دمشقية.. تخاصر التاريخ وتبوح بأسرارها

جماليات دمشقية.. تخاصر التاريخ وتبوح بأسرارها

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

توسعت دمشق بالحضارات التي تعاقبت عليها ووصلت إلى نظام معماري متكامل في العصر الإسلامي. فغدت مدينة تعتمد على نفسها ومرافقها ونشأت هندسة معمارية جمعت أفضل ما عند دول مجاورة.

شكلت البيوت في دمشق القديمة حصونا صغيرة وإحياؤها رباطا متشابكا وملتحما... ارتفعت قيمتها في التصاميم والزخارف الهندسية. وتسابق النبلاء في بناء القصور والبيوت الكبيرة التي ظلت مرجعا للمكانة الاجتماعية المرموقة. أما البيت كما يقول الدكتور عفيف بهنسي في مؤلفه «عمران الفيحاء» فليس إلا محطة هادئة يعيش فيها الإنسان ضمن أسرته وهي الخلية الأساسية للمجتمع، يوجد فيها مع الله، فكأنما البيت المنفتح على صحن واسع يتجه بجميع غرفه نحو الملأ الأعلى الذي ترمز إليه قبة السماء الصافية. فإذا كانت المدينة متراصة مندمجة تأكيدا لوحدة الأمة، فان البيت منفتح نحو السماء لتحقيق اتصال الإنسان بخالقه اتصالا مستمرا. وبمعنى آخر إذا كان الوجود الخارجي للإنسان موحدا فيما بينه، وهو موحد أيضا في نطاق المدينة العفوية، فان الوجود الداخلي للإنسان مرتبط بذكر الله والتسبيح له عن طريق الفسحات المفتوحة للفضاء.

كل يوم شيء جديد.. وكل جديد يمر عليه الدهر يصبح قديما، لكن ليس كل قديم يصبح تراثا..

وليس كل تراث يلفت نظر التاريخ ويلفت نظر الحضارة الحديثة. ودمشق العاصمة المأهولة منذ فجر التاريخ.. مدينة الأسرار العتيقة مازالت تتنسم عبق الماضي وتضج بالذكريات والحنين من خلال حاراتها الشعبية ومقاهيها وأسواقها العتيقة.. المتجددة أخيرا.

استحوذت العمارة الدمشقية القديمة على اهتمام العديد من الباحثين. وتعتبر البيوت الدمشقية من الأشياء المستحبة التي يأتي إليها السياح الأجانب للرؤية والتمتع بجمالها الأخاذ فقط...وفي نهاية زيارتهم يقدمون لنا اكبر نصيحة: «أن نحتفظ بالأشياء التي يفتقدون الجمال فيها.. يطلبون إلينا بأن لا نهجر ونبتعد ونهدم ما عمره الأجداد، بل نلجأ إلى ترميمه لان المحافظة على المعمار القديم هو الذي يعطي الصورة الحقيقية لماضينا.. وهو الذي يترك بصمة واضحة لكل العيون التي ترى وتشرد في قديمنا المعماري والتراثي.

البيت الدمشقي وفن الجمال

يمتاز البيت الدمشقي بجماله وبهائه وأصالته، الذي يعتبر مثالا صادقا لجمال البيت العربي ذو الطابع الأصيل، والعمارة الإسلامية التي بلغت القمة في الإبداع والتوزيع الوظيفي، وسحر كتّاب وشعراء الغرب. ورحل إلى الأندلس ليصبح بها تحفة أثرية خالدة، ومن الأندلس رحل بعمارته ووروده إلى أميركا ولا يزال الحديث عن سر الجمال فيه.

فهو «يعتبر من ارفع نماذج الفن الإسلامي بفضل الذكاء الذي وضع في مخططه وجمال المواد المستخدمة في تنفيذه» بحسب وصف «ايكوشار» له في المقتطفات 1930، ونزعة الإنسان الدمشقي الفطرية إلى الجمال وحب الجمال.... قد يرى البعض في البيوت الدمشقية جماليات خاصة كثيرة ومتنوعة.. لا يراها كل الناس..

