ميسلون.. العين التي قاومت المخرز..

ميسلون.. العين التي قاومت المخرز..

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

معركة ميسلون ويوسف العظمة صنوان لا يفترقان، الحديث عنهما مترادف فلا يذكر يوسف العظمة إلا وتذكر معه معركة ميسلون التي كانت الفاصل بين العهد الوطني الناشئ وعهد الاستعمار والانتداب الفرنسي والمقدمة لكل الثورات التي تلتها، والتي جعلت الأرض تميد تحت أقدام الغزاة، فكانت أولى الصفحات التي كتب عنها سفر الجلاء وكانت بمثابة نقطة البداية في مواجهة الاستعمار.

يحسب لمعركة ميسلون في ذكراها التاسعة والثمانين أنها كانت البداية لمسيرة نضال طويلة تابعها كوكبة من رجال سوريا الأشداء من كافة طبقات المجتمع وشرائحه وطوائفه،اختاروا الكفاح المسلح طريقاً مسيجاً بالتضحية والفداء والدماء وقدموا أغلى ما لديهم فكان عطاؤهم كالينبوع لا ينضب حتى تحقق الاستقلال والجلاء (17نيسان 1946). كان إنذار غورو المشؤوم الشرارة التي أشعلت نار التضحية والفداء (أهم بنوده تسريح الجيش)، وبما أن يوسف العظمة كان من الرافضين لهذا التسريح. فقد ارتفع نشاطه إلى أقصى درجات التوتر مع الهدوء والتفكير واتخاذ القرارات الخطيرة في الأيام العشرة بين تلقي حكومة فيصل إنذار غورو ويوم معركة ميسلون. وكان الشعور بالخطر كبيراً بين المسؤولين العسكريين والمدنيين وكان الشعب يغلي والشارع تتقاسمه المظاهرات الحماسية، والخطباء الشعبيون يدعون إلى الجهاد وعدم المهادنة، في حين يتردد الساسة لمعرفتهم حدود القوة التي تحتلها الحكومة الاستقلالية الوليدة.

وفي ذلك، يروي أحمد قدري الذي كان طبيب الملك فيصل الأول ومرافقه في مذكراته: «إن يوسف العظمة قابل الملك فيصل قبل ذهابه لميسلون ودار بينهما حوار، ختمه بقوله: إذا هل يأذنني جلالة الملك بان أموت؟» مضيفاً: «اترك ابنتي الوحيدة ليلى أمانة لدى جلالتكم».. وعندما بدأ تقدم القوات الفرنسية باتجاه دمشق، وكان على يوسف أن يؤخر قدر الإمكان تقدم القوات الفرنسية حتى يتمكن من تنظيم جيشه بعد أن سرح جزءا منه». إذ كانت خطته تقضي بمحاصرة الجيوش الفرنسية المهاجمة في ثلاث جبهات وإجبارها على الانسحاب، ولكن اندفاع الجماهير من الشعب السوري الذي نهض تلقائيا بقضه وقضيضه للدفاع عن الحمى نحو القلعة بدمشق لاخذ السلاح كان من أهم الأسباب التي جعلته يصمم على الدفاع وبخوض معركة غير متكافئة ومجهولة النتائج. ولهذا السبب كان الجنرال غورو يضيق الخناق على يوسف العظمة وجيشه الصغير الفتي، لقد تمكن يوسف من أن يوقف تسريح الجيش وأعلن النداء للمنسحبين منه كي يتطوعوا للدفاع الوطني في المعركة، واستطاع أن يجمع بمساعدة بعض الضباط وصف الضباط السوريين حوالي لواء مشاة وكوكبيتين من الخيالة وبطاريتي مدفعية واشرف بنفسه على تنظيم القوات في خان ميسلون.

اليوم الفاصل

يوم 24 تموز 1920 كان الفاصل بين عهدي الاستقلال والاحتلال،،وحققت المعركة ما خططت له القوات الفرنسية سياسيا حيث فتحت طريق دمشق امام جيوش فرنسا، وتداعت بسرعة أول دولة عربية حديثة تأسست في دمشق الشام، دولة قصيرة الأجل، في عمر الورود والزهر: لان المدة التي انقضت بين تكوينها ووأدها كانت (22شهرا) كما تم القضاء على جيش سوريا الفتي قبل أن يستكمل تدريبه وتسليحه، وبنفس الوقت أقنعت السوريين بعدم جدوى التفاهم مع الاستعمار، وان المعاهدات والرسائل المتبادلة وتعهدات المسؤولين الاستعماريين لا قيمة لها وبان الحرية لا تمنح بل تؤخذ بالقوة.

