أدب

الشاعرة عائشة أرناؤوط: الكتابة هبة تخرجني من المواقيت المتداولة

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

حين تتحدث الروائية والشاعرة عائشة أرناؤوط، لا تخلو كلماتها من الشعر، فتعكس بهذا الاختلاف الذي يميزها، عن غيرها، وكأنها تمارس طقوس الكتابة في تفاصيل حياتها اليومية.

لم يكن الشعر وسيلة إبداعها الوحيدة بل دخلت ميدان الرواية كوسيلة تعبير وأحتجاج عالية، مازجة بين الشعر والرواية لكي تستخلص منهما لغتها الاثيرة التي تحاول أن تختبر فيها المصير والحياة، معتبرة أن الكتابة هبة تخرجها من المواقيت المتداولة. «مسارات» ألتقت عائشة الارناؤوط وكان معها هذا الحوار التالي نصه: كيف تلخصين كتابتك لروايتك الأولى «أقودك إلى غيري»؟وهبتني كتابة «أقودك» الوجد اللغوي والأرق الحسيّ معاً. قد أعجز حقاً عن وصف تلك اللحظات، هي نشوةُ تلاصُقِ جسدي، لَهْوُ طفلين في ألعاب المفاجآت. التناضح الذهني والحسي بيننا. هذه الدرجة من التماهي تجعلني أتساءل: من منا كتب الآخر فعلاً؟ أنا أم هي؟ لم أعرف علاقة انصهارية مماثلة إلا في العشق، تلك العلاقة تحققت معها أيضاً. وأؤكد لكِ أنَّ في ما أقوله واقعيةً قد لا تصدقينها لكنني عشتها وأعيشها.كانت كتابة «أقودك» زمنياً مرتبطة بالفجر، ولم أدرك آنذاك أنها بتمخضاتها ستمنحني أيضاً فجراً داخلياً متفلتاً من المواقيت المتداولة، يعبر سلافة الزمن ليبقى فجراً دائماً لا يستريح... يفتح أمامي احتمالات نهارات دائمة ترنو إلى عَوْدٍ أبديّ.

ما تأثير الشعر على كتابتك الروائية؟ خاصة وأن أقودك إلى غيري كانت مشبعة بالجمل الشعرية، بل انها في بعض صفحاتها قصيدة طويلة؟

ربما كان قدر الرواية عندي أن يدخل الشعر من مسامها، دون دعوة، بل دون استئذان أحياناً، لكن ثقتي به عمياء ـ أنا المولهة بالارتيابات، أقول: «ثقتي به!» ربما لأنني أعرفه منذ زمن بعيد، أعرف أهواءه وحكمته. يستحق فعلاً تلك الثقة، فهو يتموضع حيث له أن يكون... دون أيّ انتهاك لنسيج الرواية... هذه هي رؤيتي حول الموضوع.

الشعر احتضانيٌّ، قابل لكليّة الأشياء دون تفاصيل، لرقرقةٍ دون صوت، لحالةٍ ملتبسة بين إدراك ووجود، بين حسٍّ وحَدْس. وهنا تكمن صفة «المطلق» فيه. كتبت شعراً عن روايتي، عن أطيافها فيّ، وقَبِلَ كَرَمُه احتضان تلك القصائد.

كيف تلخصين طقوس كتابتك الروائية، ومدى اختلافها عن كتابة الشعر؟

يأتي الشعر كنعمة الصدفة، يتدفق بلا توقعات، ينهمر دون تساؤل. الشعر وجود لايُصنع، ماهية لاتُدرك إنما تفتح الإدراك. قوام مفاجئ وسهل الولادة كنور موجود (بالقوة) يَدْفُق (بالفعل) حين تنزاح الغيوم قليلاً. علاقتي بالشعر علاقة وجديّة وشغفية وعضوية، وحين يأتي ينتفي مفهوم الوقت والانتظار، ينتفي كل شيء معه للتفاني الثنوي في الواحد. ماذا أقول عنه، توأم المطلق هذا؟

بينما الرواية تبدأ عندي انطلاقاً من أفكار تدهشني، لتأتي بعدها مرحلة الإعداد للصقل، تتوافد فيها جميع الوسائل المتاحة، خيال، تداعيات، مفارقات، صور عابرة يمكن أن تكوّن محاور متقاطعة أو متوازية، بالإضافة إلى توظيف المحمول المعرفيّ والحسي والخبرويّ.

