مؤلف هذا الكتاب هو عمارة ناصر، باحث جزائري، يهتم بالقضايا الفكرية والفلسفية، وسبق وأن نشر عدة دراسات وأبحاث في بعض الدوريات العربية والفرنسية. وينشغل عمارة ناصر في كتابه «اللغة والتأويل» في تناول العلاقة ما بين اللغة والتأويل من خلال رصد المخاض الفلسفي الذي نشأت في ظله تلك العلاقة الحميمة ما بينهما.
وتقديم بعض ما أنجزته الفلسفة الغربية لإنقاذ المعاني المحاصرة في دائرة المركزية الأوروبية المحكومة بآليات المطابقة والمماثلة، من خلال أعمال فلاسفة كبار أمثال نيتشه وفرويد وماركس، وشلايرماخر ودلتاي وهيدغر وغادامير وريكور. كما يتناول الرابطة المعرفية ما بين اللغة والتأويل في الفكر العربي الإسلامي، من خلال الخوض في المشروع الذي هدف إلى تجديد المعاني المتهافتة في غياهب تراث مغمور وموصدة فيه أبواب الاجتهاد والتجديد. ويبدأ المؤلف بتحديد ماهية الهرمينوطيقا، التي يحصرها في التأويل، من حيث كونه إشكالية ولدت مع إشكالية الترجمة، بعد أن جرى الاستناد إلى الفيلولوجيا في ترجمة النصوص، الأمر الذي طرح مشكلة الاختلال في المعنى المتعادل مع معنى النص الأصلي، وبالتالي فإن مسألة التعادل في المعنى هي منشأ التأويل.
وعليه فإن التأويل ليس منهجاً نظرياً يمكن الاعتماد عليه، وليس قانوناً علمياً يمكن الحصول منه على نتائج منطقية. غير أن التأويل يستغرق في كينونة الموضوع المؤوّل، فاتحاً بذلك عالم الذات على عالم النص، من دون وساطة منهجية. لكن تحديد التأويل أو الهرمينوطيقا يستلزم تعيين المفاهيم المركزية في حقل القراءة التأويلية وعلاقتها باللغة، للكشف عن الدينامية التي بها تشتغل، وبها تقتحم موضوعها، وتبيان المبررات التي تجيز شمولية هذه الدينامية، وكذلك التعريف بموضوعها، أي التعريف بالنص، ثم تحديد العلاقة التي تنشأ بينهما وتبيان طبيعتها.
ويعرض المؤلف مشروع التأويل في الفكر الغربي، معتبراً أن الحداثة مثّلت - في بعدها الفلسفي - خلاصة لاستنفاذ المخيال الأسطوري والرمزية الدينية والفنية، وأرست قواعد للخطاب ومعايير ترمي إلى الابتعاد عن الذاتية لتأسيس القول من خلال آليتها، ومثّل الجهد اللغوي منذ سوسير تغيراً عميقاً لهدف الفكر الغربي وقراءةً فلسفية لرموزه من أمثال نيتشه وماركس وفرويد وسواهم.
وقد تحددت التأويلية المعاصرة وفق مقولة ان (اللغة تشرح التاريخ، لأن معنى التاريخ هو أن يكون تاريخاً للمعنى)، لكن اللغة في حدّ ذاتها لم يكن بالإمكان تطويعها للفهم الهرمينوطيقي إلا عبر التخلص من الصلابة المنهجية لنحوها وسيميائها، حيث لم يعودا مكانين لاستقرار الحقيقة ووحدتها.
ويقتضي تبيان ذلك من خلال المقارنة ما بين مقاربات اللغة في الفلسفة الغربية بالنظريات التأويلية المعاصرة، وذلك كي يتم الاستفادة من التجربة التأويلية الغربية وتحصيل ما يدفع اللغة إلى حدود إمكانية اقتحام النص في أعماقه.
ويرى المؤلف أنه عند استعراض التراث الفكري الغربي، يظهر أن الفكر الفلسفي لم يعمل إلا على تشييء كل ما هو معطى للفكر، بدءاً بالبحث عن أصل الكون وانتهاء باللسانيات الحديثة، الأمر الذي جعل المعاني تنسحب خلف لاشيئيتها في مقابل إلحاح الإنسان على الامتلاك برغبة والمعرفة بفهم والتواصل بلغة والإحساس والإدراك بشعور والعيش بقيم.