ولا غرابة في ذلك.. ففي كل ركن من أركانه لغة تجمع بأحرف متميزة بين أصالة الماضي واعين الناظرين. القاعات فيه واسعة وذات أسقف عالية يتراوح بين الأربعة والستة أمتار، وهي عادة ما تكون خشبية مرصعة بقطع الصدف والفضة والمرايا... أما جدران تلك القاعات فمزخرفة من الداخل، وغالبا ما تكون مغلفة بطبقة خشبية مزركشة برسوم ونقوش شرقية مخطوط عليها أبيات شعرية ودينية.

لها نصف نوافذ «المندلونات» تكون في أعلى الغرفة أو القاعة بهدف الإنارة الكاملة تفتح لنفوذ النور ودخول الشمس وتجديد الهواء، فقد عرف الدمشقيون منذ القدم كيف يتعاملون مع حر الصيف داخل منازلهم، وبالرغم من بساطتهم آنذاك، فقد انتخبوا مواد طبيعية لإنشاء بيوتهم معروفة بعزلها للحرارة كمادة أساسية في بناء منازلهم: سهلة البناء.. قليلة التكاليف.. رديئة النقل للحرارة والبرودة..

قادرة على حماية الإنسان من العوارض الجوية وتقلبات الطقس قوامها: «الطين والخشب والحجر والقش المكسر».. وجعلوا في كل قاعة بحرة مستديرة الشكل أو بيضاوية. بهدف تكييف وتلطيف جو الغرفة.. وهي مختلفة باختلاف القاعة..

البيت الدمشقي الذي التصق بوجدان المشاهد العربي واعتاد في كل رمضان أن يعيش حلما دمشقيا عريقا ويتجول بين بيوت دمشق وأزقتها ويتماهى في ثلاثين حلقة مع سكانها وشخوصها... مكشوف من داخله.. مغلق من خارجه يوحي بالبساطة وعدم التكلف..

لا يعكس مظهره الخارجي المتقشف حقيقية الجواني من الداخل. فمجرد الدخول إلى البيت وبعد تجاوز باب الدهليز الخشبي تظهر أرض الديار الواسعة، مفتوحة للسماء.. تتوسطها بحرة ماء رخامية وحولها أحواض شجر، وأزهار تصطف على مدرجات خشبية: أصص الورد الجوري الأحمر والفل الأبيض، ونباتات ذات تسميات بالغة الجمال من «استعارات وكنايات وصور بحسب ما يشاهدها ساكن المنزل وما يتخيل وجودها «كنبتة السمكة.. الساعة.. التلفون.. أصابع العروس.. حلقات الست.. خد بنت الملك».

يوميات شباك دمشقي

العين نافذة الجسد... والنافذة مطل العين ومنفذ الإدراك الحسي للعالم الخارجي... والنوافذ منافذ على الآخر..... تتخاصر شبابيك دمشق المدينة التي خاصرت التاريخ طويلا، شأنها شأن نوافذ الحارات في المدن العواصم العربية القديمة التي لا تنفتح على مدى ضوئي مديد، ولا تدعوك إلى السباحة في ألوان الطبيعة.

بل تتقدم نحو بعضها.. يحمل كل شباك رسالة يصر على تسليمها باليد للشباك الآخر.. كأنه يبحث عن وجه الآخر باستمرار. لشبابيك الدمشقية تطل على فناء البيت ليبقى كل ما في البيت ضمن جدرانه ولا يتعداه بعيدا، ولا تفتح على الطرق.أما الخص، فهو شباك من أصابع الخشب المتقاطعة يحجب النساء في البيوت عن الأنظار.

ومنذ نهايات العهد العثماني شهدت دمشق تغيرا في أساليب العمارة والتخطيط واستخدام مواد جديدة في البناء فتغير طابع العمارة المحلية من الانفتاح نحو صحن الدار إلى نوافذ مفتوحة على الشوارع الحديثة ذات التخطيط المستقيم والشطرنجي بدلا عن الأزقة والحارات المتعرجة.

