جماليات

حضارة الحدائق على مر العصور

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

الطبيعةُ عشقٌ. والعشق رؤية ورؤيا.وما بينهما خلْقٌ لا نهائي من الجمال، يبدأ من وردة صغيرة وقطرة ماء وعبق شذي ولا ينتهي بالبساتين الفسيحة ولا الحدائق الخضراء، فالطبيعة تبث مؤثراتها النفسية والروحية على الكائنات بمناظرها الخلابة وروائحها العبقة وصورها النضرة، فترسم ملحمة عشق كبيرة قوامها الرؤية التي تفتح الشهية للحياة والرؤيا في استقدام الوصف الجمالي لعلاقات الأشياء ببعضها.

الحدائق مقاطع مترفة من الطبيعة مهما صغرت أو كبرت. أشجار وزهور واغصان وشذى ودوالي واعشاب وطيور وخمائل وصوابيط مزركشة بنور الشمس وكروم ورائحة وأوراد وأوراق ومياه وعصافير وأجنحة وريش ورفرفة وزقزقة وهديل ونافورات وريحان ورذاذ وهواء نقي وطلْع ونخل وعنب ورمان وأكاسيا وجوري وليلك ورازقي وجهنمي وسوسن وقرنفل وبنفسج وبرتقال وارجوان وبيلسان وزعفران وخزامى ونعناع ونردين. وكل المسميات التي تحفل الطبيعة بها وتحميها.

آثار الحدائق ... دائماً يبقى التاريخ مصدراً لعلاقة الإنسان بالطبيعة، كي تكون الطبيعة مصدر جمال أثير ومتعة فريدة. وعندما بدأ الإنسان علاقته بالطبيعة سجل له التاريخ خطوات طويلة في الحفاظ على مفردات الطبيعة والالتصاق بها، وهكذا كانت ثمة أنظمة تاريخية مختلفة للحدائق. وكانت لها حضارة خضراء على مر العهود والعصور، وعدّها البعض فناً عبّر عن النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في فترات مختلفة من حياة البشرية؛ فالآثار الفرعونية المتبقية كشفت عن اهتمام المصريين القدامى عن عنايتهم بمختلف الفنون وحظيت حدائقهم بلمسات فريدة من الجمال.

وقد قام ملوكهم بارسال البعثات الى الاقطار المجاورة لاستيراد نباتات غير موجودة بمصر من قبل وأظهروا اهتمامهم بالنباتات بما هو واضح على آثارهم من ازهار اللوتس البردي واوراق النخيل، وتتميز الحديقة الفرعونية بالهندسة المتناظرة وانها مكشوفة يتوسطها حوض ماء مستطيل الشكل تحف به نبات اللوتس والشجيرات القصيرة من الدفلى والياسمين، ومن أمثلتها حديقة مور الفرعونية، ومن أقدم الحدائق الصينية حديقة ليانغيوان واسمها القديم تشيونشينغ تساوتانغ، بنتها أسرة ليانغ بمنطقة شونده خلال أربعين عاما في فترة أسرة تشينغ.

توزيع البنايات دقيق، تتداخل البيوت والمعبد والحدائق في بعضها كوحدة متكاملة، والمناظر الصناعية بها ذات ذوق رفيع، تتميز بأسلوب المناطق المائية لمنطقة لينغنان في مقاطعة قوانغدونغ.

تاريخ الحدائق على مر العصور... تنظيم الحديقة فن عالمي رافق الإنسان منذ القدم عندما كان يبحث عن الجمال في الطبيعة، ويأتي الباحثون على تقسيم العصور التي كانت فيها الحديقة تأخذ حيز الاهتمام من الانسان، ليكشفوا براعة الانسان القديم وحضاراته المتعاقبة في مختلف الفنون.

ولم يكن فن الحدائق طارئاً أو هامشياً في الحياة اليومية آنذاك، بل كان في صلب الاهتمامات الرائعة في عقلية اصحاب القصور من الملوك والفنانين والزراعيين، فحدائق العصور القديمة كانت تمثل مختلف الحضارات العريقة. ووجدت لخدمة الأغراض الدينية حيث كانت جزءاً لا ينفصل عن المقابر، كالحدائق الفرعونية التي يغلب عليها الماء وهو يمثل عند المصريين القدامى نهر الحياة.

أما الحدائق الآشورية فهي محاكاة لحدائق القدامى المصريين، حيث نقل الملك «آشور» معه إلى بلاده طراز حدائق مصر الفرعونية عندما غزاها في القرن السابع قبل الميلاد.

والحدائق الإغريقية يطلق عليها حدائق الفلاسفة لازدهارها في عهد الفلاسفة الإغريق القدامى الذين أكسبوا هذه الحدائق طابعا جديدا. فكانت الحديقة الإغريقية مصدراً لخدمة أحاسيس الإنسان وفكره بدلاً من اقتصارها على إنتاج الغذاء أو الترفيه أو الغرض الديني منها.

