التنوع البيولوجي وأخلاقيات العلاقة بالحيوان عبر العصور

التنوع البيولوجي وأخلاقيات العلاقة بالحيوان عبر العصور

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ فجر التاريخ وضعت البشرية تصوّراتها المتباينة حول علاقة الإنسان بالمحيط الطبيعي، ويقول غاندي: «يمكن الحكم على عظمة الأمة وتقدمها الأخلاقي من طريقة معاملتها لحيواناتها»، وتشير الدراسات الحديثة إلى مدى الارتباط ما بين مستوى الرقي الأخلاقي والحضاري وبين أشكال تفاعل البشر مع الكائنات الحية الأخرى في إطار تجمعاتهم المختلفة، وهناك بحوث ركزت على العلاقة الوثيقة ما بين غياب الحقوق المدنية وإساءة التعامل مع الحيوان.

وقد تميزت العقود الأخيرة بازدياد الوعي بأهمية المجال الحيوي وضرورة صونه من أية ممارسات تضر به، وتبلورت جملة من المفاهيم النظرية والاتفاقيات الدولية والتجمّعات التي تنضوي جميعا تحت راية ما بات يُعرف اليوم بالحفاظ على التنوع البيولوجي والدفاع عن البيئة وحقوق الحيوان، فما الذي تعنيه هذه المقولات، وكيف تطورت عبر العصور؟ يتكون المجال الحيوي من كم هائل من الكائنات الحية التي تعيش على الأرض، وهي على تنوع كبير، لم يُعرف حجمه على وجه الدقة بعد، فحسب تقديرات منظمة البيئة العالمية يتراوح عدد أنواع الكائنات الحية بين 5 و 80 مليونا أو أكثر، ولكن الرقم الأكثر احتمالا هو 10 ملايين نوع، والعلم لم يصف منها سوى 4,1 مليون نوع، من بينها 750 ألف حشرة و 41 ألفا من الفقاريات و 250 ألفا من النباتات، والباقي من مجموعات اللافقاريات والفطريات والطحالب وغيرها من الكائنات الدقيقة، ويُعتبر كل نوع من هذه الأنواع ثروة حقيقية، بما يحتويه من مكونات وراثية، يمكن انتقالها من جيل لآخر للحفاظ على النوع، أو تعديلها جينيا للحصول على أنواع أخرى.

هذا التنوع كان دائما عرضة إلى التناقص إما بسبب عوامل جيولوجية، أو بسبب عوامل من صنع البشر كالتلوث البيئي والإفراط في استغلال الموارد واستخدام المبيدات وقطع الغابات والحروب وما شابه، ويُعتبر العصر الطباشيري (منذ 65 مليون سنة) أحد العصور الجيولوجية التي حدث فيها انقراض واسع لأنواع كثيرة من النباتات والحيوانات، ولعل أشهرها الديناصورات، وقد أوضحت الدراسات الحديثة أن التنوع البيولوجي يتناقص بمعدلات سريعة نتيجة للنشاطات البشرية المختلفة، وبالرغم من أنه لا يمكن وضع تقدير دقيق لأنواع الحيوانات والنباتات التي انقرضت، إلا أن البيانات تشير إلى أنه منذ عام 1600 انقرض 724 نوعا، وفى الوقت الحالي يوجد 3956 نوعا مهددا بالخطر و3647 نوعا معرضا للخطر و7240 نوعا نادرا، وقد ذكرت بعض التقارير أن 25% من التنوع البيولوجي معرضة لخطر الانقراض خلال ال20-30 سنة القادمة.

أهمية المجال الحيوي... إن حماية سلامة المجال الحيوي هي رهن بالحفاظ على التنوع البيولوجي الذي هو الأساس في الإبقاء على الثروات والموارد البيئية من المحاصيل الغذائية وسلالات الماشية والمنتجات الأخرى التي هي أساس حياة البشر على هذه الأرض، وعامل رئيسي من عوامل تطوير الزراعة والطب والصناعة، فعلى سبيل المثال تبلغ قيمة الأدوية المستخلصة من النباتات البرية في العالم حوالي 40 مليار دولار سنويا، ويوفر الحطب وروث الحيوانات ما يزيد على 90% من احتياجات الطاقة في الكثير من الدول الآسيوية والأفريقية، وفى بوتسوانا يوفر ما يزيد عن 50 نوعا من الحيوانات البرية البروتين الحيواني الذي يشكل 40% من الغذاء في بعض المناطق.

أيضا يسهم التنوع البيولوجي في نمو السياحة، فالطبيعة الغنية بالنظم البيئية الفريدة والكائنات النادرة بدأت تأخذ قيمة اقتصادية حقيقية، فعلى سبيل المثال في مصر تدر مناطق سياحية مثل رأس محمد بسيناء أكثر من ثلاثة ملايين جنيه سنوياً من الغطس لمشاهدة الشعاب المرجانية في البحر الأحمر وخليج العقبة.

