مؤلف هذا الكتاب هو الفنان الشاب قصي قدسية الذي وثق تجربة والده المسرحي المخضرم زيناتي قدسية مع المسرح وتحديداً مع المونودراما ليكون كتاباً مرجعاً في المسرح السوري المعاصر. ولد زيناتي قدسية في قرية «إجزم» بقضاء حيفا سنة 1948، عاش طفولته في إربد الأردنية، ثم انتقل إلى دمشق التي مارس فيها نشاطه المسرحي، ولايزال.

عشق زيناتي المسرح منذ نعومة أظفاره، ومَن ينظر إلى مساهماته المسرحية التي قدمها على مدى أكثر من أربعين سنة يجد أنها كثيرة جداً، ومتشابكة، ومتداخلة ضمن أنشطة المؤسسات والفرق والتجمعات المسرحية السورية والعربية على نحو يثير الدهشة، وإلى درجة يصعب معها الفصل في التاريخ والسنوات للعروض التي ساهم فيها تمثيلاً وإخراجاً وتأليفاً وإعداداً.. فعلى سبيل الإحصاء والتوثيق، وبحسب الجداول التي أثبتها معد الكتاب، فإن زيناتي قد شارك كممثل فقط في خمسة وخمسين عرضاً، وقدم خمسة عروض بصفته ممثلاً ومخرجاً في آن واحد، وتسعة عروض قدمها بوصفه مخرجاً فقط، كما أعد تسعة نصوص عن أعمال لكتاب آخرين بالاشتراك مع نبيل الملحم وحاتم علي.

المونودراما، تعريفاً، هي: نوع من أنواع المسرح الحديث يعتمد على الممثل الواحد وعلى إخفاء أو تغييب الشخصيات الأخرى من المسرح، وبما يتيح للشخصية الواحدة فرصة رواية الحدث من وجهة نظرها، مُفْصِحَةً بحرية عن داخلها بشكل شعوري ولا شعوري. ويعتبر الممثل الألماني جوهان برانديز من أشهر رواد هذا النوع المسرحي، ويميل البعض إلى البحث عن جذور المونودراما في مسرح شكسبير الذي يتضمن مونولوجات طويلة لممثل واحد..

قبل زيناتي قدسية لم يكن المسرح السوري يعرف فن المونودراما، ولئن كان النقاد يتحدثون عن عرض مونودرامي سابق قدمه الفنان أسعد فضة بعنوان «يوميات مجنون» من إعداد سعد الله ونوس وإخراج فواز الساجر. بناءً على هذا يمكن الزعم بأن الريادة الحقيقية في مسرح المونودراما كانت لزيناتي قدسية في مسرحية حال الدنيا (1985)، عن نص كتبه ممدوح عدوان خصيصاً لهذا الغرض، وكان ممدوح يحضر البروفات يومياً، ودون انقطاع، ويشارك زيناتي في الحوار حول النص، ويشتغل عليه حذفاً وإضافة حتى يتوصلا معاً إلى الصيغة الأفضل.

على إثر النجاح الكبير لعرض «حال الدنيا» تواترت أعمالهما المشتركة بين عامي (1985 ـ 2005) وأخذت هذه الأعمال تكتسب شعبية واسعة بين الناس، فقدم زيناتي أربعة عروض عن نصوص لممدوح عدوان، وعرضين أخذهما عن قصتين للراحل غسان كنفاني، وعرضين من تأليف غسان مسعود، وعرض واحد هو «مجنون يحكي وعاقل يسمع» من تأليفه هو، والعروض كلها من إخراجه..

إن الزخم الكبير الذي حققه زيناتي قدسية في المسرح لا يعود سببه لموهبته الكبيرة واجتهاده وحسب، بل لأنه تعامل مع نصوص لكتاب كبار مثل: جورج شحادة، حسيب كيالي، وحيد حامد، رشاد أبو شاور، توفيق الحكيم، سعد الله ونوس، ألفريد فرج، محفوظ عبدالرحمن، إميل حبيبي، يوسف العاني، عيسى أيوب، محمود دياب، عبدالفتاح قلعجي، حاتم علي، فرحان بلبل، ومحمد الماغوط.. ومخرجين متميزين مثل: جواد الأسدي، حسن عويتي، فيصل الياسري، فواز الساجر، حسين إدلبي، وليد قوتلي، محمود خضور، أسعد فضة، سمير الشمعة، غسان الجباعي، وهشام كفارنة..

وتعامل مع أفضل الفنيين في مجال الإضاءة والديكور والصوت والرسوم، وكتب عن تجربته أدباء وصحافيون لامعون منهم على سبيل المثال: فرحان بلبل، وائل بركات، عبدالرحمن الحلبي، محمود خليلي، أنور بدر، عامر بدر حسون، شاكر السماوي، فاضل الربيعي، طلعت سقيرق، نادر أصفهاني، نبيل الملحم، خالد أبو خالد، ديانا جبور، بسام رجا، على الكردي، بول شاؤول نشروا دراساتهم ومتابعاتهم النقدية في أكثر الصحف السورية والفلسطينية انتشاراً في تلك الأيام.

يمتلك زيناتي قدسية، هذا العاشق المفتون بالمسرح إمكانات ذاتية هائلة تحدث عنها شاكر السماوي من خلال تناوله لعرض «حال الدنيا» فقال: استطاع زيناتي أن يوظف بمهارة وانسيابية وتناسق كل أدواته الأدائية الذاتية: الوجه بزواياه وحركته، الساقان الخاويتان المنذعرتان اللتان لم تستقرا من شدة الخوف الخفي، الصوت بتلويناته النغمية المتسقة وتلوينات التحولات النفسية، اليدان اللتان كانتا ترافقان التعبير والتحرك الداخلي عنده، الجسد الذي كان يرتخي وتبطئ إيقاعاته في مونولوجات التمسكُن والتهادن، وأما في حالات الديالوج وانفلات التوتر النفسي فكان جسد زيناتي الشخصي يطغى على جسد زيناتي الشخصية.

وأما الروائي فاضل الربيعي فقد اعتبر مونودراما «القيامة» عملاً مهماً لأنه يقوم بمهمة عسيرة ومعقدة تتلخص في تحرير الشخصية الأدبية الفلسطينية من الرموز والدلالات التعسفية التي فرضت عليها وقيدتها إلى زمن طويل، فالفلسطيني هنا ليس ذلك الفدائي الذي يمتلك قوة خارقة ويجترح المعجزات، بل هو الإنسان البسيط، العادي، المجبول من لحم ودم ومشاعر، ومن جهة أخرى فإن هذا النص نقدي شجاع، وجريء في رؤية مشكلات الثورة الفلسطينية.

وقد حفل الكتاب بمقدمة كتبها المسرحي السوري المخضرم فرحان بلبل، كما ضم الكتاب أهم المقالات التي تناولت كل عرض مسرحي مونودرامي على حدة وأفرد فصلاً خاصاً للحوارات الصحافية التي أجريت مع زيناتي قدسية في مناسبات مختلفة، وتحدث فيها عن أسرار تجربته المسرحية الطويلة، وأعد ثبتاً بالأعمال المسرحية التي شارك فيها، إضافة إلى نشر نصين مسرحيين من تأليف زيناتي هما: مجنون يحكي وعاقل يسمع.. وليلة صعود المهرج.

خطيب بدلة

*الكتاب:القابض على الجمر

زيناتي قدسية ومسرح المونودراما

*الناشر: شركة العين الثالثة للإنتاج الفني ـ دمشق 2007

*الصفحات:607 صفحات من القطع المتوسط