التاكسي.. «حدوتة عالمية»

التاكسي.. «حدوتة عالمية»

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

التاكسي ليس فقط وسيلة مواصلات ربما تشعر الإنسان بآدميته وأيضاً بأنه «مقتدر» على دفع قيمة «التوصيلة»، وليس فقط وسيلة انتقال من مكان لآخر داخل العواصم الكبرى وعلى طرقاتها السريعة، وإنما هو أيضاً رحلة في قلب المجتمع، عن طريق ثرثرة السائق مع «الزبون» حول أوضاع المجتمع والسياسة والاقتصاد العالمي وأخبار النجوم ومسلسلات رمضان، وارتفاع الأسعار «اللي ولعّت»، جميعها موضوعات يتناولها السائق في حديث مع «الزبون» الذي هو بدوره مثقل بهمومه الشخصية، وتفاصيل يومه المتكررة.

التاكسي في حد ذاته «حدوتة عالمية»، لكل بلاد العالم تاكسيات تعتبر رمزاً لهذه البلاد، ولسائقيها حكايات وحكايات منها المفرح ومنها شديد القسوة، معاً نجوب بعض عواصم العالم لنتعرف عن قرب على عالم التاكسيات، فهو عالم سريع الحركة يسير على عجل أو بالعامية المصرية «أربعة هوا» نسبة لشحن إطارات التاكسي بالهواء والحفاظ عليها سليمة آمنة. في الزمن الجميل الشامخ بناسه، والأنيق بكل مفردات الحياة، كان التاكسي في مصر جزءاً من جماليات هذا الزمن، فكان من طراز أغلى وأفخم السيارات، وللسائق زي خاص يرتديه خلال ساعات عمله، وكان يعمل بالعداد «الميتر»، والجميل انه في نهايات الشوارع التي تنتهي بميدان متوسط الحجم به موقف يستوعب أربع سيارات تاكسي لامعة نظيفة، ينثر فيها العطر تنتظر سكان الحي لتوصيلهم.

والطريف أن السكان وأصحاب التاكسيات هذه نشأت بينهم صداقة ومودة، فكان «البك» يستخدم التاكسي في حالة عطل مفاجئ في سيارته الفارهة، وبكل جمال وتواضع يركب بجوار السائق رغم أناقته «البك» خاصة عندما يضع «قرنفلة» حمراء في عروة البدلة، وتدور أحاديث بأسلوب راق لا تزيد على السؤال عن الأسرة وأحوال الأولاد وصحة «الهانم». وكانت جميع سيارات التاكسي في العاصمة المصرية باللون الأزرق الداكن بخطوط تحدد الأبواب وشارة بيضاء فوق التاكسي مكتوب عليها «تاكسي» بالعربية والإنجليزية. ذهب الزمن وجماله وشياكة تعاملاته، وانعكس ذلك على التاكسي ـ مثلما انعكس على كل شيء آخر ـ فيتغير الزمان معه بتغير الناس ولغة الحديث وموضوعاته. العام 1992 شهد تحولات في تاريخ التاكسيات في مصر مثلها مثل العديد من تحولات أخرى، فقد تم إنتاج أول سيارة مصرية في مصانع القطاع الخاص، حين تم انتاجها في المصانع الكبرى بمدينة السادس من أكتوبر، وهي على غرار السوزوكي سويفت، وخصصت هذه النوعية من السيارات للتاكسيات، أو كما يطلق عليها في الشارع المصري «سيارات الأجرة».

وتوالت الحدوتة المصرية في صناعة وتجميع السيارات، ومنها المخصص للتاكسي، فقد دخل أحد كبار المستثمرين من رجال الأعمال المصريين في مصر بتجميع موديلين من السيارة الفرنسية «ستروين» وتخصيصها في خدمة التاكسي. وظل التاكسي في مصر حدوتة صناعية بين الارتفاع والانخفاض مما أثر سلباً وإيجاباً على هذه النوعية من المواصلات، وفي حالة ركود سوق التاكسي ظهر في مصر وسيلة مواصلات أخرى تعرف بالميكروباص الذي يتسع لحوالي عشرة أشخاص، يجوب المدينة المصرية وضواحيها. ولكنه وسيلة ربما تخدم شرائح معينة من طبقات المجتمع، فلا يمكن «للبك» السابق ان يركبها بعد ان ودع سيارته الفارهة التي انتهت عند أحد تجار الفواكه أو معلمي اللحوم «ملك اللحمة» كما يطلق على نفسه تفاخراً بثروته «البقرية»! ولكن لابد وان تعتدل كفة الموازين المقلوبة مرة أخرى، فدوام الحال من المحال و«العهدة على المثل»!