ويُقدّر أن كل أسد في حديقة قومية أفريقية يجذب من الزوار سنوياً بما قيمته 27000 دولار أميركي، وكل قطيع من الفيلة له قيمة مالية سنوية تُقدّر بحوالي 610000 دولار أميركي .

وقد دخلت الحيوانات والطيور حلبة التسويق، وباتت تجارة مربحة تصنف الثالثة في العالم بعد المخدرات والأسلحة، وحسب الإحصاءات العالمية المختصة فإن حجم هذه التجارة يتراوح بين (160 ـ 180) مليار دولار سنوياً.

الحفاظ على البيئة عبر العصور

إن كل نوع من الكائنات الحية هو شريك في هذا التراث الطبيعي الذي يسمى المحيط الحيوي، وبالتالي فإن لكل نوع الحق في البقاء، وتهديد أو فقد أي منها هو بمثابة خلل ثقافي وأخلاقي، وهذا المفهوم المعاصر بدأت إرهاصاته الأولى بالظهور مذ بدأ الإنسان بالزراعة وتربية المواشي وتدجين الحيوانات الضارية قبل حوالي سبعة آلاف عاما في منطقة بلاد الشام وما بين الرافدين ومصر، وقد حملت الحضارات القديمة والمعتقدات الدينية تصورات مختلفة حول علاقة الإنسان بالكائنات الأخرى -لاسيما الحيوانات- بدءا من قصة الطوفان وإنقاذ زوجين من كل جنس حي.

وفي كتابها «الرفق بالحيوان في مصر عبر التاريخ» تذكر الباحثة روث ونغيت فوستر: أن نصوص مصر القديمة وأعمالها الفنية تزودنا بمصادر ثرية من البراهين والأدلة التي تشي بالتعامل المثالي مع المواشي والحيوانات الأليفة، فتخبرنا النصوص أن الأسماء كانت تطلق على الجياد والأبقار والثيران، وكانت تتلقى العناية الطبية والحماية القانونية ضد إساءة المعاملة، كما أن الفراعنة أُغرموا بالحيوانات الأليفة سيما الكلاب والقطط والقردة والرباح والظبيان.

وغالبا ما صوّرت الأعمال الأدبية والفنية الحيوانات وأصحابها من البشر، ويمكننا الحكم من خلال الأدلة المصوّرة أنه منذ حقبة المملكة الوسطى بدأت القطط تصبح مألوفة في الأسرة، وأنها كانت الأثيرة عند الإناث، وكانت مثل مالكيها ترتدي الياقات المزينة بالحلي والإكسسوارات، وتُدفن في مدافنهم.

وعلى خلاف ذلك تذكر الباحثة: أن المعتقدات اليونانية القديمة اعتبرت الكائنات البشرية هي قمة الخلق، وتأتي في مرتبة تحت الآلهة مباشرة، وفوق الحيوانات بكثير، وعدّ الرومان الجمهوريون امتلاك الحيوانات المنزلية الأليفة عادة غريبة ومشبوهة، وقد ساهمت هذه المعتقدات بتدن غير مسبوق في التعامل مع الحيوان.

الإسلام والبيئة

نظر الإسلام إلى الكون نظرة شمولية فكل ما على البسيطة من كائنات حية هي من خلق الله وملكه، وبالتالي لا تجوز الإساءة إليها . أو استغلالها لأهداف وضيعة، فكما جاء في سورة النور، «والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع»، وعليه فقد ألّزم الإسلام كل فرد بحماية العالم الطبيعي، وألّزم الدولة باستصلاح الأراضي وعدم هدر الموارد، واعتبر أن الإحسان إلى الحيوان بمنزلة الإحسان إلى الإنسان، فالرجل الذي كان يسير في الصحراء، وسقى كلبا عطشا بفردة حذائه، كانت الجنة مثواه، والمرأة التي حبست الهرّة وعذبتها، كانت جهنم من نصيبها، بحسب الأحاديث الشريفة.

أدبيات الحيوان العربية

انعكست تعاليم الرفق بالحيوان على المستوى الثقافي أيضا في العديد من الأدبيات والمؤلفات العلمية التي أنتجها الحضارة العربية الإسلامية، فثمة نصوص نثرية وشعرية اتخذت من عالم الحيوان فضاء لها مثل كتاب «كليلة ودمنة» وهو مجموعة قصص بلسان الحيوانات ، جمعها ووسعها ابن المقفع الذي عاش في القرن الثامن، وقد تُرجم الكتاب في القرون الوسطى إلى عشرات اللغات، وعُدّ من بين أكثر المؤلفات رواجا في العالم.

وفي القرن التاسع ألّف الجاحظ مخطوطه الشهير «كتاب الحيوان» الذي يقع في ستة وخمسين فصلا، وفيه أقام السجالات بين الحيوانات، وكتب عن تفوق العرب بعلم الحيوان على اليونان، وعن الفروق بين الحيوانات المدجّنة والحيوانات الأليفة، ورأى أن جميع الكائنات الحية برهان على وجود الله، حتى لو كان الجنس البشري لا يفهم الفائدة أو المغزى.