لقد خاض العرب ميسلون رغم قناعتهم الكاملة بعدم جدوى القتال بالنظر لتفوق جيش فرنسا الهائل، بالعتاد والرجال، ولكنهم ذهبوا إلى هناك وعلى رأسهم وزير الحربية يوسف العظمة ليدافعوا حتى الموت وليبرهنوا للعالم اجمع أن جيوش فرنسا لم تتمكن من دخول سوريا إلا بعد أن قضت على جيشها الناشئ والمتطوعة من الأهليين الذين ينقصهم السلاح والذخيرة.

مناقب ومآثر

لا تستطيع الذاكرة الوطنية السورية أن تنسى رجال الثورة الكبار الذين يأتي في مقدمتهم يوسف العظمة الاسم الذي يذكره الجميع بكثير من الفخار لأنه جدير بالخلود، فهو من الأسماء التي غدت محفورة في الذاكرة العربية والسورية التي انتزعت موقعها في التاريخ رغم انف الغزاة، وتحديا لمعادلة الضعف والقوة، فيوسف العظمة ليس بطلا من أبطال سورية أو دمشق أو أبطال الوطن العربي بل هو بطل من أبطال الحرية، والأول والأعلى بين صانعي الجلاء، يتغنى الصغار في مدارسهم باسمه وتضحيته ويقدسون شهادته في سبيل عزة وكرامة أمته.

انتسب يوسف العظمة إلى جمعية (العربية الفتاة) السرية التي انتمى إليها الضباط الوطنيون العرب الذين عملوا في الجيش التركي وضمت كبار رجال الوطنية وتركت بصماتها على المواقف الصلبة في وجه الاستعماريين التركي والغربي.

وبعد قيام الحكم الفيصلي في سوريا أصبح مرافقاً للأمير فيصل، ثم عين في بيروت معتمدا عربيا لدى الجنرال (غورو) المفوض السامي في بيروت،الذي طالب الملك فيصل بإبعاد يوسف عن بيروت لنفوذه في الساحل واكتسابه احترام ووثقه الآهلين والقوميين العرب به آنذاك.

ولغيرته الوطنية التي كان يبديها ومناداته ببذل النفس والنفيس لإعلاء شأن الوطن ورفعته،. واعتقاده أن بإمكان سورية إذا نظمت دولتها وجيشها من أن تكون نواة لدولة عربية موحدة كبرى تجمع حولها الأقطار العربية.

بناء على شكوى غورو تم سحب يوسف من بيروت إلى دمشق وتعيينه رئيسا لأركان حرب القوات العربية في سورية، فعمل على تأسيس الجيش العربي(السوري).

ومن ثم تولى بعدها رئاسة أركان الحرب العامة برتبة (قائم مقام) وبعد إعلان ملكية فيصل عهد إليه بمهمة ووظيفة وزير دفاع، وكان الفرنسيون مع الحلفاء قد تآمروا على استقلال سورية، وشعر يوسف العظمة بما شعر به من خيبة أمل، ومع ذلك كان صامدا وكان دوما متفائلا، لا يعرف اليأس، لأن العظام لا يعرفون اليأس، وعندما فرض الاستعمار عليه وعلى شعبه خوض معركة ميسلون وقف كالطود الصامد، كالجبل الشامخ واستشهد وانتقل إلى رحمته تعالى بنفس راضية لأنه قام بواجبه خير قيام.

لم يكن استشهاده حادثا عابرا، وإنما كان لهذا الحدث التاريخي مدلوله الكبير لان يوسف رغم معرفته بقوة الجيش الفرنسي الاستعماري الذي لا يمكن أن يقاربه القوات السورية والجيش السوري آنذاك والذي كانت تنقصه العتاد والعدد والعدد، وقرر الذهاب إلى ميسلون مفضلا أن تكون حياته ثمنا لاستمرار النضال،. ، ولن يدخل الغزاة إلا على جثته».

