جماليات

مسرح العرائس حضارات يتحرك خيالها أمام الأجيال

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

مشهد اتخذ من ذاكرتنا مكاناً خاصاً، يطفو على سطح الذكريات عندما نجتر زمن الطفولة، وهي المرحلة التي «ذهبت مع الريح» بحق، ذلك المشهد يتكرر يومياً وقت العصاري في الصيف، وهو عبارة عن رجل في منتصف العمر يحمل على ظهره صندوقاً خشبياً صنع يدوياً من الخشب الخفيف والقماش الملون، ينادي بصوت عالٍ منغم «الأراجوز.. وصل»، فيطل الصغار، وتمتلئ البلكونات بهم، وعيونهم تبحلق عندما يبدأ الرجل الأربعيني يحرك الدمى، وغالباً ما تكون دمى على شكل رجل وأخرى سيدة، ويبدأ يغني أغاني شعبية بصوت مميز، وكأنها تخرج من حلق الدمى.

نفرح، ونهلل، ونصفق.. ويستمر المشهد الجميل هذا لمدة لا تتجاوز 15 دقيقة، بعدها يخرج محرك الدمى من الصندوق، بعد أن تلقي دمى الأراجوز التحية علينا نحن الصغار، وينتظر النقود التي كنا نغلفه في قطعة قماش صغيرة ونثبتها «بمشبك» الغسيل ونلقي بها إليه، فيلوح على أمل اللقاء، في الوقت نفسه غداً.. شهد داعب عقول وقلوب الصغار ـ وكنا منهم.الآن يسكن الأراجوز أقلامنا عندما نكتب أو نسطر ملامح تقفز من اللاشعور، وتداعب خيالنا، بحب أحياناً وبشجن في أحيان كثيرة، فمناظر الطفولة قديماً كانت بكراً تدخل القلب وتسكن الوجدان وتختار مساحة لها في الشعور أو اللا شعور.

كبر الصغار، وكبرت طموحاتهم، عندما تطور فن الأراجوز، الذي ما زال موجوداً في بعض الأحياء الشعبية في مصر والعالم العربي ـ تطور ليأخذ الشكل الفتي، المعروف باسم «مسرح العرائس».له حكاية تحكى، وأيضاً ذكريات تتزاحم في وجداننا، سؤال يفرض حضوره هنا: ما هو بالتحديد مسرح العرائس هذا الذي أسعد أجيالاً وأجيالاً وشكل ثقافتهم الأولى؟البداية بعيدة، ولكنها تدرجت بمنطق القرون والسنين والأيام، فإنها تطبق منطق وقوة الزمن.عرف قدماء المصريين والإغريق أيضاً فن العرائس المتحركة، فقد وجدت منقوشة على جدرانهم ومسلاتهم ومعابدهم.

وفي العصور الوسطى كان عدد الذين يستطيعون القراءة والكتابة محدوداً جداً، ولذلك كان الناس وقتذاك يشاهدون العرائس وهي تمثل الشخصيات في القصص الشعبي والديني، وكانت لها في أحيان كثيرة أبعاد سياسية وانتقادات لسلبيات المجتمعات المختلفة وقتذاك.والدمى أو العرائس المتحركة بخيوط معينة صغيرة، فهي تفعل بإيحاء من يحركها لتكون شخصيته من الشخصيات البارزة في المجتمع كالحكام والوزراء أو مهرجي العصور.وفن العرائس فن واسع ورحب، تطور عبر التاريخ ليخاطب الكبار والصغار معاً، وهو فن ارتبط بعقول وخيال الإنسان عبر الحضارات المختلفة، باستثناء بعض الأنواع مثل «عرائس خيال الظل» التي ظهرت بداية في الصين، و«العرائس المائية» ظهرت لاحقاً في فيتنام، وجميع العرائس لدمى مختلف الحضارات تتخذ سمات وخصائص البيئة التي نبتت فيها، والمناخ الثقافي والأدبي العام.

وفن العرائس تطور عبر التاريخ، واستفاد من التقدم التقني والعلمي، مثلما تطور المسرح البشري تماماً، بل كان في مقدمة الفنون التي واكبت النهضة الثقافية والعلمية، في ما بين الحربين العالميتين، ومن هنا تحولت إلى فن عالمي راقٍ له أسسه ونظرياته الفنية وركائزه، ومعه تطور فن الإضاءة وتوظيفها كعنصر مهم من عناصر العرض المسرحي على اختلاف أنواعه، كما تطور معه فن توظيف الألوان، وظهور اشتقاقات لونية جديدة لم تكن معروفة من قبل.

وما زال التطور مستمراً في هذا الفن، حتى أصبح فناً يُدّرس في المعاهد الفنية ومعهد السينما لدراسة التصوير وتوزيع الضوء والديكور وكتابة السيناريو اللازم لمسرح العرائس، وفي مصر بدأ مسرح العرائس الفني ذو الأسس الثقافية والعلمية والتقنية في العام 1937، عندما قامت وزارة المعارف العمومية بالقاهرة بإنشاء ما يسمى ب«المسرح المدرسي».

