خطاب النقد الثقافي في الفكر العربي المعاصر

خطاب النقد الثقافي في الفكر العربي المعاصر

ت + ت - الحجم الطبيعي

يسعى المؤلف في كتابه »خطاب النقد الثقافي في الفكر العربي المعاصر« إلى تشخيص الثقافة باعتبارها وسائل للعقل الاجتماعي، وتشخيص الثقافة العربية باعتبارها أبنية مفارقة للواقع والعصر، وتناول مشروع النقد في سياق إعادة كتابة التاريخ الثقافي العربي والتغيير الحضاري العربي.

ويرصد الكتاب معالم واسعة من خطاب النقد الثقافي العربي المعاصر النظرية، مع الخوض في مكاسبه التطبيقية، واستعراض آفاق تطوير وتعميق هذا الخطاب، من حيث محاولة تعميق أطروحة خطاب النقد الثقافي نظرياً ومنهجياً وتجريب فاعليتها في تفسير مظاهر الحياة الجديدة. ويتخذ المؤلف من أعمال محمد عابد الجابري، بوصفه أحد الرموز المؤسسين لهذا الخطاب النقدي الثقافي، حقلاً نقدياً لدراسته التطبيقية، بهدف تحيين مشروعه تفاعلاً مع معطيات سياق مفتتح القرن الحادي والعشرين.

ويقدم المؤلف قراءة معاصرة في خطاب النهضوي الإصلاحي محمد عبده، حيث يظهر أن المكون الرئيسي في المشهد التأويلي الذي رسمه للقراءات المعاصرة في خطاب عبده الكلامي والفلسفي مجسداً في النقلة النوعية التي حدثت مع قراءة عبدالله العروي التي تمثل خط خطاب النقد الثقافي في الفكر العربي المعاصر.

وكان منظور هذه القراءة المتأخرة، النقدي الثقافي، على درجة من الشمولية، بحيث استوعب موضوعياً المنظورات الجزئية التي سبقته وتخطاها، بفضل الضابط المركزي الذي حكم منظور العروي، الذي تمثل في الانطلاق من واقع فشل المسعى الإصلاحي في هذا الخطاب، وكان حاسماً في تحقيق تلك النقلة النوعية.

وعليه يعتبر المؤلف أن قراءة العروي النقدية تمثّل أكمل قراءة في خطاب عبده الكلامي والفلسفي إلى حد الآن، مقراً بأنه إذا كان القول بانغلاق هذا الخطاب عن كل قراءة جديدة قولاً يجافي منطق العلم وسيرورة الفكر، فإن ذات المنطق يعلمنا أيضاً أن القراءات الجديدة الجادة لابد أن تنطلق من سابقتها، وذلك إما بنقد جزئي لها في محاولة للتعميق والتطوير، وإما بنقد شامل في محاولة للنسف وإعادة البناء.

ويعقد المؤلف مقارنة ما بين خطاب »الصحوة الإسلامية« وخطاب النقد الثقافي، معتبراً أن كليهما كان وليد شروط ما بعد هزيمة الخامس من يونيو 1967. وكلاهما انطلق من ذات المنطلق في تفسير الهزيمة، أي من ملاحظة المفارقة بين الشعارات والأهداف ذات المضامين التحديثية العلمانية، التغريبية في منظور الخطاب الإسلامي، والتي رفعها الخطاب القومي المواجه زمن ذاك، أي شعارات الحرية والوحدة والاشتراكية، وبين البنية الثقافية السائدة في وعي أوسع الجماهير العربية ذات المحتويات الماضوية الدينية التقليدية، والمتجسدة في رمز الذاتية والأصلة في تقدير الخطاب الإسلامي.

وإذا كان جوهر مشروع خطاب النقد قام بعيد هزيمة 1967 على ضرورة تحديث البنية الثقافية العامة، كي يحدث انسجامها مع منطلق العالم الحديث.

وتُمنح فعالية اجتماعية واسعة لمضامين حركة التحرير القومية الحديثة، فإن مشروع خطاب الصحوة الاجتماعية نحا نهجاً معاكساً تماماً، بالدعوة إلى »أسلمة« شعارات ومضامين حركة الممانعة والمواجهة في البلدان العربية، كي توافق عمق الهوية الإسلامية للمجتمع العربي التي تمتثل مصدر قوته وقدرته على مغالبة القوى المتربصة به.