لذلك بحث الفكر الغربي عن طريقة مختلفة لتجديد المعاني التي أنبتها الوهم بامتلاك الحقيقة واستقرارها في خطاب اللغة والشعور والمجتمع والاقتصاد.. إلخ. في جانب الفكر العربي الإسلامي، يرى المؤلف أن النص المؤسس لتاريخ الفهم العربي الإسلامي، ويقصد القرآن، ينطلق من التميز في بنيته عن الشعر الجاهلي، بمعنى أن إنتاج الرموز فيه يختلف عن إنتاجها في الشعرية الجاهلية، ليس على مستوى اللغة،
وإنما على مستوى الدلالية وعلمها الذي يفتقر إلى الأشياء ومراجعها، لأن القرآن يشتغل منذ البداية على حمل اللغة لتقرير الوجود، حيث يتأسس الخلق على اللغة والوجود، وينبثق من «كن». ثم أن العالم كله مسبوق بنص شامل هو «اللوح المحفوظ»، لكن عندما تتوسط اللغة الذات الخالقة والخلق، فإن هناك مسافة ما ينبغي أن تعاد داخل بنية الفهم.
وقد عمل التأويل في الخطاب الفكري العربي الإسلامي على نقل الذات القارئة وفرضيات الخطاب إلى جهة لا تتعادل في المعنى، وبالتالي فإنه حيث يكون اللا تعادل فلا نهائية للتأويل، بل عودة إلى خطاب النفس لتجديد دلالات اللغة الموضوعة لمراهنة المعنى.
ونتج عن ذلك أن اللغة وموضوعها هما المنتصران في مراهنة التأويل، الذي يطرح في كل فهم تخارجاً مطرداً لمواقع الفهم، التي أُغرقت بدورها في جدل المجاز والحقيقة في خطاب اللغويين وفي اضطراب النفس في خطاب الصوفية.
ويظهر اشتغال القراءات اللغوية والتأويلية في التراث العربي الإسلامي من الجهة التي ينفتح فيها خطاب القراءة على العلاقة فوق اللغوية بين قارئ مهيأ للاستقبال والاعتقاد، في مجاله المتراوح بين الفهم للمعرفة والفهم للإيمان، وبين ذات كاتبة وإلهية في مجالها المتراوح بين الخطاب للإرادة والخطاب للعلم. وقد أسفر ذلك عن تفكيكيات عميقة للدلالات المبدئية التي يقدمها أي تفسير.
غير أن تبيان فعل التأويل يقتضي تشريح البعدين اللغوي والتأويلي في الثقافة العربية الإسلامية، من خلال البحث عن بعض الديناميات التي تسهم في إنتاج المعنى وكذلك في الفهم، حيث يتخذ المؤلف من رؤية فخر الدين الرازي للغة والتأويل حقلاً للدراسة، استناداً إلى موسوعيته التي تتيح مجالاً للكف عن نقاط معرفية جديدة، ناتجة عن تقاطع مصادر ثقافية مختلفة في فكره، ثم محاولته الأساسية في تطويع اللغة المشتقة بين تأصيلية أرباب البلاغة والنحو، والنزعات الفقهية والكلامية.
وقد عمل الرازي على الطرف الآخر للغة الجدل الكلامي، من خلال تعيين مجال جديد لتحريك أفعال الفهم، والقراءة، والاستقبال، وهو مجال الشخصانية العلائقية في خطاب الحوار «عبد/ إله»، وهو المجال الذي يسمح بإغفال الانشقاقات وغمر الشروخ التي تتموضع داخل الحدود الفاصلة بين الحقيقة والوجود.
كما ضمّن الرازي مجمل مؤلفاته فلسفة للغة وتحصيلاً للمعنى الغيّب في رموز النص، وتحصيلاً لملكة فهم اللغة، حيث تبدو اللغة أهم أثر لفهم الرازي للنص الديني وللتأويل، ويقدم لنا تجربته في القراءة وفي نفس الوقت يقدمها لمخالفيه من المتكلمين واللغويين.