وثمة كتب أخرى كثيرة امتدحت فضائل الحيوانات منها «الحيوان مقابل الإنسان أمام ملك الجن» لإخوان الصفا في القرن العاشر، وكتاب ابن المرزرون «فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب» الذي يضم شعرا ونثرا عن كلاب لا تكتفي بإنقاذ البشر من المخاطر، بل تعاقب الأشرار نيابة عن أسيادهم، أما الشاعر أبو العلاء المعري الذي عاش في القرن الحادي عشر فقد كان نباتيا صارما، وبدا انه عاشق للحيوانات أكثر من حبه للبشر، وفي كتابه «رسائل جواد وبغل» يناقش وينتقد هذان الحيوانان الوضع السياسي في بلاد الشام.

أما على المستوى العلمي والنظري فهناك كتيبات عربية بيطرية تضم رسوما بيانية تفصيلية لفيزيولوجيا الحيوان لاسيما الجواد، وهناك موسوعة «حياة الحيوان الكبرى» لكمال الدين الدميري (1341-1405)، وهي مزيج من العلم والأدب والفلسفة والتاريخ، مرتبة حسب حروف الهجاء، فيها تعداد لأسماء وميزات الحيوانات التي كانت معروفة حينذاك، وأحكام الشريعة فيها، وبعض الأحاديث النبوية والأشعار التي أتت على ذكرها.

وفي القرن الثالث عشر الميلادي كتب الباحث الشرعي الإسلامي عز الدين بن عبد السلام مخطوطه «قواعد الأحكام في مصالح الأنام/ من جلب المصالح ودرء المفاسد» وضمّنه كافة حقوق الحيوانات على الإنسان من الحماية والنفقة والطبابة إذا مرضت، وعدم تعذيبها أو تحميلها ما لا تطيق، وعدم الجمع بينها وبين ما يؤذيها من جنسها أو من غير جنسها، وسوى ذلك من أشكال الرعاية والصون والرفق، بحيث يُعتبر هذا الكتاب بمثابة الإعلان المنصوص الأول لحقوق الحيوان في العالم(3).

المفاهيم والأنشطة المعاصرة

إذا كانت تلك هي لمحة مختصرة عن المبادئ والأفكار الأولية لعلاقة البشر بمحيطهم الطبيعي، فإن المعطيات والنظريات الحديثة التي طورتّها الحضارة الغربية منذ أوائل القرن العشرين قد ألحّت على فكرة التعامل مع المجال الحيوي بوصفه وحدة متكاملة ومتناغمة من المكونات، لا بوصفه مجموعة من الجزئيات المتناحرة.

وبات من المؤكد اليوم أن استمرار حياتنا على هذه الأرض رهن بسلامة البيئة، وبذلك فقد ارتفعت أعداد حركة أنصار البيئة والمدافعين عن حقوق الحيوان، وتصدّرت الكلاب والقطط وسواها الكثير من الأعمال الدرامية الأجنبية، وتم توقيع العديد من المعاهدات الدولية، كالاتفاقية المتعلقة بالحفاظ على الحيوانات والنباتات على حالتها الطبيعية (1933).

واتفاقية سايتس الخاصة بتجارة الأنواع المهددة بالانقراض من الحيوانات والنباتات البرية (1973)، واتفاقية الحفاظ على التنوع البيولوجي (1992)، ومع أن هذه الأنشطة والإجراءات القانونية لم تحدّ بالكامل من مختلف أشكال الإضرار بالبيئة كالحروب والتجارب النووية مثلا، غير أنها باتت تشكل عامل ضغط حقيقي على سياسات الحكومات الغربية.

لكن الغريب أن هذا الوعي العالمي بأهمية البيئة الذي انطلقت بوادره من المنطقة العربية، لم يُثمر في الواقع العربي الراهن، فتربية الحيوانات الأليفة في منازل المدينة، والرفق بهم في الشوارع أمر مستنكر ويثير السخرية لدى الكثيرين، وهواية الصيد والاتجار بالأنواع النادرة لم تردعها كل القوانين المحلية ولا الاتفاقات الدولية، وقطع الأشجار لبناء بيوت إسمنتية قبيحة ومخالفة للنظام حدث مكرور.

وتلويث الهواء والمياه وهدر الموارد، وما إلى ذلك من الممارسات السلبية، هي شاهد حي على بعض أشكال الإساءة إلى الطبيعة وغياب الوعي بضرورة حمايتها، ونذكر على سبيل المثال اندثار نبات البردي وطائر الأيبس المقدس من البيئة المصرية، وانتقال الدب البني السوري إلى مناطق أخرى من العالم، فأين هي أخلاقيات تراثنا المجيد من حياتنا المعاصرة؟

تهامة الجندي

Email