لا تخلو مدينة في العالم من متحف يسكنه التاريخ وتسكنه اللقى التي خلفها اناس تركوا لنا أشياءهم ومضوا، والناس العاديون لا يزورون المتاحف بصورة دورية كمحاولة للإبقاء على حالة الالتصاق والتواصل بالبعد الزمني والحضاري لبني جلدتهم.

كثيرا ما تلعب الصدف ألاعيبها معنا، حينما نجد أنفسنا أمام بوابه المتحف، فنقدم خطوة ونؤخرها باتجاه الداخل وننظر إلى ساعاتنا، هل الوقت مناسب، أو هل وقتنا يسمح بصرف أجزاء ثمينة منه لتفقد أشياء هي مجرد جرات طعام ورؤوس حراب وربما مومياءات ترعبنا!، أو هل لدينا مزاج يتقبل رحلة الإبحار في الزمن. حينما نسافر يدفعنا فضول المعرفة واكتشاف المكان ان نصر على زيارة متحف المدينة، أو يدفعنا إليه مشرفو الرحلات السياحية التي ننظم إليها.. لكن في النهاية نبقى في إطار الحقيقة القائلة إن زيارة ما تركته الحضارات القديمة لم تصل بعد إلى الاحتياج الدوري في إيقاع حياتنا الحديثة الذي يستنزفنا في أمور حياتية آنية.

في قاعة خصصت لمعروضات الموقع الآثاري «ساروق الحديد» الذي اكتشفه للمرة الأولى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي قبل ست سنوات بعد ان لاحظ سموه وفي موضع تغطيه رمال الصحراء تلك الأشياء الصغيرة اللامعة بين حبات الرمل، تتوزع قطع من الفخاريات والمشغولات البرونزية، جرار لحفظ الماء أو الطعام، رؤوس حراب، أساور وحلي نسائية وخواتم.. حراب صغيرة مسننة وأخرى كبيرة، تحيل للتفكير في الأمر، فالحراب الصغيرة تبدو وكأنها معدات لصيد الحيوانات والحراب الكبيرة تحيلك إلى فارس قد استعد لحرب أو خاضها.

اما الخواتم والأساور فلا شك انها كانت حلية نسائهم، وهم وكما يبدو من زينتها وزخرفها يحبون نساءهم.. المعروضات تذهب عميقا إلى القرن السابع قبل الميلاد. يقذف بك هذا الزمن إلى متاهة كبيرة من الخيال.. فمن هم هؤلاء الأجداد الذين استوطنوا دبي، أو مروا بها.. إن ساروق الحديد كموقع آثاري حديث الاكتشاف لا يكمل فقط حلقات الحقيقة التي تبدت في الاكتشافات الأثرية لموقع منطقة القصيص والتي كشفت عن مقابر ولقى آثارية لأناس استقروا في المكان وشيدو به حضارة خاصة بهم، ولكنه أيضاً يثير المزيد من الأسئلة.

خصوصا حينما تتأمل نحوت الثعابين على الفخاريات، ففي إشارة للبعثة الآثارية الأردنية التي نقبت في موقع ساروق الحديد، يبدو الثعبان كحيوان زاحف مقدس عند هؤلاء الأجداد.. وبما اننا نتحدث عن دبي التي تتمتع بصحاري ممتدة ومرتبطة بصحراء الجزيرة العربية، فان الثعبان في هذه المنطقة الرملية حيوان ظاهر في الحياة ومتواجد بكثرة حتى في أيامنا هذه.. لا تبين إشارات البعثة، لماذا يقدس هؤلاء الأجداد الثعابين، وهل فعلا كانوا يقدسونها.. في اللقى الآثارية خصوصا الأواني والحلي قد تكون كل هذه الأشياء مستجلبة من خارج المنطقة، وربما هم اغتنموها من تجارها الذين أتوا بها من خارج حدود المنطقة، وبهذا قد تنتفي حقيقة تقديس الثعابين..

الثعبان رمز لإله الطب عند الإغريق يسمى اسكليبيوس، وهو ينحدر من عائلة تعاطت الطب في زمنهم، وجده هو الإله «أبولو»، وهو أيضاً من آلهة الطب، وزوجته أو ابنته على الخلاف بين مؤرخيهم هي إلهة الصحة واسمها (هيجيا) ويقال إن شيرون علمّت اسكليبيوس أسرار الطب بالأعشاب، وتعاطي هذه المهنة حتى تفوق فيها. هكذا تذكر الأسطورة. فهل كانت اللقى التي وجدت في ساروق الحديد والتي حوت رسوم الثعابين ملكا لطبيب اولئك الأجداد؟ انه سؤال معلق.