مرحلة فيها من التعقيد والتوحد مايكفي ليجعلني أشعر أن أكثر ما كنت أرمي إليه ليس إلا وهماً، حينها تتحول أهدافي من صياغة الصور الذهنية (الجامدة) إلى رغبة عارمة في إتاحة التنفس لتلك المادة التي تخفي أسراراً لانهائية، أسراراً لا تنكشف إلا خطوة.. خطوة مع إثغارات وجودها.

كثيرا ما تطالعين الكتب العلمية، كيف توظفينها أدبياً؟ وهل تؤثر الثورة العلمية على الآداب بمختلف فروعها؟

يتحدر شغفي بالعلوم من رائحة المحابر المدرسية وألواح الصف الخضراء المحشوة بالمعادلات. كنت أرى فيها عالماً موازياً، مجرداً إنما يتنفس، طبعاً طرأت على رؤيتي تلك تحولات جعلتني أكثر جرأة في تلك الملامسات المحرّمة.

أما بخصوص التوظيف، لايمكنني أن أقزّم المفاهيم العلمية لاستخدامٍ توظيفي مباشر في الأدب. ما تقدمه لي العلوم، هو تجذير حسيّ مُدرَك لحالة من الوجود تبقى ملتبسة علي حتى أتلمس مفاتيحها التوأمية.

حينها أدرك عضوياً وحدة الوجود فعلاً. كما أن العلوم (وبالذات الفيزياء الكوانتية) وهبتني بخيالها الواقع، فكلما ابتعد الكائن عن الواقع يقال إن خياله واسع ومذهل. في العلوم أجد العكس، كلما دخلتُ في الواقع الحدثي اللحظيّ للعناصر أتلمس لانهائية الخيال. وهو ما جعلني أحرر تركيبتي الذهنية، أتحدث هنا عن الخيال حصراً.

بينما هناك في العلوم كثير من المعاني التي تقودنا خلال الكشف إلى التوحد، وأرمي من خلالها أن أتعلم، كواحد من البشر، كيف نتوحدّ لا كيف نتشظّى. يأتي التوظيف الأدبي بعدها كتحصيلِ حاصل، ناتج عن وجود لا يدرك إلا بالتزاوج بين المجرّد والحسيّ.

لكن، إذا ما نظرنا إلى تطور العلوم من زاوية الثورة العلمية تحديداً، أعتقد أنها في طريقها إلى تأسيس فكر جديد وأخلاقيات مازالت مجهولة لدينا، وبالتالي أدبٍ مختلف كمحصلة، سيكون الموضوع حيادياً بالنسبة للأجيال القادمة مع جنس بشري جديد، مازلنا بعيدين عنه مبدئياً. لكنها، أي الثورة العلمية، وفي الفترة الراهنة، سكين ذات نصلين، فبقدر ما تتدخل في وجودنا الملموس ونسيج علاقاتنا، تبعدنا عن جوهر الطبيعة الإنسانية.

أن التسارع الذي تتم به تلك الثورة العلمية لا يتيح الوقت الكافي لإعادة النظر بتبصرٍ ورويةٍ في إنتاج فكريّ وروحيّ ملائم للوضع المستجد، إلا أن هذا التسارع يلبي بامتياز طموح الجنس البشري إلى الاكتشاف فالتفوق. والخطورة تكمن فعلاً في تحويل هذا التفوق إلى هيمنة استعبادية للبشر، وتمحوهم.