واستطاع أن يصمد في وجه جيش منتصر في الحرب العالمية الأولى بالعدد القليل من المتطوعين والعتاد العسكري الضئيل ثلاث ساعات إلا خمس دقائق ليرسم بذلك للأجيال القادمة مستقبل سورية الوطني.

وقد أدرك الشعب العربي في سورية وفي الوطن العربي هذا الفكر النيرّ، وعرف قيمة هذا المخطط البعيد الآجل، فكان يوم الرابع والعشرين من تموز من كل عام بمثابة عيد قومي ووطني يستلهم منه أبناء الشعب مصادر البطولة واستمرار النضال حتى تحقق الجلاء أخيرا.

صفحات من أدب ميسلون

من الباحثين السوريين المهتمين بميسلون ويوسف العظمة غسان الكلاس مدير ثقافة دمشق الذي يعلل سر اهتمامه بميسلون ويوسف العظمة بالرغم من وجود أبطال غيره شاركوا في الثورات ضد المحتل الفرنسي بقوله: «هناك بطولات كثيرة وأبطال كثر خلدهم التاريخ نفخر ونعتز بهم أتوا فيما بعد يوسف العظمة.

وهناك ثورات عديدة نشطت ضد الاحتلال، إلا أن الاهتمام بيوسف العظمة ينبثق من الاهتمام بميسلون، ميسلون الموقع بمعناها المجازي، ليست تلك القرية الموجودة على طريق المصايف، بل التي تحولت فيما بعد إلى رمز يمنح العز والكبرياء والعنفوان.

كما تحول يوسف العظمة إلى رمز. ويضيف: «هناك مواقع كثيرة طبعا قبل ميسلون وهناك مواجهات كثيرة قبلها بين العرب وبين المسلمين وبين الفرنجة وما إليها.. ميسلون تختلف عن غيرها بان هناك وقفة عز وقفها يوسف دفاعا عن ارض الوطن.

ففي الماضي عندما كان يتم المواجهة كان الإنسان يذهب في محاولة للانتصار، وعندما يتواجه الخصمان لابد وان ينتصر أحدهما، ويوسف عندما خرج إلى ميسلون كان على يقين بأنه لن ينتصر وانه سيستشهد لا محالة بسبب القوة القليلة ومجموع الأفراد الذين اجتمعوا من اجل الخروج معه لأرض المعركة، بعد تسريح الجيش بحسب أحد أهم بنود إنذار غورو الرئيسة، ذلك الجيش الفتي الذي أسسه يوسف وحاول أن يضع كل إمكانياته وخبراته.

وانضم إليه المتبقي من الجيش النظامي الذي تم تسريحه والذين أصبحوا لا علاقة لهم بالقوة النظامية، وانضموا إليه كثوار وانضم ثوار آخرون وزعماء الأحياء الشعبية والمواطنون من كل حدب وصوب، وبدأ القاصي يعلم الداني، والداني يعلم القاصي أن يوسف العظمة خرج إلى ميسلون لمواجهة الغزو الفرنسي.

تكتسب معركة ميسلون تلك الأهمية وبالتالي تختلف عن غيرها لان يوسف العظمة عندما وقف هذه الوقفة أراد أن يثبت للملأ بان الانتصار ليس هو النتيجة الحتمية لأي مواجهة، وإنما السعي في سبيل الانتصار والحفاظ على كرامة الوطن وفي هذا بقول يوسف: «إننا نريد أن ندافع عن الوطن ونريد أن نثبت للفرنسيين بأننا لسنا من الذين ينالون وتجتاح حرماتهم ببساطة، وانه إذا دخلت فرنسا بسهولة فلن تخرج إلا بصعوبة من هذا الوطن».

لذلك معركة ميسلون بحد ذاتها معركة رمزية. كما الآن هو موضوع الانتفاضة في الأرض المحتلة في فلسطين، القوة الآن في الأرض المحتلة تدور بين قوة متواضعة وقوة عاتية، ومن البديهي أن القوة الصهيونية المتغطرسة والآلة الاستعمارية الصهيونية العاتية اكبر بكثير من الإمكانيات الفلسطينية المضيق عليها، ولكن هل نقف مكتوفي الأيدي؟

لا طبعاً لابد من أن نواجه القوة الصهيونية المتغطرسة مهما كبرت ومهما عتت في محاولة لصدها، واثبات إننا نحن هنا كما قال يوسف العظمة «في يوم من الأيام: إننا هنا، ولن يمروا، ولن نسمح لهم بدخول أرضنا بهذه الطريقة، ولابد من أن نواجه مهما بلغ الثمن». كذلك هناك وقفة شجاعة من كثير من المقاومين في فلسطين الذين يأبون الذل والهوان. لذلك لابد من أن يقفوا وقفة العز والكبرياء كما وقف يوسف العظمة.