بدأت أعمال التنقيب والمسح في موقع ساروق الحديد الأثري بعد التنبه إلى أهمية المنطقة الواقعة في جنوب شرق إمارة دبي، وقد أدت عمليات المسح للكشف عن محتوى ومضمون حضاري يضرب في أعماق التاريخ للمنطقة تمتد جذورها إلى العصر الحجري الحديث (7000-4000 ق.م) والتي كشفت عن مدى رسوخ أسس التاريخ القديم لدولة الإمارات وانفتاح أبنائها الأوائل على بقية الشعوب في العصور التاريخية القديمة. وقد تمكنت البعثة المشتركة والمكونة من دائرة السياحة والتسويق التجاري بدبي ودائرة الآثار الأردنية، خلال إجراء عمليات المسح من تقفي آثار ذلك العصر.

كما عثرت على أعداد كبيرة من الأدوات الصوانيّة المتقنة الصنع كرؤوس الرماح والشفرات والمثاقب وأدوات الطحن والمدقات المصنوعة من الحجارة البازلتية إضافة إلى آلاف المثاقب الصوانية وخامات الحجارة الصوانية التي كانت مستخدمة آنذاك. وتشير تلك المكتشفات إلى أن السكان في ذلك العصر كانوا من الجماعات المتنقلة ودائمة الحركة معتمدين في معيشتهم بالدرجة الأولى على ما تنبته خصوبة الأرض من النباتات البرية التي تنبت بعد سقوط الأمطار الغزيرة، إلى جانب الصيد البري والبحري والمحار والأصداف الغنية بالبروتين.

«ساروق الحديد» كموقع آثاري ما هو إلا شاهد من شواهد سيرة تاريخ الدولة قاطبة، فالبعثات الآثارية التي توالت على النقيب في مختلف مناطق الدولة ومنها دبي توصلت إلى حقيقة يؤكدها هؤلاء لسيرة الأجداد القدماء الضاربين في عمق تاريخ المكان وهي أن الحياة البشرية والعمرانية فيه تبدأ من حدود بينونة في أبوظبي إلى وادي مليحة ورؤوس الجبال في رأس الخيمة وتنتمي إلى الفترة التي تمتد ما بين الألف الثاني والألف الخامس ق.م.

حيث نشأت في هذه المنطقة حضارتان متقاربتان هما ماجان وملوخا، وماجان حسب الآثار المكتشفة تمتد من حدود أبوظبي في منطقة أم النار وجزيرة غناضة وجبل الظنة ورأس العيش إلى مدينة العين في منطقة الهيلي ورميلة وجبل حفيت؛ أما ملوخا فتمتد في منطقة المويهات ووادي مليحة ومنطقة المنامة» في الشارقة ومن آثار هاتين الحضارتين آثار في إمارة دبي في منطقة القصيص والصفوح وآثار في إمارة أم القيوين في منطقة الدور حيث آثار تل أبرق، ومنطقة مصفوت والمنيعي، ومنطقة شمل في رأس الخيمة.

وتذكر التقارير ان منشأ حضارة ماجان الأصلي في الأرض المسماة الآن بأرض المجن في إمارة أبوظبي وهي الأرض التي تقع بين منطقة بينونة وحدود دولة قطر من جهة وبين المملكة العربية السعودية من جهة أخرى وان أول إشارة لماجان ظهرت كانت في عهد الملك سرجون الأكدي ملك المملكة الأكدية في العراق قبل خمسمئة وألفين ق.م وكانت من المناطق التجارية المهمة فلقد صدَّرت الرخام الأسود والنحاس وإكسيد الحديد (المغر) والخشب.

وكانت على علاقة تجارية مع المملكة الأكادية في العراق وقد عاشت حضارة «ماجان» مدة طويلة، فقد استمرت إلى عام سبعمئة وألف ق.م حيث ضعفت بعد هذه الفترة ثم انتهت؛ أما ميلوخا أو ملوكا فقد قيل عنها إنها امتداد لحضارة وديان بلاد السند وقد اكتشفت لها آثار في منطقة مليحة والمنامة والمويهات، وقد دلت المكتشفات في منطقة المنامة في إمارة الشارقة أنها ترجع إلى الألف الخامس قبل الميلاد.

وباعتبار دبي ضمن هذا الامتداد الحضاري العظيم، فإنها تعتبر من المناطق التي ترك التاريخ بصماته عليها منذ الألف الرابع قبل الميلاد،؛ ويرجع تاريخ الآثار فيها إلى الفترة الثمودية والفترة الهلنستية (الألف الثالث ق.م)، فقرية حتا الأثرية تعد الأقدم في إمارة دبي حيث يعود بنا الزمن فيها إلى الفترة الثمودية، وحملت المكتشفات فيها نقوشا وكتابات على الأحجار وهي شبيهة بالنقوش والكتابات التي وجدت في الجزيرة العربية.

وفي موقع الصفوح إلى يمين شارع الشيخ زايد للمتجه إلى أبوظبي في منطقة رملية، وجدت مدافن سهلت على الباحثين الربط بين الدلالات المختلفة بين المواقع الآثارية في الدولة وكانت لها درجة كبيرة من التشابه وقد أرجع الباحثون تاريخ المنطقة هذه إلى الفترة ما بين (2500 و2000 ق.م) وكان الموقع الآثاري في منطقة القصيص والذي قد تم فيه العثور على لقى من الخزف وأدوات حجرية وبرونزية وقبور جماعية، وجد فيها الموتى في أوضاع مختلفة، كما عثر على مومياء متحجرة حيث دلت هذه المومياء المحفوظة الآن في متحف دبي على أن تاريخ هذه المنطقة يعود إلى حقبة الألف الثالث والألف الرابع قبل الميلاد أي يرجع تاريخها إلى ما بين (2600 و4000 ق.م).