تقيمين في باريس منذ العام 1978 كيف صقلت تجربتك باريس تجربتك الأدبية؟

التجربة الأدبية ليس إلا جزءاً من وجودي. باريس بالنسبة لي أم تبنتني، بينما دمشق أمٌّ تمخضت في رحمها وولدتني، أحمل جيناتها، لا تقاليدها، رائحة دمها، لا عطر ثيابها.

وجاءت باريس، فَتَحَتِ المعرفةَ أمامي بلا حساب وحوّلتني إلى طفلة مدهوشة بالأشياء. علمتني كيف أُهَجّي مروري بين حلولٍ وارتحال. أتاحت لي لمس الصفائح المحمّاة لأكتشف لسع الحريق. أدخلتني ممرات سرية بين صوت وصمت، نهلتُ منها وتَنْهل مني كلُّ زاوية فيها، أحبها حتى نهايات العشق وأحس أن جدرانها وشوارعها ستحبني حتى الموت (موتي). دمشق أحببتها حتى الفناء.

و يبدو لي أحياناً أنني «أكون» في صيرورتي حيث يجب أن «أكون»، وبذلك تضحي الأمكنة رغم كثافة قوامها أرحاماً لـ «اللإمكان». أتذكر هنا قول أحد الحكماء: «البلاد التي ليست في مكان، هي الوطن الحقيقي». كتب الشعر بالفرنسية، وأصدرت العديد من المجموعات، كيف تعاملت مع الفرنسية؟

لم يكن تعاملاً مع لغة بقدر ماكان معاشاً حراً. لذا لا أقول إنني أتعامل مع اللغة، هي تأتي لوحدها، هناك حادثة طريفة وربما كانت سبب تأجيل إنهاء «الأفق العمودي»، بدأت الرواية تلك بالعربية عن تجارب عشتها في دمشق، وحين وصلت في الكتابة عن تجارب في فرنسا، تدفقت الكلمات والجمل بالفرنسية.... وتابعتُ دون أن أنتبه.... فجأة اكتشفت الازدواجية اللغوية. وقعتُ في حيرة فعلاً، بأية لغة أكتبها؟ العربية الأكثر ألفة وعتقاً وأسراراً، أما الفرنسية بجمالها ودقتها ومباهج ألغازها.

ما تأثير رحيل زوجك الفنان التشكيلي صخر فرزات على حالاتك الأدبية إلى جانب الإنسانية؟

مازال الحدث طازجاً لا أستطيع لمس سخونته. مازال متوهجاً حولي، ومازلت عمياء في النور. لن أستطيع الإجابة على السؤال حالياً... قد أفعل ذات يوم... إنما لديّ إحساس الآن أن هذا الرحيل نقلني إلى حب آخر، وهبني رؤية جديدة للحب.

بين الشعر والرواية

إن الشعر لايُصنع. الرواية تَصنعُ نفسها بإصغائي لها وأنا فيها. قلتُ إن الشعر كنعمةِ الصّدْفة، الروايةُ هبةٌ أختبرُ فيها المصير. قلتُ إن الشعر مفاجئ، الروايةُ متمهلةٌ تحتضن المفاجآت. قلتُ إن الشعر مباغت، الروايةُ كريمةٌ بمواعيدها. بينهما فروق متعددة، لكن الوَلَه والوُجد بوتقةٌ تُوَحِدّ الأضداد.

الافق العمودي

لم تكن رواية «أقودك» الرواية الأولى التي أكتبها بل الثانية، فقد بدأت منذ نهاية الثمانينات بكتابة رواية ولدت مع عنوانها «الأفق العمودي». لم أنهها بسبب عدم توافر الوقت الكافي ولظروف خاصة، لكنها جاهزة بكاملها، لا تنتظر إلا أن أخلع عنها ثيابها وقشورها وأقنعتها، ولم أفعل بعد.

عبير يونس

Email