وكان الغرض من إنشاء الحديقة الصينية هو التأمل للفلاسفة وأصل الفكر ليصبحوا في عزلة عن الناس، إذا جاء تصميمها يساعد على هذا التأمل وطول التمتع بالمنظر الذي يقع عليه البصر، والحدائق اليابانية في العصور الوسطى تجمع بين الأشكال الطبيعية والأشكال الهندسية وتتميز بوجود ثلاثة أشكال من الحدائق فيها. الحديقة المنبسطة تُستخدم في المساحات الصغيرة للمنازل والحديقة الجافة، والحدائق الصخرية والمائية.

أما الحدائق الإسلامية فيطلق عليها الحدائق العربية الأسبانية، فأسبانيا تعتبر همزة الوصل ما بين أوربا وما بين الشرق الأوسط خلال العصور التاريخية القديمة لذا فهي جمعت ما بين الحضارة الحدائقية الأوروبية والحضارة الإسلامية الشرق اوسطية وكان للحدائق الأسبانية طابع مميز يعكس فلسفة الفن العربي، كحدائق الهمبرا حيث صحب المسلمون معهم إلى أسبانيا حب الطبيعة التي تمثل حياة البادية لديهم بما فيها حب المناظر الطبيعية.

الحدائق المغولية في الهند وغيرها

أدخل المغول في حدائق الهند الطراز الفارسي عليها وكان طراز الحدائق الهندية أو المغولية قد أُنشئت حول القصور وحول المقابر وليس في وسطها كما هو متعارف عليه، كانت الأشجار الغالبة في الاستخدام والتي تحيط بالحديقة في صفوف ومسافات متساوية هي أشجار السرو بالإضافة إلى أشجار الفاكهة والنباتات العطرية، أما الحديقة الإيطالية فقد ظهرت في عصر النهضة امتداداً للحدائق الرومانية القديمة، ومن أشهر الأمثلة للحضارة الحدائقية الإيطالية حديقة فيلالانت للمهندس «فيجنولا» التي صممها عام 1564.

بلمسات من فن النحت والزخرفة ووُضعت التماثيل في أماكن ظاهرة بالحديقة، بوجود عنصر الماء الذي يربط بين أجزاء الحديقة، واستخدام النظام الهندسي الذي كان يغلب عليه وجود الترّاسات المتتالية.

على إن الحدائق الفرنسية الارستقراطية وقد سميت بهذا الاسم لأن المجتمع الفرنسي التف حول الملك وحاشيته وظهرت عليه معالم الحكمة والثراء والتحرر والعلم الذي انعكس في كل شيء في حياتهم وخاصة في نظام حدائقهم التي كانت مسرحاً يعكس حياتهم المليئة بالعظمة والتي كان يُقام عليها حفلات البلاط الملكي للحفاظ على مظاهر القوة والجاه.

فلسفة الحدائق

تاريخ الحدائق الإنجليزية مر بمرحلتين، مرحلة الاقتباس ثم مرحلة التفرد والإبداعية. فالأولى أثمرت عنها الحدائق المتناظرة أما الثانية فأثمرت عنها الحدائق الطبيعية، وبرحيل الحدائق الرومانية حدث ركود في الفن الحدائقى واقتصر على الأديرة والتي كانت تنحصر الحاجات فيها على تربية الأسماك وزراعة الكروم والخضروات من أجل الغذاء والأعشاب للعلاج والزهور لتزيين محراب أديرتهم.

ثم جاء العصر «الساكسونى» لتخرج الحدائق من جدران الأديرة لتقام حول سور المنازل ثم تطورت في مساحتها وما تحتويه من أنواع نباتية.

وفي عصر «هنري الثاني» وبداية السلام في إنجلترا أُنشئت الحدائق العامة لأول مرة في المدن إلى أن قامت حروب (War of Roses) وعاد السلام من جديد لتظهر الحدائق «التيودورية» نسبة إلى «تيودور» الذي قام بتصميمها في عصر الملك «هنري الثامن» وتميزت باحتواء الحديقة الواحدة على أقسام مستقلة لا ترتبط بتصميم أساسي.

وإذا كان «تيودور» هو رائد الحدائق المتناظرة فقد جاء «فانبرو» لكي يكون رائد الحدائق الطبيعية والذي قام بتصميم «حدائق قلعة هوارد الطبيعية». ثم جاء اللورد «برلنجتون» لكي يستخدم الحديقة الطبيعية المنزلية ونشرها بين أصدقائه والتي كان يغلب عليها الطرق غير المستقيمة بين الزروع وفي أماكن غير متناظرة.

القرن العشرون وحدائق العصر الحديث

يلتصق الإنسان بالطبيعة كلما باعدته التكنولوجيا، ليكون قريبا من ثقافة الطبيعة وأجوائها الحميمة، فالعصر الحديث في اطلالة القرن العشرين عكس تصورات جديدة لثقافة الحديقة؛ فحدائق أميركا ما هي إلا مزيج من حضارات حدائقية تاريخية قديمة، فقد اقتُبِست من قواعد الحدائق الإنجليزية التي وضعها كل من «روبنسن وجيكل» بالإضافة إلى وجود الطابع اليابانى عليها. ثم تأثير مدرسة «بوهومى» الهندسية في استخدام الأشكال الحرة.

