خبراء دوليون من إيطاليا وانجلترا، اجتمعوا في دبي ما بين 7 و26 أكتوبر الفائت، وأطلقوا حملة للحفاظ على التراث الإماراتي باعتباره ملكاً للبشرية، من خلال سلسلة من المحاضرات ألقيت في المركز الاسماعيلي بدبي، وذلك بالتعاون مع جمعية التراث العمراني والمركز الدولي لدراسة وترميم الممتلكات الثقافية «إيكرووم» التابعة لليونسكو وحكومة الشارقة والمركز الاسماعيلي.

أحمد محمد العناب رئيس جمعية التراث العمراني يعتقد أن «سلسلة المحاضرات التي اختارتها جمعية التراث العمراني تعتبر جزءاً مهماً من سلم الأولويات التي تنتهجها الجمعية في الحفاظ على التراث العمراني داخل الدولة ووجود مجموعة من الخبراء الدوليين في مجال الحفاظ على التراث العربي والآثار، هو مكسب مهم وله فائدة عظيمة في تعزيز وبناء القدرات المهنية للمهندس المحلي في الحفاظ على تراث البلد. وأضاف: إن جمعية التراث العمراني فخورة بالتعاون مع أهل الاختصاص من كل الجنسيات لإثراء الجانب العملي والمهني عند المختصين والمهتمين داخل الدولة. وفي هذه السنة خطت الجمعية خطوات مهمة في إدارتها التطوعية والمهنية حيث وضعت برنامجاً مهماً تستطيع من خلاله كسب الريادة والتميز في الحفاظ على التراث العمراني داخل الدولة.

وذلك من خلال رؤية رئيس الجمعية رشاد بو خش التي لا تقف عند ترميم الأبنية التاريخية وصيانتها أو تأليف كتاب في التراث وإنما تعدت إلى أبعد من ذلك، وهو توظيف واحتواء كل النظريات الحديثة في خلق جو علمي وأكاديمي يستطيع من خلالها الباحث أو طالب الجامعة أن يعتمد عليه كمرجع أساسي في أطروحاته نحو تجديد فلسفة الحفاظ على التراث العمراني على المستوى المحلي والإقليمي. الخبرات في خدمة التراث وهذا الأمر يضاعف من مسؤولية الجمعية في تحسين إدارتها المهني والوصول إلى الاحترافية ولا يتأتى ذلك إلا بتضافر جهود أبناء البلد والمقيمين على هذه الأرض الطيبة. ولا ننسى ذلك الدعم المتواصل من الجهات الرسمية للجمعية، فكان بحق سنداً مادياً ومعنوياً لمواصلة الجمعية نشاطها في زخم الظروف الصعبة.

رئيس إدارة التراث العمراني رشاد بو خش قيّم سلسلة هذه المحاضرات، قائلاً: «إن جمعية التراث العمراني في الإمارات العربية المتحدة تعمل على زيادة نشر الوعي بأهمية الحفاظ على التراث العمراني ونعتقد أن سلسلة المحاضرات العامة هذه خطوة هامة جداً نحو نشر وبناء هذا الوعي».

مضيفا: نحن نستفيد كثيراً منها، خاصة وأننا عانينا من هذه المشكلات كوجود المياه الجوفية في مدرسة الأحمدي الأثرية التي تمكننا من التخلص منها من خلال خبراتنا المحلية. وأستطرد قائلا: قبل بدء د.ديفيد أودجيرز بمحاضرته نشعر بأننا نعرف كل شيء، ولكن مع مرور الزمن ونحن نقوم بأعمال الصيانة والترميم، نشعر بأننا لا نعرف شيئاً لأن العمل في هذا الميدان يتطور كل يوم.

كما أن خبرات المعماريين ذوي التجارب اجتمعوا من كل أنحاء العالم ليتعلموا كيف يحافظون على الأبنية الحجرية، وكيف تفيدنا في الحفاظ على تراثنا الثقافي في الوطن العربي. كنا نعاني في الإمارات من هذه المشاكل، وعلى الخصوص أن معظم المباني الأثرية مشيدة من الحجر المرجاني والجبس والطين وهي مواد ضعيفة إذا ما قورنت بالحجر العادي، ودرجة الاهتراء تصيبه في وقت أقل مما تصيب الأحجار الأخرى أي تعاني أبنيتها الأثرية والتاريخية من تواجد الرمة أو النمل الأبيض، وما أطلق عليه القرآن الكريم «دابة الأرض» التي تعمل على أكل هذه الأحجار وهدمها وتخريبها، وتمكنا من السيطرة عليها.

وقد انتهجنا سياسة الصيانة والترميم منذ السبعينيات، وأدركنا حقيقة عدم الخلط بين المواد المختلفة والمتناقضة في هذه العمليات لأنها ستضر بالأبنية الأثرية أكثر مما تفيدها.