في إيقاع العصر الحديث والطاحن للفرد لا تستطيع المتاحف وهذه التقارير التي يجتهد علماء الآثار في توفيرها لنا وان تبقينا على تواصل دائم مع الأجداد، والأسلاف الذين نقشوا على أوانيهم وحجارتهم رسائل معينة، هي هديتهم لنا، ودلالة على مرورهم بالحياة وما سجلوه من انجاز.

ولهذا يسهل القول إننا اليوم نعيش حياة مجتزأة ومبتورة باختيارنا، لأن شعورنا الذي نعيش به في اللحظة الآنية لا يمكنه ان يبقى اتصاله بهذا البعد في التاريخ.. فتبقى زيارة المتاحف هي هدية الصدف، أو ربما برنامج رحلة تأتي من حيث لا ندري، ثم ان الحقائق التي تتضمنها التقارير الآثارية تبقى حبيسة في الكتب الصفراء وفي كتالوغات المتاحف والمطويات الصغيرة التي نجدها مرصوصة على رف عن الباب الرئيسي للمتحف، نلتقطها بأيدينا عند الدخول أو الخروج ثم سرعان ما نفقدها..

الإمعان إلى لقية معروضة في صندوق زجاجي صنع خصيصا لمنع المؤثرات الخارجية وعوامل الطقس على هذا الجسم النادر وما يحويه من إشارات ونقوش ورموز هو بالضبط الإمعان في سيرتنا الذاتية الممتدة عبر الشيفرة الوراثية التي تسري في دمائنا.. فكثيرا ونحن صغار كنا نلعب لعبة مسلية تنتهي بسرعة وبإحباط عجيب، فمثلا نفكر هكذا: ابي اسمه فلان وأبوه فلان الذي هو جدي وابو جدي فلان وأبوه فلان ولا نصل للاسم الخامس أو السادس أو السابع ان كان لدينا نفس الا ونتوقف عاجزين..

ثم نضحك ونبدأ السؤال الصعب من جديد.. بعض الذين يعدون لهم شجرة العائلة يتوقف الأمر عندهم لا محالة حتى ولو وصلوا إلى الجد الألف، لكن بالتأكيد هناك امتداد يصلنا بالأجداد الضاربة بقاياهم في التاريخ.. ما يفعله المتحف وتلك اللقى الصغيرة هو بالضبط ما تفعله تلك اللعبة المسلية، السؤال وتكرار السؤال.. فلماذا لو تمكن الواحد منا من معرفة جده في الحقبة الزمنية التي نرمز لها «ق.م»؟

مومياء محفوظة

عثر على مومياء متحجرة حيث دلت هذه المومياء المحفوظة الآن في متحف دبي على أن تاريخ هذه المنطقة يعود إلى حقبة الألف الثالث والألف الرابع قبل الميلاد أي يرجع تاريخها إلى ما بين (2600 و4000 ق.م).

معروضات «ساروق الحديد»

تجذب الزائر قاعة خصصت لمعروضات الموقع الآثاري «ساروق الحديد» الذي اكتشفه للمرة الأولى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي قبل ست سنوات بعد ان لاحظ سموه وفي موضع تغطيه رمال الصحراء تلك الأشياء الصغيرة اللامعة بين حبات الرمل، تتوزع في هذه القاعة قطع من الفخاريات والمشغولات البرونزية، جرار لحفظ الماء أو الطعام، رؤوس حراب، أساور وحلي نسائية وخواتم..

مجانين المعرفة

الآثاريون والمهتمون بدراسة ومعرفة حلقات التاريخ، الانثربولوجيون ومتخصصو علم الاناسة، ومجانين المعرفة هم أكثر الناس إدراكا بأهمية المتاحف وذاكرتها، فهؤلاء تجرهم علامات الاستفهام وضغط الحقائق المتوفرة والغائبة لأن يكونوا قريبين من تلك القطع النادرة المحبوسة في علب الزجاج المتوزعة على رفوف المتاحف. اما نحن فإننا نشعر أن هناك مسافة تفصلنا عنها.

تاريخ المكان

«ساروق الحديد» كموقع آثاري ما هو الا شاهد من شواهد سيرة تاريخ الدولة قاطبة، فالبعثات الآثارية التي توالت على التنقيب في مختلف مناطق الدولة ومنها دبي توصلت إلى حقيقة مؤكدة تثبت سيرة الأجداد القدماء الضاربين جذورهم في عمق تاريخ المكان وهي ان الحياة البشرية والعمرانية فيه تبدأ من حدود بينونة في أبوظبي إلى وادي مليحة ورؤوس الجبال في رأس الخيمة.

مرعي الحليان