«السبيبة» عيد سلام طوارق الجزائر

«السبيبة» عيد سلام طوارق الجزائر

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يحتفل سكان منطقة جانت الواقعة بأقصى جنوب شرق الجزائر على الحدود مع ليبيا سنويا بعيد «السبيبة» الذي يرمز للسلام والتسامح والتواصل. وهو أكبر الأعياد على الإطلاق عند شعب الطوارق ويرتبط بأحداث تاريخية تعود لمئات السنين. ويصادف الاحتفال بهذا العيد بداية شهر محرم بالتقويم الهجري من كل عام ويختتم بمهرجان كبير يوم عاشوراء.

يشارك جميع السكان من الجنسين ومن مختلف الأعمار في أفراح تحييها فرق فنية على مدى عشرة أيام. ويواكب الحدث، برنامج استعراضي متنوع ومثير، يشمل على الخصوص كرنفالات في الهواء الطلق تترجم العواطف المشحونة التي يختزنها التراث العريق لقبائل الطوارق، وتؤجج الذاكرة الجماعية للسكان، وتدفعها إلى وحدة الهدف والمصير. ويطبع هذه الكرنفالات قالب كوريغرافي خاص، وتغني النساء، اللائي يظهرن بأجمل ما لديهن من لباس وحلي، أهازيج توارثنها جيلا بعد جيل يرقص على إيقاعها الرجال الملثمون وهم يرتدون اللباس الحربي ويحملون سيوفهم ويستعرضون قدراتهم القتالية في حركات بهلوانية بمضمون يستهجن الاقتتال، ولوحات بأبعاد إنسانية تجعل المشاهد يكتشف نبل شعب الطوارق وسعيه للسلم الأزلي.

أصل السبيبة لا توجد مراجع مكتوبة موثوقة عن أصل هذا العيد وبداية إحيائه والمبادرين به، لكن الرواية المتداولة الموروثة تفيد أن الاحتفال يتصل بنهاية حرب طاحنة بين قبيلتي «أورارم» و«تارأورفيت» وهما أكبر قبائل الطوارق الذين يعمرون تلك المنطقة منذ آلاف السنين، وعقد صلح تاريخي بينهما. وجاء قرار وقف الحرب ـ حسب ما صرح به بوعبيد موسى لـ «مسارات» ـ مباشرة بعد وصول أخبار سارة للمنطقة عن نجاة نبي الله موسى عليه السلام من الغرق وانتصاره على فرعون مصر. فجمع الفرح العارم بالخبر السعيد سكان القبيلتين المتناحرتين وما جاورهما فاكتشفوا أن الذي يجمعهم أقوى مما فرقهم عقودا، ما دفع العقلاء منهم للدعوة إلى وقف المواجهات بصفة كاملة وإحلال السلام والوئام وتكريس ذلك بإقامة أفراح مشتركة على مدى عشرة أيام يجمع فيها الشمل وتنحر خلالها الإبل وتقام الولائم.

وقال بوعبيد وهو من العارفين بتاريخ الطوارق وثقافتهم وطقوسهم بأن تكرار الاحتفالات كل عام ليس فقط تخليدا لذلك الاتفاق التاريخي ولكن أيضا تجديد للعهد ولمبدأ السلام وغرس قيمه في نفوس الأجيال الصاعدة.

وأكد أن هذه الرواية هي الأقوى وهي التي توارثتها الأجيال من أبناء الطوارق. وقلل من أهمية ما سماها «اجتهادات» في شكل مقالات نشرت على شبكة الانترنيت ربطت بين «السبيبة» عند الطوارق واحتفالات عاشوراء لدى الشيعة، وقال إن أعياد الطوارق سبقت عاشوراء التي يحييها الشيعة بمئات السنين، وهي أفراح بينما عند الشيعة ذكرى للبكاء والحزن.

«الحرب حماقة مركبة»

وفي زخم هذه المهرجانات الغنائية والرقصات الاستعراضية التي تؤديها فرق مختلطة من الرجال والنساء، يستحضر الطوارق تاريخهم القديم الحافل بالأحداث والمعاناة في طبيعة صحراوية قاسية ويتحدث العقال عن الحرب والسلام في حلقات، وينضم كل عام عدد من الصبية إلى تعداد من يخزنون هذا التاريخ في الذاكرة لروايته في السنوات المقبلة للناشئة.

ويشمل حديث العقال طرق العيش القديمة وعزة النفس لدى الطوارق وذودهم عن العرض والأرض حتى بلوغهم النهاية الأبدية للحرب فيما بينهم وتكريس قيم السلم والصفح والأمان في ربوع تلك المنطقة.

يقول عبد الحكيم وهو شاب من الطوارق استمعَ كثيرا لحكم العقال «لا توجد حرب بلا سبب، كما لا توقف الحرب بلا سبب... والحرب في المطلق حماقة مركبة، فيها يتصرف الإنسان ـ وهو الكائن العاقل ـ بغرابة.

حين يرشح نفسه للموت ويحملها في ذات الوقت مسؤولية القتل... هذه سمة يشترك فيها جميع من يقومون بفعل الحرب أو يغذونها... الأسباب مختلفة لكن الأحداث والنهايات واحدة». ويفتخر عبد الحكيم بأجداده الذين عانقوا الحكمة في لحظة تاريخية حاسمة فوضعوا حدا نهائيا لتلك الحماقة التي التهمت أكثر طوارق ذلك الزمن إقداما وقوة.