فقد ظهر في العاصمة المصرية ما يعرف بتاكسي المدينة وهو خدمة خمس نجوم، أصفر اللون، نظيف يعمل فيه نخبة من السائقين يتبعون لشركات كبرى، لا يدخلون في أحاديث فرعية مع الزبون الذي غالباً ما يكون من سلالة الزمن الجميل، أيضاً تاكسيات الليموزين التي تعمل في الفنادق والمطارات يمكن ان يطلبها «ولاد الناس بتوع زمان» عن طريق رقم خاص ليوصلهم الزمالك، حيث نادي الجزيرة الذي يضم الطبقة البرجوازية التي كانت.

ومع ظهور موجة العشوائيات، ظهرت وسيلة مواصلات تتمكن من الدخول في أزقة العشوائيات، يقودها صبية لا تتجاوز أعمارهم الخامسة عشرة، بكل ما يمتلكون من جنون وعشوائية يسيرون «يخبطون» في خلق الله، رافعين شعار «اللي عاجبه يركب»!

هذه الظاهرة المواصلاتية تعرف «بالتُك تُك»، وعلى هامشها قفزت بالعشوائية ذاتية ما يعرف باسم «ثقافة التُك تُك»، فالسائقون يضعون شرائط كاسيت هابطة يتراقصون أثناء القيادة على موسيقاها المتدنية، وفجأة يظهر متحدث «عشوائي الصوت واللهجة والثقافة» يلقي محاضرة في أي شيء لا يتقنه وعلى الركاب ان يصبروا.. فالصبر طيب، وهو أحسن دواء!

دائماً وأبداً لابد ان يتغير الحال، بالنسبة للمتفائلين يكون للأفضل، سرعان ما ظهر مؤخراً تاكسي حريمي للنساء فقط تقوده «سواقة» محترفة ولكنها «بنت بلد» تتباهى بالتاكسي ذي الألوان الهادئة التي تحاكي ألوان الطيف.

ولأن الجدل لا يكف في العواصم الكبرى، خاصة في عالمنا العربي، فقد كان التاكسي «الحريمي» هذا «حديث المدينة» بين رافض ومؤيد، الرفض يستند على غرابة الظاهرة وتحجيم المرأة ليكون لها مكان حريمي جداً، مثلما يحدث في مترو الأنفاق مثلاً، والمؤيد يستند على إنه احتراماً للمرأة وخصوصيتها، ودائماً لا يفسد الخلاف للود قضية!

وفي العالم العربي ـ وخاصة في منطقة الخليج ـ للتاكسيات حكايات فمعظم سائقيها كانوا من الباكستانيين أو الهنود، بعضهم لا يتقن سوى الأردو، ولكن بمكوثهم في البلاد تمكنوا من التقاط كلمة هنا وكلمة هناك..

وفي النهاية «سير سيدا رفيج»!

وللمتغيرات بصمتها، فتاكسيات منطقة الخليج حالياً تتبع شركات كبرى، أيضاً تاكسيات سبع نجوم تصطف بأناقة أمام مطار دبي تعكس الأناقة وحلم الثراء والأبهة، والذين يسعدهم الحظ ويسافرون على متن الطائرات في الدرجة الأولى ودرجة رجال الأعمال يتلقون خدمة مجانية، يقدمها المطار العملاق المتميز جداً لخدمة «السعداء»!

تاكسيات نيويورك الصفراء، والتي يطلق عليها بالأميركية كلمة «كاب»، وهي مختلفة الأحجام من سيارة صغيرة إلى فان للرحلات والمتنزهات، ففي مدينة ناطحات السحاب بكل أحيائها ومستويات سكانها الذين يسهرون للصباح تكون خدمة التاكسي خدمة على مدار الساعة، سواء التاكسيات التي تجوب المدينة، أو تلك التي تطلب عن طريق كبريات الشركات، فالمدينة الكوزموبوليتان لابد وأن يكون سائقوها «كوزمو بوليتان» أيضاً يتقنون العديد من اللغات الحية.

فالتاكسي في الولايات المتحدة جزء من نسيج البلاد، فهو يعكس ـ التاكسي ـ تاريخ الولايات المتحدة لأكثر من قرن تاريخ اجتماعي وسياسي واقتصادي وأيضاً فني، وكأن التاكسيات الأميركية الصفراء والفضية تعكس تحولات الولايات المتحدة في كل الاتجاهات وعلى كل المستويات.