الشاعر نزار قباني ابن دمشق البار وأحلى حمائمها استحوذ بيته العتيق في مئذنة الشحم على كل مشاعره وافقده شهية الخروج إلى الزقاق كما يفعل الصبيان في حارته.. وكان نهاية حدود العالم عنده... والصديق والواحة، والمشتى، والمصيف.. لاحظ أن شبابيك دمشق..التي نثر الحب منها ومن نوافيرها وأزقتها وحاراتها قامت على أساس وجداني وليس على أساس معماري.

ستيتية الشام المباركة

الدمشقيون مولعون بالقطط يربونها لحماية مؤونة المنزل من القوارض والحشرات.. أما الستيتية فهي الصديقة المباركة التي وقعت في هوى دمشق.تآلفت مع أهلها وآلفوها.عشقت أسطح البيوت الدمشقية... عششت تحت سقوف شرفاتها... وفي نتوءات جدرانها الحجرية.. تهدل على مندالوتهم (نوافذهم)..

وفي أحايين كثيرة تقرع زجاجها الملون بمنقارها.... طلبا للطعام أو لوضع بيوضها وفراخها الصغار فيما بعد لحين عودتها.. دون خوف أو وجل عليهم... لأنها تجد الطمأنينة والسكينة في قلوبهم وعلى أكتافهم... الستيتية» ذلك الطير الرمادي الصغير الذي يشبه الحمام تقريبا.المدللة لديهم... يمنحونها السلام وتروي الجدات الحكايات لاحفداهن.. تحذرهم بعدم المساس بها أو التعرض بأذى إليها لأنها تربت معهم وأحبتهم كما أحبوها.. فضّلوها عن الجميع.. فهي. تشكر الله.. تبقبق بقولها ما معناه «وحدوا واذكروا ربكم»..

حارات دمشقية...حلم رمضاني عربي

تقترب النوافذ من بعضها البعض حتى لتشعر أن البيوت لتكاد تتهامس أو تتعانق كما بيوت الحارات في المدن الإسلامية تصطف كتفا إلى كتف، وتتواصل في خط يقابله آخر.. يتقدم نحوه، بحيث تبدو البيوت التي لا تعلو عن قامات الرجال، وكأنها تؤدي رقصة شعبية بلا انتهاء.

وتبدو الحارة وكأنها بيت كبير بمنازل عديدة... تكرس الحارات القديمة مبدأ التجانس والتماثل.. وتؤكد مفهوم «العروة الوثقى» والتعاضد والتكاتف... فإذا ما قال جار لجاره «آه» تجد كل أهل الحارة يسألون عنه.. انه الحب والتعاون بين أهالي الحي..هو صفة يتوارثها الأجيال:

جيل بعد جيل.... لم تتأثر بموجة التحديث والعمران ولم تمتد إليها يد العبث التجاري وموضة استبدال الماضي الزاهي الذي ارتحل عنا دون أن يودعنا بآخر حديث متعدد الطوابق ـ منعزل ـ مفتقر لجمال وملامح ومزايا القديم المتفرد في تراث دمشق.. حيث لم تعد النافذة على النافذة والسطح واحد، ولم نعد ندرك ماذا يقول البيت لأخيه البيت.

وهو يشد أزره، وقد صار الكتف على الكتف والجدار على الجدار... وحل السيراميك مكان الحجر الأسود..واستبدلت البحرة بالكوندشن وشجرة الليمون بمعرشات مستحدثة داخل الصالون بدلا من حديقة المنزل والإيوان.بقيت هذه الحارات أصيلة.. متداخلة الحدود تزداد شبابا وحيوية.. يتمازج فيها القديم بالحديث دون أن يؤثر على طابعها الجميل...فيها يتجاور الناس ويعرف الجميع.. الجميع.. وحميمية العلاقات هي العنوان!!!

فاتنة صالح الكردي

Email