مناسبة للحب أيضا

وتوفر مهرجانات «السبيبة» فرصة سنوية الفتيات والفتيان للتعارف، باعتبارها أكبر التجمعات التي يلتقي فيها الطوارق على الإطلاق. ففضلا عن سكان منطقة «جانت» يحضر شباب من بني جلدتهم من مناطق أخرى مثل ولاية تمنراست الواقعة غربا ومن ليبيا ومالي والنيجر، فهم برغم وجودهم في دول مختلفة يشعرون بأنهم شعب واحد ويتحدثون لغة واحدة وينتسبون إلى عرق واحد وتاريخ واحد.

يقول بادي ديدا وهو من طوارق الأهجار وخبير أكاديمي مختص في دراسات الجزائر ما قبل التاريخ بأن فرصة التلاقي هذه تعطي حظوظا أوفر للشباب والشابات لبناء مشاريع زواج، ولا يمر مهرجان دون أن يسجل فيه عدد كبير من حالات الزواج. ويتقدم الفتى عادة لخطبة الفتاة التي أعجبته، وقد تجري الاتصالات الأولية خلال أيام «السبيبة» العشرة أو بعدها.

تخبر والدة الفتاة ابنتها بموضوع الخطوبة وتنتظر موقفها لأن الرأي الأول والأخير في أمر الزواج هنا لصاحبة الشأن ولا رأي يعلو فوق رأيها، فإن قبلت العرض قبل أهلها وظفر الفتى بمن اختار، وإن صدته بحث عن أخرى بلا أحقاد لأن المجتمع الطرقي ـ على عكس ما هو قائم لدى التشكيلات السكانية الأخرى في الجزائر من عرب وبربر القبائل والشاوية وبني ميزاب وغيرهم ـ يخضع حتى الآن لإرادة المرأة فهي الركيزة الأساسية في الأسرة ولها الشأن الأكبر في كل شيء.

وحين ترد الفتاة على والدتها بالقبول تجري الخطبة الرسمية ويحدد المهر وهو مختلف بين النبلاء والعامة ويحدد أيضا تاريخ الزفاف. وهنا أيضا يختلف الطوارق عن غيرهم فليس العروس التي تزف لبيت العريس ولكن العريس هو من يزف إلى خيمة قرب بيت أهل العروس، يبقى فيها العريسان حتى ينجبا أول أطفالهما وعندها يعود إلى عائلته ومعه الزوجة ورضيعها ويقام عندها حفل زفاف جديد لهما بمستوى الحفل الأول.

الاهتمام الرسمي

كان عيد «السبيبة» للطوارق وحدهم ولا يعرف عنه سكان مناطق الجزائر الأخرى غير ما قرأوه في الكتب عن عادات هذا الشعب، لكن اليوم ومع تطور الإعلام تغير الوضع فصار عدد كبير من الجزائريين يقطعون مسافة تتجاوز ألفي كيلومتر لحضور هذه الاحتفالات البهيجة والاقتراب من هذه الثقافة الغريبة.

كما أن الدولة الجزائرية اهتمت بالطوارق وبثقافتهم وعاداتهم وتشجعها مثلما تفعل مع باقي مكونات المجتمع. ففي هذا العام خصصت وزارة الثقافة ثلاثة ملايين دينار لإنفاقها بمناسبة لعيد «السبيبة» الذي جرى الشهر الماضي لتطويره وتحويله إلى فرصة تحول منطقة الطاسيلي الغنية بكنوز من آثار الإنسان الجزائري القديم إلى قبلة للسياح. كما تريد تحويلها إلى منتدى ثقافي تاريخي لتطوير التعرف على تاريخ الجزائر القديم وقيم السلام والتسامح والتآزر.

وعلى هامش الاحتفالات التقليدية تم تنظيم منتدى حول التراث اللامادي لمنطقة الطاسيلي نشطه باحثون مختصون في الآثار والحضارات القديمة والانثربولوجيا من بعض جامعات الجزائر.

كما عرضت أشرطة وثائقية للجمهور الذي قدم من مختلف مناطق الجزائر ومن خارجها أيضا لمشاهدة أطوار احتفالات «السبيبة» ونشطت إذاعة الطاسيلي المحلية حصصا حول تاريخ الطوارق والآثار القديمة التي تزخر بها المنطقة من نقوش ورسوم على الصخور وجدران الكهوف تعود لما بين عشرة آلاف وسبعة آلاف سنة، ففي منمقة «الطاسيلي» التي تعتبر «جانت» عاصمتها يوجد أكبر متحف مفتوح على الهواء في العالم يتمثل في محمية مترامية الأطراف تجمع هذه التحف الأثرية وأنواعا نادرة من الحيوانات البرية والطيور، وتعمل الجزائر على أن تجعلها قبلة للسياح ضمن مشروع عشرة ملايين سائح أجنبي في آفاق 2020.

احتفالات السلام

تتخذ احتفالات عيد السبيبة عند الطوارق طابع كوريغرافي خاص، حيث تغني النساء، اللائي يظهرن بأجمل ما لديهن من لباس وحلي، أهازيج توارثنها جيلا بعد جيل يرقص على إيقاعها الرجال الملثمون وهم يرتدون اللباس الحربي ويحملون سيوفهم ويستعرضون قدراتهم القتالية في حركات بهلوانية بمضمون يستهجن الاقتتال، ولوحات بأبعاد إنسانية تجعل المشاهد يكتشف نبل شعب الطوارق وسعيه للسلم الأزلي.

مراد الطرابلسي

Email