العالم الرحالة الشيخ علي الدرويش الحلبي

العالم الرحالة الشيخ علي الدرويش الحلبي

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد أن يعرفنا هذا الكتاب على مدينة حلب وحبّها للموسيقى والطرب، وبعد أن يدرس الزوايا فيها، يصنف أشكال التراث الغنائي الحلبي، فيبدأ بالموشح ثم القصيدة فالموال فالدور فالقدّ، ثم يقدم لنا أعلام هذا الفن الموسيقي، إلى أن يصل إلى الشيخ علي الدرويش «المصري» 1884 ـ 1954، فيقول: عُرفَ إبراهيم ـ والد الشيخ علي ـ بأخلاقه الحميدة وتدينه وانتسابه إلى الطريقة المولوية التي تهتم بالإنشاد ومرافقة آلة الناي بالعزف وكذلك الآلات الإيقاعية من طبول ودفوف وصنوج وخليليات، وهذا الأمر شجع إبراهيم على رفع عقيرته في حلقة الذكر والتغني ببعض الألحان في داره.

نشأ الطفل علي ابن إبراهيم المصري وسط عائلة صغيرة يعمل ربّها في تجارة الأقمشة، دفع الوالد الصبي إلى الكتاب ليحفظ القرآن ويتعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب على عادة العائلات الحلبية.

ومن الكتاب إلى المدرسة الأشرفية، ومنها إلى المدرسة العثمانية (التي أنشأها عثمان باشا يكن) في محلة الفرافرة، ولم تمنعه الدراسة في مدرسة دينية الشيخ علي من تعلّم العزف على آلة الناي، ولا دراسة الموسيقى، التي تعلم أصولها على يدّ أقدر الأساتذة ومشايخ الصنعة.

بعد أن صلب عود «الشيخ علي موسيقيا»، وحفظ ما حفظ من تراث حلب الغنائي والإنشادي، بدأ بتدوين ما احتوته ذاكرته، فانكبّ على الموروث الحلبي يدونه ويقارنه، ويأخذ بما اعتقد أنه الأصح، ولم يقصر هذا على ما كان منه سورياً أو حلبياً، بل انسحب على ألحان الدول العربية والإسلامية التي زارها، ولذلك يعدّ أول شخصية موسيقية خرجت من حلب، حاز لقب العالم المحقّق بجدارة، والموسيقي للتثبت والمدقق. التفت الشيخ بعد ذلك إلى ما تركه أبو خليل القباني من ألحان في مسرحياته، فدوّنها وعرض لمقاماتها ولإيقاعها شرحاً وتوضيحاً ولولاه لأصابها النسيان.

حينما سمع به الأمير «خزعل» أمير إقليم عربستان «المحمّرة»، أرسل إليه يدعوه إلى دياره وقصره، وكان الأمير مشهوراً بحبه للموسيقى وبعشقه للغناء، بالإضافة إلى أنه كان شاعراً ذا ثقافة عالية، وحين وصلت الدعوة إلى الشيخ علي كوّن فرقة ورحل إلى «المحمرّة».

وهناك طاب له المقام بضيافة الأمير، فقد لقي منه كل إجلال وإكبار وإعجاب واحترام، ونشأت بينهما صداقة وطيدة، بعد أن لحن قصائد كان ينظمها الأمير، فيحفّظها الشيخ علي لفرقته التي تغنيها في مجلس الإمارة.وخلال السنتين 1912 ـ 1914، زار بغداد وطهران وبومباي، فاطلع على الموسيقى الفارسية والهندية، كما استفاد منه الموسيقيون والمغنون والباحثون.

وعندما بلغ سن الثلاثين، عاد إلى دياره، وتقدم إلى مسابقة انتقاء مدرسين لمادة الموسيقى لدى وزارة المعارف العثمانية. وبعد نجاحه في المسابقة، صدر قرار سامٍ بتعيينه مدرساً في ولاية قسطموني شمال تركيا، فقام بمهمته على أكمل وجه، فمضى يشكل الفرق النحاسية، ويضع لها المؤلفات الموسيقية، كما أنه لم ينس الزاوية المولوية التي نشأ فيها، فراح يتردد على حلقاتها ويدبج لها الألحان المسماة «آيين شريف» فاكتسب شهرة ومحبة أهالي المدينة.

بعد مدّة انتسب الشيخ علي إلى معهد »دار الألحان«، وراح يحضر أبحاثه ويزيد معارفه على يد أقدر الأساتذة، فأفادوه وأشركوه في مناقشتهم وأبحاثهم، وخلال السنوات التسع التي قضاها بين (قسطموني واستنبول) دارساً ومدرساً، قطع شوطاً كبيراً في تأليف كتابه »النظريات الحقيقية في القراءة الموسيقية«.

وضع فيه بحثه وخبرته وعلمه مستعيناً بمكتبة العاصمة العثمانية، وبخاصة فيما يتعلق بالموسيقى «مدوّنات وأبحاث ونظريات وفلسفة».