وفي الجانب التطبيقي، يقدم المؤلف قراءة هرمينوطيقية لنص الرازي الشهير «التفسير الكبير ومفاتيح الغيب»، يراجع فيها مواضع الشروخ التي تصدر الوهم في تصور المعاني فيه، ويستدعي بعض النصوص الأخرى التي يعتبر نص التفسير مستعيداً لها بتفصيل، وكذلك تحصيل نتائج القراءة التأويلية المتعلقة أساساً بفهم الذات أمام النص، والوعي بتاريخ الكتابة الناتج عن تفعيل اللغة.
ويخلص إلى أن لغة التحليل الفلسفي المطروحة في «مفاتيح الغيب»، هي لغة تتمسك بمنطق العبارة وقوة التخيّل، حيث يمنح المجال التخيلي لغة التفسير طاقة إشارية لفتح المعنى على الوجود المسترجع بفهم الذات الإلهية نفسها، إذ عليها تبني أفعال الشرح والفهم والتفسير والتأويل.
إن الطرح التأويلي لدى فخر الدين الرازي يتبع نسقاً فلسفياً، يتسم بعمق الفلسفة، فلسفة الوجود الواجب، والوجود الممكن، والماهيات ولمفاهيم فلسفية أخرى، يوظفها الرازي في تقاطعات لرصد الحقيقة، ومحتمياً خلف البينيات البرهانية التي يستخرجها من أصول الفقه، الأمر الذي جعل اللغة البيانية تتجه نحو تقدير المعنى، وتجاوز الآثار الطبيعية لفعل إنتاج المعنى ذاته.
ويخلص المؤلف إلى اعتبار الهرمينوطيقا جهدا يهدف إلى تحرير ما تجمده الكتابة وتوقف تاريخه، وإلى إحالة إجابات الكتابة إلى أسئلة التاريخ، بل إنها تحيي ما يموت في الوجود ـ بفعل نسيان الذات ـ ليأخذ ماهيته وزمانيته. وهي تبدو اليوم النشاط الفلسفي الأكثر قدرة على توليد المفاهيم، التي تلف اللغة الحاملة للنص ومعانيه . ومن نتائج هذا النشاط الفلسفي اكتشاف مجموعة من المفاهيم
والنظريات، مثل حاملية النص ، التي يمكن بواسطتها يمكن إيجاد القاعدة الحاملة لمصادر المعنى وإنتاجه ، و نظرية الفناء، التي تمكن من إيجاد الدينامية لإصدار المعنى عبر علاقات ووظائف جديدة في اللغة كعلاقة الفناء . كما تمكن من إيجاد مفهوم فلسفي يقابل الدزاين ويتجاوز إخفاقاته في بناء التاريخ على أساس أنطولوجية الفهم .
إضافة إلى نظرية الاحتفال في اللغة، حيث يمكن العثور مجدداً على مفهوم يقف وراء تعبيرية اللغة الفلسفية، وكذا الكشف عن العلاقة الشبه نهائية بين النص الفلسفي والنص الديني والتضمن الحاصل وإيجاد الفروق الجديدة .
ويمكن الكشف عن دينامية لغة النص في التراث العربي الإسلامي والتضمينات التأويلية لها عبر اختراق النص من طريقة الوجودية ـ اللغوية، بهدف تجاوز العائق الجدلي الكلامي ومناقشة المعاني المطروحة، إذ إن موضوع الهرمينوطيقا المطروق هنا هو اختلاف اللغة ومجال نشاطها الخاص في إنتاج الاختلاف في الفهم والتفسير .
ويمكن أيضاً تحرير المستوى التخييلي في اللغة وتمثيل مختلف عمليات التأويل وإصدار المعنى ، والكشف عن القدرة الاحتفاظية للغة خصوصا لغة النص الديني، أي القدرة على الاحتفاظ بمخزون من المعاني الإضافية الموازية، المماثلة أو المعارضة أو المضادة للمعاني المعلنة في نص التأويل أو الفهم الأول .
عمر كوش
*الكتاب:اللغة والتأويل : مقاربات في الهرمينوطيقا الغربية والتأويل العربي الإسلامي
*الناشر:الدار العربية للعلوم ودار الفارابي، ومنشورات الاختلاف - بيروت ـ الجزائر 2007
*الصفحات: 215 صفحة من القطع الكبير