وكان مقتصراً على ما يقدمه الأطفال الموهوبون بإشراف مدرسي الفنون ـ يقدمون ـ مسرحيات أبطالها العرائس المتحركة، وتتناول مثل هذه المسرحيات ترسيخ القيم الإيجابية في نفوس الصغار والتوجيه نحو مجتمع أفضل عن طريق إظهار بعض السلبيات، التي يمكن للصغار استيعابها.

وقد استمر الحال هكذا، حتى العام 1959، حيث أنشئ مسرح القاهرة للعرائس، والذي بدأ بتقديم مجموعة من العروض، كان أولها عرض «الشاطر حسن» في شهر مارس من العام 1959 تم عرض مسرحية «الليلة الكبيرة» التي أثارت ضجة إيجابية عالية وفعّالة، وأحرزت نجاحات كبيرة على مستوى الوطن العربي، حيث كانت الغرف المسرحية تجوب بها العواصم العربية، وظهرت في الأسواق على كاسيت فيديو وحالياً على «سي دي». وهي من تأليف صلاح جاهين وتلحين سيد مكاوي.

وكانت مسرحية «الليلة الكبيرة» تجذب الكبار والصغار معاً، لحبكتها الفنية الرائعة وشخوصها، التي تعكس وتحاكي الشخصيات الحقيقية في المجتمع المصري. وقد لعبت كلمات صلاح جاهين ولحن سيد مكاوي الدور الأساسي في نجاح هذه المسرحية، والتي قام بتحريك العرائس فريق كبير مدرب على أعلى مستوى بإشراف صلاح السقا الذي كان له أكبر القدر لإنجاح المسرحية.

وتبدأ المسرحية بأغنية رائعة تقول مقدمتها «قبة سيدنا الولي دول نوروها، محلا البيارق والناس بيزوروها، قبة سيدنا في الجو عالية، محلا البيارق لما نورها..»، وتتوالى الكلمات العامية التي لها مكانة في قلب ووجدان المصريين والعرب، تحرك أوتار القلب موسيقى سيد مكاوي.

وتوالت عروض فن العرائس في مصر، وجاب المحافظات بمصر والعواصم العربية، وظهرت العديد من المسرحيات التي لا تقل قيمة فنية عن «الليلة الكبيرة»، ومنها «حمار شهاب الدين» و«الحذاء الأحمر» قُدمت على مسرح «الهوسابير»، وهي مسرحية مترجمة عن قصة «لهانز أندرسون»، وتعتبر أول عمل درامي يقدمه مسرح الأطفال في مصر.

وتعتبر دمشق من العواصم العربية التي اهتمت بهذا الفن واعتبرته رسالة موجهة للكبار والصغار، مثلما في مصر تماماً، ويذكر كبار السن في دمشق، بأن «الكراكوز» أيام زمان كان فناً ممتعاً، وخاصة عندما يسخر من بعض السلبيات الاجتماعية، بالإضافة إلى أنه وسيلة ترفيه رائعة للصغار والكبار أيضاً.

وكان «الكراكوز» في دمشق يعرض شخوصه على شاشة بيضاء في المقاهي بين المغرب والعشاء.

ومن المقاهي الدمشقية الشهيرة التي تعرض «الكراكوز» قهوة «السروجي» وتعج المقاهي هذه بالناس عندما يخرجون من المسجد القريب من المقهى، خاصة في رمضان، ويدخلونها للاستمتاع بفن «الكراكوز» حتى وقت السحور في المقهى مع المقبلات السورية الشهيرة والمشاوي والسحلب والبوظة.

ومن مشاهير «الكراكوزاتية» الأواخر في دمشق، عبدالرزاق الحلبي وأبو عزت الكراكوزي، وكن ابنه يساعده في حمل أدواته، ويُعد الفنان تيسير السعدي أبرز الفنانيين الذين عاصروا هذا الفن، الكراكوزاتية، ووثقوها في دراسة مكتوبة قدمت مع الرسوم التوضيحية للشخصيات إلى معهد العالم العربي بباريس.

وقد حاول الباحثون البحث عن الجذور التاريخية لخيال الظل، وهو الاسم الذي اعتمده المسرحيون لمسرح الكراكوز وعيواظ، وتعني بالتركية «العيون السوداء»، ولمسرح خيال الظل، كما يؤكدون، له تاريخ طويل يرجع إلى ألفي سنة تقريباً.

وكانت قصص مسرح خيال الظل ساخرة تتضمن جدالاً بين الكراكوز الساذج وصديقه التركي «عيواظ»، ويكمن سر الضحك في هذه المفارقة وينتهي العرض بانتصار الشخصية الساذجة البسيطة الطيبة، وقبل اكتشاف الكهرباء كانت تستخدم المصابيح والشموع للحصول على الظلال، وكانت الدمى تصنع من الجلود والأقمشة والخشب اللين.

و«خيال الظل» وسماه أشهر المخايلين العرب الشاعر ابن دانيال «طيف الخيال» وعرف في مصر في عصر الظاهر بيبرس باسم «ظل الخيال» أو «خيال الظل» أو «خيال الستار».