ويتخذ المؤلف موقعاً له ضمن السياق الداخلي للحراك الإيديولوجي الذي شهده الفكر العربي المعاصر بعد هزيمة يونيو 1968، مدركاً إلى أي درجة كانت حركة النهوض العربي في الثلث الأخير من القرن العشرين حبلى بالإمكانيات والخيارات الإيديولوجية، ولافتاً النظر إلى أنه إذا نظر إلى هذا الحراك من موقع لحظتنا الراهنة، أي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ومالأت واقعنا العربي فيها، فإنه سيتم التسليم، بلا شك، بغلبة الخيار »الإسلامي«، خيار خطاب »الحركات الإسلامية المعاصرة«، غلبة مطلقة.

إذ لا يمكن إنكار أن الإسلاميين يشكلون اليوم اللاعب الأساسي في كثير من ساحات المواجهة المباشرة مع القوى الخارجية، سواء في فلسطين أم العراق أم أفغانستان، فضلاً عن أحداث 11/9/2001 في الولايات المتحدة وغيرها من العمليات التي ضربت بعض بلدان أوروبا.

كما يشكل الإسلاميون عمقاً جماهيرياً غير خاف في بعض الساحات العربية، مثل الجزائر في العقد الماضي ومصر وساهما. لكن في المقابل لا أحد ينكر كذلك أن البلاد العربية قد قطعت خطوات كبيرة نحو الأسوأ منذ الحرب »الحزيرانية« إلى اليوم.

وإذا كانت العلامة الأساسية الأولى التي تطبع سياقنا الثقافي / السياسي اليوم، عربياً وإسلامياً ودولياً، تتمثل في الغلبة المطلقة للخطاب الإسلامي ومشروعه في التمسك بالأصول الثقافية ومضامينها الماضوية، فإن العلامة الثانية تتجسد في كون مطلب التغيير الثقافي الذي رفعه مشروع خطاب النقد الثقافي العربي المعاصر، ضمن سياق البحث عن مقومات النهوض الحضاري الشامل للمجتمع العربي، بات اليوم مطلباً مدرجاً ضمن »أجندات« مشاريع هيمنة القوى الاستعمارية والإمبريالية على البلاد العربية، وخاصة الهيمنة الأميركية، حيث ظهرت بوادر هذا المطلب التغييري مع بروز مشروع العولمة الثقافية، باعتباره مشروعاً مساوقاً لواقع العولمة الاقتصادية، وقائماً على حتمية تعميم الأنموذج الثقافي والقيمي الليبرالي الحر الأنغلوسكسوني الذي يمثل »نهاية التاريخ« السعيدة.

وفي هذا السياق يلجأ المؤلف إلى معالجة سؤال راهنية ابن خلدون التغييرية الحضارية في الواقع العربي الحديث والمعاصر من موقع تاريخ الأفكار، أي من موقع القراءة في قراءات الفكر الخلدوني، مؤكداً أن مساره قد أقام الدليل على أن لهذا السؤال تاريخاً رهنية.

من حيث كونه متصل الحضور، متحول المقاربة، ويمتد على ما يناهز القرن ونصف القرن من التفكير العربي في قضايا النهضة والإصلاح والثورة والوحدة والتنمية. وعليه كانت مسألة راهنية ابن خلدون جزءاً لا يتجزأ من إشكالية الفكر العربي الحديث والمعاصر، وتحديداً من إشكالية علاقة التراث بالحداثة فيه. وجسدت هذه المسألة مفصلاً قطاعياً في المشهد الإشكالي لهذا الفكر، الأمر الذي يعكس ملمحاً من ملامح تطور الخطابات وتحولاتها فيه.

ويكشف مسار البحث عن تحولات الخطاب في مقاربة الفكر الخلدوني، من جهة راهنيته التغييرية الحضارية، انسجاماً مع المنطلقات المنهجية التي وضعها المؤلف، والتي يرمي من خلالها إلى دراسة التحولات التاريخية للفكر العربي الحديث والمعاصر، وبالتالي فإن فكر العلامة ابن خلدون يبدو أكثر فائدة في هذا الاتجاه.

الكتاب: خطاب النقد الثقافي في الفكر العربي المعاصر

تأليف: سهيل الحبيب

الناشر: دار الطليعة

بيروت2008

الصفحات : 271 صفحة

القطع: الكبير

عمر كوش

Email