الأبنية الأثرية والتآكل

المحاضرة الأولى ألقاها الخبير الدولي ديفيد أودجيرز بتاريخ 7 أكتوبر، وهو أحد المساهمين في البرنامج التدريبي لجمعية إعادة إحياء مدينة القدس القديمة، وعضو جمعية «عالج موضوع البناء الحجري» الذي يعاني من تصدعات كثيرة على مرور الزمن، ولو بنيت تلك الأبنية من الأسمنت لانهارت منذ زمن طويل، ولكن تبقى التصدعات لا يمكن معالجتها.

الذي تحدث مع عرض الصور على الشاشة، عن شكل الحجر بدءاً من تشكله ومروراً باستخراجه من المقالع والكسارات وحتى استخدامه في الأبنية واضمحلاله المحتوم، نتيجة لتعرضه لآثار التعرية والمناخ والرطوبة والماء والرياح وغيرها من العوامل. الأقواس تُبنى من اجل تدعيم المبنى، ويشهد على ذلك بناء الكاتدرائيات. تؤثر على الأبنية الحجرية عوامل عديدة منها الرطوبة والجفاف والمياه والرياح وتغيير الظروف المناخية باستمرار.

والمشكلة الأخرى التي تجابهها الأبنية الحجرية هي التلوث. كيف نعزل الماء عن المبنى؟ نضع سقوفا مائلة لتطرد الماء عن المباني. ثم تأتي الأملاح التي تؤثر على الحجر. هناك أبنية يزورها نحو مليون زائر سنوياً لا بد من صيانتها وترميمها. التآكل السريع يأتي نتيجة لتغير البيئة. فالأبنية التي اعتادت على الرطوبة، تتأثر بمجيء الجفاف. وهناك أجهزة الكترونية تقيس مستوى الرطوبة في الحجر.

ويعتقد أن هناك أخطاء يقترفها المعماريون في صيانة وترميم بعض الأبنية الحجرية وخاصة استخدام الأسمنت في الترميم لأن إضافة مادة مختلفة عن مادة البناء الأصلية يؤدي إلى تدمير هذه الأبنية الحجرية بقوله: ومما لا شك فيه/ لا يمكن أن نرمم جميع الأبنية الحجرية والآثارية في العالم ولكن يمكن الاعتناء بها على الأقل، ولا نسمح للتآكل أن يؤثر عليها. ونحن بحاجة إلى كوادر مؤهلة تقوم بعمليات الصيانة والترميم، وهي حرفة خطيرة، لذلك يجب تدريب هذه الكوادر بطريقة علمية ومدروسة.

وما تعاني منها الأبنية الحجرية هي تراكم الأوساخ عليها طيلة ثلاثين عاماً، ولكن التنظيف ليس العلاج لها لأنه يفتح المسامات في الحجر ويساعد الرطوبة على الدخول في الحجر وتفتيته من الداخل. لا يمكن أن نرمم الأبنية القديمة بوضع الحجارة الحديثة عليها، مثل وضع رؤوس تعود إلى القرن العشرين إلى تماثيل من القرن الخامس عشر!

لا توجد مادة سحرية لمعالجة كل شيء. ومشكلة تآكل الحجر تجابه العالم بكامله، والرطوبة موجودة في كل مكان. وهناك نوع من الحجر وهو الغرانيت الذي يتميز بقوته، ويحتاج إلى عصور جيولوجية حتى يتآكل. وهناك عوامل قد لا تخطر على البال منها نمو النباتات في الأبنية الحجرية القديمة، مما تسبب شروخاً وانهياراً لها، وعلاج ذلك لا يتم عبر اقتلاع هذه النباتات بل تسميمها تعطيل جذورها.

حماية التراث

االخبير الدولي الايطالي لويجي كامبانيلا نبّه في محاضرته بأن «المعرفة البشرية تهدف إلى حماية التراث الذي تراكم على عبر الأجيال والعصور. والهم ثلاثي الأبعاد يهيمن على البشرية متمثلاً في: الصحة والطعام والبيئة. والتلوث أحد أهم أمراض العصر الذي يهدد الغذاء والثقافة في آن واحد. فالإرث الثقافي يمكن أن يكون فرصة لبناء اقتصاد وسوق. ثمة ترابط بين التراث الثقافي والبيئة والسياحة والاقتصاد».

ويرى أن المخاطر قائمة بقوله: «لكن البيئة يمكن أن تدمر التراث الثقافي إذا لم نتدارك الوضع باتخاذ الإجراءات اللازمة. ماذا نفعل في هذه الحالة؟ بالتأكيد لا توجد حلول سحرية في هذا المجال.