ولأن ولاية نيويورك لها خصوصية وطابع خاص يختلف عن الولايات الأخرى من حيث استخدام المواصلات العامة، حيث لا يستخدم الأميركيون سياراتهم وسط الزحام في أوقات الذروة للمحافظة على هدوء أعصابهم وحفظها لما هو أهم من مفردات اليوم «التافهة»، فإنهم يستخدمون التاكسيات والمواصلات العامة كالقطارات ومترو الأنفاق، وهما من معالم مدينة نيويورك، فيوجد أكثر من عشرة آلاف سيارة أجرة تشغل شوارع مانهاتن، ويعود تاريخ وجودها في المدينة إلى العام 1907 عندما قرر رجال الأعمال النيويوركي «هاري آلان» إنشاء أول شركة لسيارات التاكسيات مع عداد لضبط أجرة المسافات حسب الميل الواحد.

والتاكسيات في الولايات المتحدة الأميركية وكندا والدول الأوروبية مراقبة من قبل الأقمار الصناعية، بفضل جهاز لتحديد موقع السيارة ومجهزة بزر موصل إلى مركز الطوارئ، وتدخل سريع وجاد للتحرك السريع جداً في حال وقوع أي مشكلات. بالإضافة إلى أن هذه التاكسيات رفيعة المستوى محكمة المراقبة مجهزة أيضاً بأجهزة لذوي الاحتياجات الخاصة ولكل الأعمار، ومجهزة كذلك بطرق خاصة جداً لكبار السن.

ومن جماليات التاكسيات في ولاية بريتش كولومبيا بكندا أن لون الزي الرسمي لسائقي التاكسيات هو اللون نفسه لسيارة التاكسي المزودة بتقنيات عالية وكاميرات مراقبة لحماية كل من السائق والركاب، وهي غالباً من طراز «شيفروليه ماليبو» و«تويوتا كامري»، أما مونتريال ذات الطابع الفرنسي المدلل فتاكسياتها متوسطة الحجم مزودة بكل وسائل الأمن والأمان وأيضاً لمسة من اللمسات الفرنسية، فبها ثلاجة «ميني فريدج» «للسوفت درينكز»!!

وغالباً ما تكون السيارات من طراز الرينو، وهي واحدة من أشهر السيارات الفرنسية.ألمانيا وبلجيكا والوسط الأوروبي بصفة عامة معظم التاكسيات تكون بالطلب عن طريق الشركات العملاقة التي تديرها، والسائقون يتقنون ما لا يقل عن ثلاث لغات.

ويلاحظ في هذه المدن الأوروبية أن التاكسيات متوسطة الحجم مزودة بكل وسائل الأمان والأجهزة التي يحتاجها ذوو الاحتياجات الخاصة، بالإضافة لخدمة توفير طبيب وممرضة من قبل شركة التاكسيات المتعددة في حالة نقل الحالات الحرجة، أو الوضع إلى المستشفيات.

جميع التاكسيات في العالم المتحضر محظور فيها التدخين والمشروبات الكحولية وحملة السلاح الأبيض.

في اليابان تتسم التاكسيات بألوان ساخنة كالأحمر والبرتقالي والبنفسجي الداكن والأصفر الميتاليك لجذب الركاب، وفي المساء تشع هذه الألوان بريقاً ليقع في عيون كل من يحتاج لتاكسي في الساعات المتأخرة من الليل، وخاصة في مواسم الأمطار والثلوج، ومعظم التاكسيات في اليابان من طراز التويوتا كمفورت والنيسان كادريك، مجهزة بأجهزة أمنية وكاميرات، ومؤخراً ظهرت في اليابان والصين تاكسيات باللون الأخضر يرمز لبيئة صحية.

وماذا عن مدينة الضباب لندن؟

تاكسيات انجليزية تعكس الكلاسيكيات البريطانية المعروفة للعالم كله، وهي تاكسيات متوسطة الحجم جميعها باللون الأسود اللامع، تشق الضباب اللندني بكل وقار وهدوء.

ولسائقي التاكسيات نقابات خاصة بهم في معظم بلاد العالم، تكفل حماية لهم من المرض والعجز والفقر، بالإضافة لمعاش ثابت يصرف لهم في سن التقاعد.

وفي عالم سائقي التاكسي ظهرت مؤخراً مفارقات كثيرة، مرتبطة بالأوضاع المتدنية للاقتصاد العالمي، فنسبة 2% من تعداد سكان فانكوفر وتورونتو ومونتريال وبون وبلجيكا، يعملون في هذه المهنة، وهم حاصلون على درجتي الماجستير والدكتوراه في التخصصات الدقيقة.

وذلك بسبب كساد سوق العمل على امتداد العالم كله، ولكن النصف الممتلئ من الكوب لدى هؤلاء المثقفين والمتخصصين والحاصلين على أعلى درجات العلم، هو المؤشر المهم في هذا الإطار، فهم مثل النهر العملاق إذا ما وصل لطريق سد في مسيرة جريانه فلابد له وأن يجد لنفسه روافد هنا وهناك.

