«البحريات» حكاية أنثوية مليئةبالاحساس والطبيعة

«البحريات» حكاية أنثوية مليئةبالاحساس والطبيعة

ت + ت - الحجم الطبيعي

رواية «البحريات» للكاتبة أميمة الخميس باختصار هي حكاية أنثوية تربط شخصيتين أساسيتين هما: «بهيجة» ومدينة «الرياض» كحاضنتين أموميتين تسعيان للخلاص من هيمنة الذكورة وعنفها، فاجتمعت بلقائهما هذا خضرة الشام وأمواهها وعذب نسائمها برمال الصحراء ومناخها المتقلّب وطقوسها الخاصّة.

بهيجة، النسمة البحرية التي رطّبت الأجواء بما حملته من عادات وتقاليد مغايرة، بالرغم من صغر سنّها وضعف تجربتها الحياتية، سيكون لها حضور قويّ داخل المجتمع الجديد، وهذا الحضور لا يتجلّى في أشكال بلاغية خطابية، وإنما في سلوك أنثويّ أموميّ عفوي واجهت به البيئة الصحراوية ومجتمع الذكورة في آن، فهي منذ لحظة وصولها من الشام أشعلت المكان بما تملكه من خصائص جسدية وسلوكية مغايرة، فعملت على رصف ممرّ طويل بعشرات الأشجار بالإضافة إلى أنواع مختلفة من الزهور.

وبذلك فإنها ستعيد سيرورة التقاليد الإحيائية العظيمة المتجلية في العناية بالأرض كمصدر رئيسي للحياة، بالرغم من اشتراطات المكان وقسوة الطقس وندرة الماء، بينما في المقابل سنرى «موضي» ضُرّتها الخاضعة للشرط الذكوري على العكس منها تعيد تمثيل العنف الممارس تجاه الطبيعة وكائناتها على شكل دمى وحكايات.

يتأسس السرد في «البحريات» على لغة شاعرية فيها الكثير من الإحساس بالناس والطبيعة والحياة، يتلمسه القارئ من خلال مستويات الحكي في النصّ الروائي، سواء من حيث الوظائف والأفعال المرتبطين أساساً بحكاية الرواية، أو من حيث الخطاب المرتبط بطرائق تقديمها من قبل الساردة العليمة في كشفها عن معاناة بهيجة: «المحيط العدائي الرافض لألوانها الفاقعة، لم يشربها ولم تشربه، وظلّت روحها معلّقة في مكان ما، لا تستطيع أن تمضي بها مسافات أكبر، بل بقيت مشنوقة بالرفض، وحروب داخلية متّصلة لترسيم الحدود وغلق النوافذ.. لذا بدت روحها شعثاء نائية وفاقعة دوماً، تلك الروح التي تلتئم شظاياها بين يديّ صالح فقط».

وإلى ذلك فإننا كنا ميّزنا في دراسات سابقة ما بين القول الشعري والقول الروائي، وبخاصة عندما يكون الشعر عبئاً ثقيلاً على النصّ، نتيجة تموضعه في جسد الحكاية على شكل بنى نصّية مستقلة ومتعالية، تتباين على هذا النحو أو ذاك عن لغة السرد المفترض بها أن تحكي حكاية بطرائق يجترحها الكاتب، وبالتالي، فإن الرغبة العارمة لدى الروائيين الجدد في التجديد، تدفع بهم غالباً إلى استعارة لغة الشعر من مصادر مختلفة.

بينما في روايات أخرى سنلتمس فهماً واضحاً لعملية الدمج هذه دون إسفاف أو مبالغة، مما يمنح الرواية بعداً حداثياً ينهض على لغة مفارقة يمكن وصفها ب«النقلة» السردية، أو بـ «الانزياح» عن الخطاب التقليدي، وبذلك فإنه يمكننا اعتبار رواية «البحريات» نموذجاً لهذا التناول الذي وفّق في إيصال الدلالات بمستوياتها المختلفة وعلى نحو خاص أثر الأنوثة في عملية التقدّم الاجتماعي، وتجلّي هذا الأثر في عملية الصراع من أجل التواصل الإنساني والتثاقف والتفاعل.

رغبة التقارب

لعل الجمع الذي لجأت إليه أميمة الخميس بين المناخين الشامي والصحراوي كان بمثابة رغبة قارة في لا شعور الكاتبة قبل الشروع في كتابة الرواية، والذي يتجلّى بأبسط معانيه في الاستجابة للتطوّر الحضاري بالانفتاح على العالم، فتعززت هذه الرغبة على نحو عقلاني ، آن الكتابة من خلال توجهها الفكري الناضج، الذي يؤكّد أهمية السعي للخلاص من واقع قديم استبدّ بالإنسان طويلاً باشتراطاته التي تكوّنت عبر أجيال وأجيال في حيّز مغلق، وخصوصاً مع فورة النفط وترسيم الحدود ووضع قوانين صارمة أعاقت الحراك الاجتماعي مع الجوار الذي كان حتى وقت قريب لا ينظر إليه كأجنبي غريب، فكانت النسوة البحريات النموذج اللطيف لهذا التقارب والتمازج بين الثقافتين.

الكاتبة في سطور

أميمة الخميس، كاتبة صحافية وروائية سعودية من جيل التسعينيات، ومواليد مدينة الرياض، من أعمالها القصصية: والضلع حين استوى، 1993. مجلس الرجال الكبير، 1996. أين يذهب هذا الضوء، 1996. الترياق، 2003. وبالإضافة إلى روايتها «البحريات»، وصدر لها مؤخرا رواية الوارفات عن دار المدى. تكتب زاوية صحافية في جريدة الجزيرة، ولها العديد من المشاركات في الصحافة الثقافية السعودية والعربية.

حكاية مدينة

يتابع القارئ في الحيّز المكاني لرواية « البحريات » نشوء مدينة الرياض في هذا الوسط الضاغط بيئياً واجتماعياً، الذي كان بدوره يشكّل نوعاً من المجابهة بينها وبين الصحراء وثقافتها المنغلقة، بدليل أنها عندما شرعت في سيرها نحو المدنية حطّمت تلك الأسوار التي تنتمي إلى زمن قديم، ونمط إنتاج قديم أيضاً، شأنها في ذلك شأن سائر المدن التي تخلّصت سريعاً مما يعيق تقدّمها وانفتاحها نحو العالم الجديد.

عزت عمر

Email