هل يمكن أن نغلق الآثار المعمارية في صناديق مغلقة ونحرم الناس من رؤية جمالياتها من أجل المحافظة عليها من التلوث وآثار المناخ؟ لم يتوصل لحد الآن رجال السياسة وصانعو القرار إلى حلول محددة. مما لا شك فيه، لا يمكن لنا أن نوقف الزمن ولكننا يمكن أن نسيطر عليه. وهذه الآثار لا يمكن مشاهدتها إلا في المتاحف الحقيقية أو المتاحف الافتراضية».

وتطرق لويجي كامبانيلا إلى موضع إنتاج الطاقة. وهذه الطاقة في جلها عبارة عن وقود متحجر. وهناك مخاطر تحدق بمادة الرخام. ويمكن لعوامل المناخ والتعرية أن تؤثر على الرخام وتحوّله إلى مجرد جبس لا قيمة له. إنها عمليات كيميائية في غاية التعقيد تجري في الطبيعة. الكتابات الموجودة على التماثيل التاريخية تؤثر على الأعمال الفنية والأدبية، المصنوعة من اللوحات والتماثيل والورق. ويمكن للبيئة أن تدمر المعادن والأنسجة والقماش وكل شيء. لذلك تنفق البشرية مليارات الدولارات على موضوع ترميم الآثار وصيانتها وهي الأكثر كلفة.

إنها ذاكرة البشرية التي نحتفظ بها على اللوحات والورق والأثاث والمجوهرات والمعادن النفيسة والرخيصة والزجاج والموزاييك والبورسلين والرخام والتماثيل والآثار عامة.

ينبغي أن تصل هذه الأعمال إلى الأجيال القادمة، وهي من مهام البشر الذين يعيشون في الوقت الحاضر. وهناك عاملا الماء والضوء. الماء يجذب معه الأملاح والضوء يجلب معه التفاعلات الكيميائية والجزئيات القادمة مع أشعة الشمس. والتفاعلات بين المادة والطاقة.

وتقتضي المهمة الانسانية المحافظة على الإرث الثقافي من خلال الاستعانة بكل أدوات العصر وتقنياته. وعلينا أن نصلح المادة باستخدام المادة ذاتها لأن الرمل المصري يختلف عن الرمل السويدي. ويجب أن نستعين بأهم عنصر في عالمنا وهو عنصر التربية، وهي النقطة الحاسمة التي نحافظ من خلالها على تراثنا الثقافي».

واختتم محاضرته «إن التراث الثقافي والبيئة هما موردان هامان وغالباً ما يتفاعلا مع بعضهما البعض بشكل سلبي، غير أن «العلم» قادر على تعديل هذا التفاعل كي يكون تفاعلاً قوياً وفعالاً».

أما الباحث جون ياروود، فقد تناول في محاضرته «المحرّق: مدينة تاريخية في البحرين». وقام بوصف شامل لمدينة المحرّق التاريخية قبل عشرين عاماً، وعرض النمو والشكل العمراني من حيث أنماط الشوارع والمجموعات الاجتماعية والشكل المبني للمساكن وفناءاتها. ووصف بعض البيوت التاريخية وكذلك السوق وعدد من المساجد. وأفرد ملخصاً للمفردات المعمارية والتطوّر الذي طال الأسلوب.

لويجي كامبانيلا والكيمياء التحليلية

لويجي كامبانيلا بروفيسور إيطالي في الكيمياء التحليلية؛ والتراث البيئي والثقافي في جامعة لا سابينزا في روما. وهو مدير برنامج الدكتوراه في علوم الكيمياء في جامعة روما.

سبق له ونال جائزة كابير الدولية لمستقبل خلاق عام 1994؛ وجائزة «المدرسة كأداة للسلام» الأوروبية والميدالية الذهبية عام 1993 لقسم الكيمياء البيئية في الجمعية الكيميائية الإيطالية. والبروفيسور كامبانيلا هو مؤلف ما يزيد عن 500 مادة منشورة في مجال الكيمياء التحليلية والكهروكيميا والكيمياء البيئية والتقانة الحية التحليلية.

جون ياروود

د.جون ياروود معماري ومخطط عمراني بريطاني، يدرس العمارة في إدنبرة والتخطيط العمراني في جامعات شيفيلد. وقد بدأ حياته المهنية في الحكومة المحلية البريطانية والمدن الجديدة.

ومن ثم عمل في البحرين كرئيس لقسم التجديد العمراني حيث يعيش في مسقط. قام بالتحضير لدرجة الدكتوراه حول هذه المدينة ونشرت مؤخراً في البحرين. ومنذ ذلك الوقت عمل كاستشاري مخطط في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وأماكن أخرى غيرها. وحاز على التقدير لعمله الإنساني في البوسنة. وهو زميل في الجمعية الملكية الآسيوية.

شاكر نوري