ويوظف مسرح العرائس في مصر منذ عقود في توجيه المشاهدين خاصة الصغار إلى القيم والأوضاع السلبية التي لابد أن تختفي من المجتمع بالإضافة إلى تجاوز مسرح العرائس دور الترفيه فقط إلى أبعاد تربوية تناسب الصغار، وتساعدهم على تكوين شخصيتهم بطريقة فعّالة برياض الأطفال، ناقشتها أساتذة طرق تدريس الطفل بجامعة الاسكندرية، الدكتورة جنات عبدالغني على هامش مؤتمر «نحو مجتمع آمن للطفل»، وركزت جنات عبدالغني على أهمية توظيف مسرح العرائس لإكساب الأطفال المهارات الإبداعية المختلفة في ظل برامج فنية مدروسة.

ولأن فكرة الأراجوز ودوره في حياة الصغار والكبار فعّالة، انتقلت الفكرة ذاتها إلى فيلم يحمل اسم «الأراجوز»، وهو واحد من أروع أفلام السينما المصرية، من بطولة الممثل العالمي عمر الشريف وميرفت أمين وهشام سليم، ومن إخراج هاني لاشين.

ويحكي الفيلم قصة عبدالعظيم جاد الحق (عمر الشريف) الذي برع في جمع أولاد القرية حوله عندما يغني أغاني ذات مغزى اجتماعي وسياسي، ويظهر سلبيات المجتمع وقتذاك. وقد تمكن من تربية ابنه «بهلول» (هشام سليم) حتى أوصله للجامعة، ولكن كانت له طموحات مختلفة أوضحتها أحداث الفيلم.

ومن المشاهد التي جذبت الجمهور، مشهد الأغنية التي غناها عمر الشريف وسط الريف المصري ممسكاً بيده دمى الأراجوز، الأغنية من تأليف سيد حجاب وألحان عمّار الشريعي وأداء عمر الشريف. ومطلعها:

أراجوز.. أراجوز.. إنما فنان

فنان أيوه.. إنما أراجوز

ويجوز يا يزمان أنا كنت زمان

غاوي الأرجّزة طياري.. يجوز

إنما لما الكيف بقى إدمان

باحب أبقى لشيء واحد أرى.. جوز

أرى إيه؟ أرى إيه؟ أرى أرى.. أراجوز!

ولا تقف الحدود والبحار والمحيطات عائقاً أمام أطفال العالم، فالخيال يحلق فوق كل العوائق الطبيعية والسياسية، هناك في البعيد في الولايات المتحدة الأميركية، شخصيات كرتونية تتحرك عن طريق وضع يد الفنان داخل الجوارب، التي تنتهي بشكل الشخصيات التي أثرت تأثيراً عالمياً على أطفال العالم ومنهم الأطفال في عالمنا العربي، من أهمها شخصية «كيرمت» والتي عربت لل«ضفدع كامل» وهي إحدى الشخصيات التي اقترنت مع برنامج «افتح يا سمسم» وهو النسخة العربية من البرنامج الأميركي «Sesawe Street»، وكيرمت ـ الضفدع كامل ـ شخصية دمية جوربب التي أوجدها محرك الدمى الأميركي «جيم هنيسون» في العام 1955.

ومن الشخصيات في مسرح العرائس المؤثرة في أطفال العالم شخصية «ميس بيجي» التي ظهرت في العام 1974 في البرنامج التلفزيوني الاستعراضي «مابيت شو» (Muppet Show) وهو سلسلة حلقات.

وإذا كان هناك بقية من ذكريات الطفولة تطفو وسط زخم حياتنا، فجزء كبير منها تقفز إليه ذكريات مسرح العرائس والأراجوز المتجول، والقطع النقدية التي كنا ندخرها في «حصالة» صغيرة، ونلقي بالقطع الفضية ببكل الحب داخل قطعة قماش حتى لا تتناثر وهي تنحدر من الأدوار العالية لتستقر في يد صاحب الأراجوز.. مشهد مجرد استحضاره ربما يختزل سنوات العمر للوراء فقط من أجل ضحكات من القلب غابت وغاصت في غياهب النفس.

مسرح العرائس وأطفال الشوارع

لجأت المخرجة الشابة رانيا رفعت بالقاهرة إلى علاج أطفال الشوارع ـ وهي ظاهرة عالمية ـ لجأت المخرجة لجمع عينات عشوائية من أطفال الشوارع لتدريبهم على هذا الفن. وللمخرجة عملان هما «الماريونيت» و«إحنا فين وانتم فين» معظم القائمين عليه من أطفال الشوارع الذين تم تدريبهم في كواليس مسرح «كلية البنات» بمنطقة العباسية بالقاهرة.

وبهذه الوسيلة المبتكرة والفعّالة بدأت رانيا انتشال هؤلاء الأطفال من بؤر الفساد لتزج بهم في ميدان تعلم الفنون، وقد لاقت إقبالاً كبيراً، الأمر الذي سيجعلها تستمر في مشروعها هذا، مؤمنة بأن الفن وسيلة فعّالة جداً لعلاج الأمراض النفسية الناشئة عن الأوضاع المتردية والناتج عنها ظاهرة أطفال الشوارع.

منى مدكور

Email