وخروجاً من الاقتباسات القديمة لحضارة الحدائق، كان هناك تجديد ملحوظ في استخدام هذا الفن في سويسرا لتخرج أوروبا بذلك من قوقعة التقليد والمحاكاة لتشق الطريق للتفرد والتطور في تصميم الحدائق الأوروبية، فظهرت التصميمات المرنة للأشكال غير المتماثلة المتداخلة مع بعضها إلى جانب استخدام النسب غير التقليدية في المساحات وإدخال التماثيل التي تعكس الدور الإنساني. وانتقالاً إلى أميركا الشمالية والبرازيل تحولت التصميمات إلى الأشكال المتماثلة مع الابتعاد عن الأشكال الهندسية التقليدية ووجود مساحات لونية كالتي تتميز بها اللوحات التجريدية.

وكانت هناك لمحة من تأثير الحدائق اليابانية على حدائق أميركا الشمالية من طريقة تكوين مجموعات صغيرة من الصخور والنباتات، وهناك طراز آخر أسباني لُوحظ في حدائق كاليفورنيا من المساحات الخضراء الواسعة لتعكس أشعة الشمس الساطعة.

كما بدأ الاستعانة بعناصر جديدة في إنشاء الحدائق بعيداً عن أشكال الحجر المنحوت مثل الخشب والخرسانة والمعادن والزجاج والذي خرج في أشكال جديدة حيوية.

ويمكن تقسيم الحدائق الصينية من الناحية المعنوية إلى ثلاثة أنماط هي الحدائق التي تجسد الأفكار الكونفوشوسية الداعية إلى الواقعية والمسؤولية الاجتماعية العالية الدرجة والالتزام بالأخلاق والقيم الأساسية والاهتمام بالسياسة، والحدائق التي تجسد الأفكار الطاوية الداعية إلى العودة إلى الطبيعة والاسترخاء والتثقيف الذاتي، والحدائق التي تجسد أفكار أصحابها.

وتمثل الأنماط الثلاثة المذكورة كلا على حدة حديقة يوان مينغ يوان الإمبراطورية المشهورة في بكين ومعبد قوه تشانغ الطاوي على جبل تشينغ تشنغ بمقاطعة سيتشوان والحدائق الخاصة بوجهاء المجتمع ومثقفيه.

جنائن بابل المعلقة

جنائن أو حدائق بابل المعلقة إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم. وكانت محاطة بخندق مائي. بناها نبوخذ نصر الثاني للملكة أمييهيا والتي كانت من الطبقة الوسطى في البلاد وجاءت من المناطق الجبلية إلى ارض بابل المنبسطة، فظلت تشتاق إلى رؤية الجبال والحدائق في وطنها ميديا. بنيت الحدائق تقريبا 600 ق. م.

في بابل، وكان للحدائق المعلقة ثماني بوابات أفخمها بوابة عشتار. وزرعت فيها جميع أنواع الأشجار والخضروات والفواكهة والزهور وتظل مثمرة طول العام وذلك بسبب تواجد الأشجار الصيفية والشتوية، ووزعت فيها التماثيل بأحجامها المختلفة في جميع أنواع الحديقة.

وقد استخدم الملك لبناء هذه الحدائق الأسرى اليهود الذين جلبهم من بلاد الشام في ذلك الوقت وجعلهم يعملون ليل نهار لإنجاز هذا الصرح العظيم. والحدائق عبارة عن أربعة أفدنة على شكل شرفات معلقة على أعمدة ارتفاعها 75 قدماً.

طفرة في تصميم الحديقة الفرنسية

المصمم «أندريه لينوتر» أحدث طفرة في فن الحدائق في الفترة ما بين 1656 إلى 1661 والذي اتبع ثلاثة مبادئ في تصميماته للحدائق الفرنسية هي وجود مساحة شاسعة أمام المباني تمتد من بعد الحديقة واتباع البساطة في محاور التصميم على أن يكون هناك محور أساسي تتعامد عليه محاور ثانوية وفى زوايا المحاور تكون هناك تابلوهات أرضية منسقة بالتماثيل والنافورات والتركيز على أهمية المحور الأساسي ورؤية العين له على امتداد النظر رغم اختلاف في وحدات التناظر وهو نفس التصميم الذي استند إليه الملك «لويس الرابع عشر» في تصميم حدائق فرساي.

حديقة الحدائق

تعتبر حديقة يوان مينغ يوان أشهر الحدائق الإمبراطورية الصينية ويطلق عليها لقب «حديقة الحدائق». جمعت الحديقة مختلف فنون بناء الحدائق في كل أنحاء الصين واستفادت من بعض الأنماط المعمارية الغربية.

ولم تكن حديقة يوان مينغ يوان أجمل استراحة امبراطورية في الصين فحسب، بل ذاع صيتها في أوروبا أيضا، ولها تأثيرات أكيدة على تطور الحدائق الطبيعية الأوروبية في القرن الثامن عشر. ومن المؤسف أن حديقة يوان مينغ يوان أحرقت ودمرت في عام 1860 من قبل قوات التحالف البريطانية والفرنسية الغازية.

وارد بدر السالم

Email