ومن هنا يأتي الاعتزاز بميسلون وبطلها يوسف العظمة الذي علمنا أن لا نتهاون بحقنا، وان نتصدى للعدو مهما بلغت جبروته وغطرسته، وأعطانا درسا عميقا في البطولة ولذلك نكران الذات ستبقى الأجيال تحفظ هذا الدرس، وان الوطن أهم شيء: علمنا أن الروح والذات والنفس لا تهون إلا في سبيل الوطن وكرامته.

لذلك قال بعضهم ونقش على أحد النصب: «تقضي الرجولة أن نمد جسومنا جسرا فقل لرفاقنا أي يعبروا» وأنا أرى أن أول شهداء الجلاء هو يوسف العظمة لأنه ذهب ويعرف انه سيستشهد لا محالة بالرغم من وجود أبطال كثر آتوا فيما بعد خلدهم التاريخ نعتز ونفخر بهم أيضا، فما بين ميسلون والجلاء مجموعة من كثيرة الثورات التي نشطت أيام الاحتلال الفرنسي.

وعن تسميته فيلمه الأول (ميسلون العين والمخرز) الذي كتب نصه يقول: احتضنت ميسلون العين والمخرز في آن معاً واستطاعت العين أن تقاوم المخرز خلافاً لطبيعة الأشياء، وان ينتصر الحق وان ينتصر يوسف العظمة لذلك نحن نحتفي به ونمجده في كل آن وفي كل وحين. ومع أن العين في المثل الشعبي لا تقاوم المخرز لكن قال لي أحدهم بعد مشاهدته الفيلم أن العين استطاعت أن تقاوم المخرز، والعين المقصود بها هنا مجموعة القوى الوطنية والثوار، المخرز هي القوة الاستعمارية».

ساحة باسمه

تخليدا لبطل ميسلون حملت إحدى أهم ساحات دمشق بالقرب من سوق الصالحية الشهير اسم يوسف العظمة ونصباً تذكارياً يصوره وهو حامل سيفه، كتب على إحدى رخاماته شهيد معركة ميسلون يوسف العظمة وزير الحربية وعلى الجانب الآخر كلمات ليوسف العظمة قالها قبل يوم من المعركة: «إني أعرف ما يجب عليّ.

وسأقوم بواجبي ولست آسفاً على نفسي، بل أسفي على الأمة التي ستظل سنوات كثيرة وقليلة هدفا لكل أنواع المحن والمصائب، واني مطمئن إلى مستقبل الأمة لما رايته وخبرته بنفسي من قوة الحياة الكامنة فيها»، وتم ترميم منزل الشهيد يوسف العظمة في حي المهاجرين بدمشق على سفح جبل قاسيون الأشم الذي انطلق منه إلى ميسلون وتحويله لمتحف خاص بالشهيد.

الولادة والنضال

ولد يوسف العظمة في التاسع من نيسان عام 1884 في حي الشاغور (العمادية)، لأسرة دمشقية اشتهرت بالنبل والشرف والعراقة في السؤدد والمجد، وتوارث التقاليد العسكرية منذ أوائل القرن الحادي عشر للهجرة (أوائل القرن السابع عشر الميلادي).

تميز بحسه الحضاري وشعوره القومي، تخرج بتفوق من الكلية الحربية العليا في الآستانة عام 1906 برتبة يوزباشي أركان حرب وأكمل تمرينه العملي على الفنون العسكرية في أكاديميات ألمانيا وتنقل خلال الحرب العالمية الأولى في جبهات بلغاريا وغاليسية ورومانية رئيساً لأركان حرب الفرقة العشرين، ثم رئيسا لأركان حرب الجيش في جبهة القوقاز، فرئيساً لأركان حرب الجيش الأول في الاستانة.

فاتنة صالح الكردي

Email