يعتبر الروائي المصري الراحل البير قصيري واحدا من عشاق الحرية وحياة الكسل والتأمل حيث لم يكتب في حياته المديدة سوى ثماني روايات ومجموعة قصص قصيرة، تمجد كلها البسطاء والمهمشين الذين عايشهم في طفولته. وشخوص رواياته ساخرون من السلطة سواء كانوا لصوصا أو عاهرات أو كناسي شوارع.

وكان ألبير قصيري من الوجوه المشهورة في حي سان جيرمان دي بريه الباريسي الراقي حيث أقام في غرفة في فندق لويزيان المتواضع في شارع رو دي سان ولم يغيره منذ 1945 وحينما غادر القاهرة واستوطن في العاصمة الفرنسية باريس وحتى يوم وفاته. لم يملك قصيري في هذه الغرفة أي شيء غير ملابسه ويقول ساخرا »لست في حاجة إلى سيارة جميلة لأثبت وجودي على الأرض«. وعاش حياة بسيطة تتسم إلى حد ما بالخمول دون أي توهمات سياسية إذ كان يعرف تماما أن التخلص من طاغية لا يعني بالضرورة القضاء على الطغيان.

كتب عنه الروائي الأميركي الشهير هنري ميللر مقالة نشرت في باريس عام 1945،مليئة بالاعجاب والحميمية قال فيها: « ما عرفت كاتباً معاصراً غيره، قادراً على وصف حياة هذه الفئة الشقية الواسعة من البشريّة، بمثل هذه الريشة التي تتّقد حنقاً وتدوس موطن الجرح مباشرةً » مضيفا أنه « يذهب عميقاً في طرق أبواب من اليأس، والانحطاط، والخنوع، ما ولجها غوركي أو دوستويوفسكي قبله » علما أن ميللر ترجم روايته »الناس الذين نسيهم ربهم« إلى الانجليزية عام 1940.

منذ حط ألبير قصيري الرحال في باريس تعرف على الحياة البوهيمية وكذلك على البير كامو وجان جينيه وغريكو وجياكوميتي وفيان في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقصيري شخصية بارزة في الحي اللاتيني، كان يشاهد دائما في قمة الأناقة ونظراته تراقب كل ما حوله وقد أصبح وزنه في خف الريشة بعد أصابته بمرض السرطان في الحنجرة قبل سنوات.

وتعكس روايته »شحاذون ونبلاء« رؤية فكرية تأملية، تضع القارئ في مواجهة مع القيم والأعراف المفروضة من قبل المجتمع. وتدور حياة وأحداث العمل في قاع مدينة القاهرة، وحبكة العمل الظاهرة تتمحور حل جريمة قتل بائعة هوى شابة وتحقيقات الشرطة اللاحقة، وإن كان العمود الفقري للرواية مبني على التفاعلات بين الشخصيات الرئيسية ومعظمهم من المتسكعين الذين يعيشون في ظروف تتناقض بصورة حادة مع المجتمع الحديث.

وجوهر أستاذ التاريخ استقال من الجامعة احتجاجا على تزوير التاريخ في المناهج الدراسية، واختار حياة التسكع والبطالة ليكون فقيرا ولكن حرا. وفي حياته الجديدة تلك يرتكب جريمة مجانية فهو يقتل بائعة الهوى أرنبة لاعتقاده أن الأساور التي في معصمها من الذهب، واكتشافه أنها مزيفة لا يعنيه كثيرا بعكس بطل رواية »الجريمة والعقاب« لدوستويفسكي.

ونسي جوهر منذ زمن بعيد معنى أبسط سبل الراحة والرفاهية. وكان يكره أن يحيط نفسه بالأشياء، لانها تخفي جراثيم الأسى وهي الأسوأ على الإطلاق، لان أسى اللاوعي يولد بصورة حتمية المعاناة التي لا نهاية لها داخل الانسان. ويصبح ليله نهارا ونهاره ليلا من دون أية متطلبات حياتية، فلا مانع عنده أن ينام فوق حاشية من الورق المقوي يمكن أن تكون مبللة بمياه غسيل الموتى.

ويلعب جوهر دور الأب بصورة ما في علاقته مع الآخرين، الذين يوفرون له الاحتياجات الأساسية في الحياة، مخاطرين بحياتهم لأجله، ولأجل صحبته والحوار معه. وهو بصورة ما نجم فيما بينهم ويسلي نفسه يوميا من خلال مراقبته لتفاهة الإنسان وأفعاله.

ومن محبي جوهر المخلصين الكردي، وهو موظف يحتقر وظيفته براتبها الضئيل، إلا أنه يحافظ على عمله من خلال تغذية كراهيته لزملائه في العمل. والكردي شاب عاشق لبائعة هوى تحتضر. وتدفعه حاجته ليكون محط الاهتمام والأنظار وخلق دراما من حوله، للاعتراف بجريمة لم يرتكبها. أما الشاعر يغن فهو الذي يزود جوهر بالحشيش، وهو فنان محتال لا يتردد في الوشاية عن الموردين. وهو يحتفظ بحبه لفتاة مراهقة لم يلتق بها أبدا سوى مرة واحدة خلال مروره بها في الطريق.

أما الضابط نور الدين فهو قصة بحد ذاته. يقوم في البداية بدور المحقق والبحث عن القاتل، وتحمل شخصيته تناقضات كثيرة فهو حريص على مكانته في المجتمع وفي ذات الوقت يعيش علاقة عاطفية سرية مع شاب تخلى عن دراسته الجامعية. يدهش نورالدين لاحقا من حيادية الشحاذين إزاء الحياة المرفهة والمال، ثم يفتتن بعالمهم السحري. أما الشاب سمير فيحتقر الضابط لاحقا لتخليه عن أسلوب حياته والنزول من مكانته ليعيش في قاع المدينة مع مجموعة المتسكعين.

المؤلف في سطور

ولد ألبيرالقصيري »فولتير النيل« كما يلقبه الفرنسيون في 3 نوفمبر 1913 في القاهرة وعاش حياة مرفهة. وعلى الرغم من نشأته في كنف أم لا تعرف القراءة والكتابة وأب لا يقرأ سوى الصحف تعلق بالأدب الفرنسي منذ صغره وتعرف مبكرا على بلزاك وموليير وفيكتور هوغو وفولتير وغيرهم من كبار الكتاب الفرنسيين. وسافر إلى فرنسا حينما كان في السابعة عشر من عمره ، توفي في 22 يونيو 2008 في باريس عن عمر يناهز 94 عاما.

الكتاب:شحاذون نبلاء

تأليف: ألبير قصيري

الناشر: دار جويل لوسفيلد 1999

الصفحات:213 صفحة

القطع: المتوسط

Mendiants et orgueilleux

Albert Cossery

Joëlle Losfeld 1999

P. 213