في العام 1923، قفل راجعاً إلى حلب، وكان قد تزوّج في قسطموني، عاد إلى حلب ليرى حال الموسيقى كما تركها، فانضم إلى نادي الصنائع النفيسة، وهو موئل فني قام بتأسيسه لفيف من الفنانين المعروفين بقدراتهم ومواهبهم الكبيرة، فما كان منه إلى أن شكّل فرقة ضمّت أساتذة هذا الفن بالإضافة إلى مرددين ومطربين، ومطربة عرفت وقتها باسم «صالحة المصرية».

وقامت الفرقة بحفلات كثيرة في حلب ومدن أخرى ولاقت إعجاباً شديداً وإقبالاً كبيراً، بفضل قائدها الشيخ علي الدرويش .بعد مدّة وصلت إلى الشيخ علي الدرويش دعوة لإقامة حفلات في استنبول، تلقاها بفرحة كبيرة فهو من جهة سيلتقي تلامذته ومريديه، ويعيد صلته بالبحث العلمي، فسافرت الفرقة عام 1924 وأقامت الحفلات، وزار الشيخ معهده «دار الألحان» ، وأعاد صلته بأساتذته، كما تعرف على الجيل الجديد، وناقش معه مسائل موسيقية هامّة، وقد بقيت الفرقة في استنبول بضعة شهور.

تمت رحلته إلى مصر بناء على دعوة موجهة من رئيس نادي الموسيقى الشرقي بالقاهرة، وتقرر أن يقيم لثلاثة أشهر، سنة 1924 ( وستكون إقامتكم على جانب النادي، ثلاثين جنيهاً مصرياً شهرياً خلال مصاريف السفر من حلب إلى القاهرة )، قبل الرسالة الشيخ علي وجرى التعاقد معه على شراء كتابه «النظريات الحقيقية في علم القراءة الموسيقية»، وأنه كلّف من قبل إدارة المعهد على تعليم مادة فن الإنشاد والإلقاء ممّا يدلّنا على أن كوكب الشرق أم كلثوم أخذت عنه هذا الفن، كذلك أفاد منه الملحن رياض السنباطي والأستاذ عزيز صادق.

وأن المطرب الملحن محمد عبد الوهاب كان يحضر دروس الشيخ في النادي، واستفاد منه، خاصة تصوير المقام على غير درجته الأصلية ( حُلٌِّفُّيَُ )، وأن أمير الشعراء أحمد شوقي أوصى عبد الوهاب بأن يخفي تلمذته علي الشامي يقصد الشيخ علي، وحدث أن سمع الشيخ تلك التوصية، فثارت ثائرته.

عرف الشيخ سيد درويش في حلب، وكانت له صداقة معه (إنه كان مغرماً بحفظ كثيراً من هذه الموشحات، وخاصة التي من نغمات، ومقامات غريبة غير مألوفة)، مقابلة في مجلة الناقد من العام 1928.

جرى اللقاء بين البارون رودلف دير لانجيه ( وهو رسّام وباحث موسيقي، من أسرة بولونية، بنى قصراً في ضاحية سيدي بو سعيد المطلة على تونس العاصمة، وفي هذا القصر كانت تتم اللقاءات الفنية والمناقشات العلمية بينه وبين الموسيقيين التونسيين ) جرى التعارف بين الشيخ علي أثناء وجوده بالقاهرة مدرّساً في النادي الموسيقي الشرقي وبين البارون الذي كان يتردد على مصر بحكم قربه من القصر الملكي والصداقات التي تربطه بالعاملين في حقل الموسيقى.

وقد حصل البارون على أذن ملكي بسفر الشيخ، في العام 1931، فسافر إلى تونس، واستطاع أن يطلع على المكتبة العامرة التي يحتويها قصر البارون، وأن ينسخ بخط يده كتاب «الموسيقى الكبير» للفارابي، وكتاب «الرسالة الشرقية» و«الشفاء» لابن سينا، وكتاب «الأدوار» للأرموي، إلى جانب الأبحاث والمناقشات التي تجري بين الشيخ والبارون، حول الموسيقى العربية، مقامات وإيقاعات وقوالب تأليفية وتراث، وكذلك قيامه بتدوين المقطوعات الموسيقية لإعداد الجزء الخامس من كتاب البارون «الموسيقى العربية»، كما كان مشاركاً في لجنة المقامات والإيقاعات والتأليف مع نموذج لحني لتلك الإيقاعات.

عاد إلى حلب وأسس »نادي حلب للموسيقى« وطفق يقدّم الحفلات ليتمتع محبي التراث الأصيل الذي اشتهرت به المدينة، وفي الحرب الثانية أسس مع فخري البارودي النادي الموسيقي الشرقي، ليضيء سماء دمشق بالعلم والفن، وفي هذا النادي تخرج كبار الموسيقيين والملحنين الذين ساهموا في النهضة الموسيقية السورية.

ذهب إلى العراق وعلّم قواعد الموسيقى العربية الذي يتضمن المقامات وقواعد تحليلها وطرق الانتقال فيما بينها، والإيقاعات وتفصيلاتها وتقسيمها إلى مقاييس داخلية وتصنيفها إلى بسيط وأعرج، في معهد الفنون الجميلة.

فيصل خرتش

Email