نحتاج في عالمنا الثالث المزيد والمزيد من الثقافة المجتمعية، ولا نبدأ حياتنا من الأعلى، فالإنسان جزء لا يتجزأ من بنائه التربوي والثقافي والمعرفي بوجه خاص.

وماذا عن التاكسي في الفن السابع؟ في العديد من الأفلام المصرية والعربية لعب التاكسي دور البطولة، ومن أهم هذه الأفلام فيلم «تاكسي الغرام» من بطولة كارم محمود وهدى سلطان، التي غنت فيه أغنيتها الشهيرة «يا تاكسي الغرام يا مقرب البعيد.. يا طاير من غير جناحين ولا السكة الحديد».

وفيلم «ليلة ساخنة» بطولة نور الشريف ولبلبة، من إخراج عاطف الطيب من إنتاج عام 1996، تدور أحداثه من خلال سائق التاكسي نور الشريف ليلة رأس السنة في جمع مصاريف العلاج لوالدته المريضة، فيقابل أثناء عمله امرأة تسعى لترميم منزلها المتهالك من خلال شغل غير شريف، تنتهي بهم الأحداث بمقابلة جماعة إرهابية معهم حقيبة نقود تحتوي على مبلغ بالملايين، تصبح من نصيبهما، بعد التبليغ عن الجماعة وتسليم الحقيبة التي لهم نسبة من المال الموجود بها.

وفيلم «على جنب يا أسطى» بطولة أشرف عبدالباقي وروجينا وخيرية أحمد وأحمد السقا، من تأليف عبدالرحيم كمال ومن إخراج سعيد حامد.يعكس الفيلم حياة سائق التاكسي صلاح الذي يقوم بدوره أشرف عبدالباقي ذو الأخلاق الحميدة وطيبة القلب والرضا ويعاني من ظروف مادية صعبة لذا يقوم بالعمل ليل نهار، يعكس الفيلم من خلال التاكسي نماذج مختلفة من المجتمع المصري، والمفارقات المضحكة والمحزنة، يعتبر من الأفلام المهمة والمميزة في السينما الحديثة.

«أرض الأحلام» من بطولة سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة ويحيى الفخراني والعملاقة الراحلة أمينة رزق، يلعب التاكسي فيه دور مهم في تنقلات فاتن حمامة «راوية» في ليلة رأس السنة وسط أحداث مربكة بالنسبة لها، حيث انها فقدت جواز سفرها التي لابد من سفرها فجر اليوم التالي لرأس السنة لتلتحق بأولادها في «أرض الأحلام».. أميركا.

التاكسي.. حواديت المشاوير

هناك كتاب بالعنوان نفسه «التاكسي.. حواديت المشاوير» للكاتب خالد الخميسي، الذي ينتمي لأسرة تهتم بالعلم والثقافة وهو ابن الشاعر الكبير عبدالرحمن الخميسي، وكتابه هذا هو الثاني في مسيرته الأدبية، وحقق أعلى المبيعات، لأنه يلقي الضوء من خلاله على أوجاع المجتمع المصري والمتغيرات التي سادت فيه خلال السنوات القليلة الماضية.

فهو مكتوب بالعامية المصرية تسهيلاً على الطبقات غير المثقفة، لتتمكن من الإطلاع عليه والتعرف من خلاله على ما يحدث في المجتمع المصري حالياً، وجميع الأحداث التي جاءت في طيات هذا الكتاب واقعية تحدث يومياً مئات المرات في المجتمع المصري، سمعت بعضاً منها من سائقي سيارات التاكسي الذين يتكلمون بعفوية شديدة، تمكنهم من عرض المشكلات دون رتوش.

وأحداث أخرى غير معاشة ولكنها واقعية تماماً يعرفها الجميع عن قرب خاصة فيما يحدث في الشارع المصري في الفترة من 2005 ـ 2006 وهي فترة قصيرة ولكنها شهدت أحداثاً ومتغيرات سريعة.من أهم كتب الخميسي أيضاً كتاب باسم «سفينة نوح» وهو رمز لفكرة النجاة من واقع قد يصعب التعايش معه مثله مثل العديد من واقع العالم الثالث في مجمله، وتحت الإصدار حالياً للخميسي رواية بعنوان «ثلاثون ليلة وليلة».

والخيط الذي يجمع بين الكتب الثلاثة هو الرصد العام للمجتمع المصري وسط رياح التغيير التي تهب بعنف عليه.

منى مدكور

Email