداً باللغة العربية، نتلمس حكايات الجرح نفسها، لكن تتسلل إليها كثير من التأملات في الطبيعة والحياة، هنا ينجز الشاعر لمساته الجمالية في ما حوله، أيضاً سيحضر الليل، لكنه ليل أجمل، سيحضر البحر لكنه أصفى، ستحضر بيروت مثلًا، ومحطات في البعيد عبر أسفار الشاعر.. هنا يبدو الشاعر كونياً في تعاطيه مع بوحه الشاعري:

«الرنين يأتي

من نواقيس الكنيسة

حيث أقف

مستظلًا بالأشجار العالية

ورذاذ المطر

يقطر من معطفي

تمر الغيمة الداكنة

ضوء بارد لشمس أيار

ولمعان الأوراق المتساقطة

لأشجار بخور مريم

فوق الممرات الحجرية».

قيل عن خالد البدور إنه شاعر اللحظة، إذ تبدو تلك الالتقاطات وكأنها صيد صقر، سريعة ومفاجئة تنبثق فيها تألقات الشفافية عالية ناضجة، التقاطات تلتصق بالبراءة، فنادرة هي تلك الضربات الشعرية الشرسة.

وتغيب من قاموس المفردات تلك الثورية التي نتلمسها عند شعراء آخرين. فهنا شيء من النسك، شيء من الزهد يمكن التقاطه في مسارات البوح الشعري:

«سأقودك صوب الأعماق

أعماق الوديان

سأخوض بك أرجوان المياه

أنت أخف من ريشة

سألقيك فوق يدي

أعوم بك حتى الشلالات

وهناك حيث ينهمر اللؤلؤ السماوي

سأقف بك طويلاً

حتى نغرق في الضحك

معاً».

تقف شاعرية خالد البدور في المقدمة مع عدد لا بأس به من شعراء الإمارات الذين قادوا القصيدة الحديثة إلى الساحل ورفعوا رايتها في ميدان كبير تنتصب فيه راية الشعر الكلاسيكي.

في الثمانينات كان خالد البدور وزوجته الشاعرة نجوم الغانم والشاعر أحمد راشد ثاني وصحبة أخرى من الشعراء المجددين، يخوضون حرب مواجهة مع ساحة شعرية استصعبت تقبل قلب موازين الشعر وثوابت القصيدة الكلاسيكية، فكان الشاعر واحداً من الذين مارسوا الكتابة عبر الصحافة المحلية دفاعاً عن القصيدة الجديدة، وتوجت جهوده بنيله جائزة يوسف الخال للشعر في العام 1992.

شاعر مهجوس بالهوية

في الآونة الأخيرة أطلق الشاعر خالد البدور ديوانيه الشعريين: «مطر على البحر»، و«مثل المرايا في الظلام» الذي أتى بالعامية، ورغم هذا الانتقال إلى الخاص، فإنه لا يبرح عن اشتغالاته ذاتها في تلك الميزات التي ترسم ملامح شاعريته. الجديد في الإصدارين بعد «ليل» 1992 و«حبر وغزل» 1999 و«شتاء» 2002، هو الذهاب عميقاً في الاعتلاجلات ذاتها، والاستبحار الذي يتأجج فلسفياً، في الليل ذاته، والحنين ذاته، والمرأة ذاتها.

ورحلة الطائر المسافر في الأمكنة بحثاً عن بقايا الزمن والناس والوجوه الجميلة، رحلة البحث عن الأهل الذين كانوا يسامرون قمراً ويعتلون أسنمة القوافل، ويروضون موج البحر على شطآن فضية تختزل صور الطفولة وأحلامها.. وربما نرى البدور يذهب إلى العامية للمرة الثانية في ديوانه الجديد «مثل المرايا في الظلام»، للاعتراف بتلك الانشغالات.

وهي، إن لم نكن متطفلين كثيراً على منبع تلك الشعرية التي يحكي عنها نوري الجراح، فإننا نتجرأ لنقول إن البدور يدور حول نقطة حساسة مقلقة، مصدرها محاولاته للإبقاء على شيء من ملامح هوية تسربت بين يدي جيله، مكانه، وناسه، أرضه، وطنه، والتي يرى في وجهها الصافي الحقيقي، التغير والتبدل، وإذا ما ذهبنا إلى الواقع الاجتماعي الذي طرأ على مجتمع مثل المجتمع الإماراتي، كنتيجة حتمية لتأثيرات النقلة الاقتصادية بعد النفط،.

ورياح العولمة التي اجتثت هوية الناس والأمكنة من جذورها، وقذفت بها إلى هوة الهامش، فإن البدور حين يفتش عن بيوته الرملية التي بناها في طفولته برمل تلك الشطآن الفضية في مناخ من السكينة والأمان، فإنما يفتش عن زمن جميل كان للحب فيه طعم فلسفي آخر.. وفي قصيدته العامية «بدو»، نجده يعترف على نحو خاص:

«وجهي بقايا من بقايا

لي مضوا

كانوا بدو

وكانن على ظهور المطايا

يغزلن حزني

بنات الفجر واللوعة

سدو..

كنت الطفل

معجون من تمر وعسل

صوتي تغاريد الصباح

وحلمي الصحراء الفسيحة

وصوب آبار أجدادي البعيدة

شدوا الرحال

وابتدت من فجر تاريخ البدو

قصتي».

مرعي الحليان