ما هو الاندماج الاجتماعي ؟

مؤلفة هذا الكتاب الذي حصل على جائزة «الكتاب السياسي لعام 2007» هي الدكتورة «دومينيك شنابر»، مديرة مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في فرنسا، وعضوة المجلس الدستوري الفرنسي.

لقد قدمت الدكتورة «شنابر» أعمالا عديدة أبرزتها في ميدان الأبحاث الاجتماعية للهجرة ومنها بوجه خاص: مبحث حول سياسة الهجرة (1992)، المسلمون في أوروبا (1992)، مجتمع المواطنين ـ حول الفكرة الحديثة للأمة (1994)، العلاقة من الآخر (1998)، الديمقراطية الداعية يبحث حول المساواة المعاصرة (2002)، الخ. تعرضت البلدان الأوروبية إلى زعزعة جميع بناها الاجتماعية بفعل الحداثة، وبالتالي فقد عرفت تطورات واسعة في جميع مؤسساتها: الأسرة، الثقافة، الدين، النشأة الإنتاجية، الدولة.

ولقد تم دمج هذه التطورات عبر مشروع جديد للمجتمعات الأوروبية مختلف كليا عما عرفته في القرون الوسطى وفي عصر النهضة، ألا وهو مشروع المجتمع الديمقراطي الذي توحده علاقة المواطنة لكافة أفراده باعتبارهم كائنات إنسانية حرة ومتساوية فيما بينها.

إلا إن هجرة الآلاف من سكان البلدان العربية والإسلامية والإفريقية قد أوجدت اختلالا ملحوظا في وحدة المجتمعات الأوروبية ونموذجها الاندماجي لكافة قاطنيها خاصة مع وجود أزمة اقتصادية خلفت البطالة بين الأجيال الفرنسية المنحدرة من هذه الهجرة وعدم الاهتمام بها وتهميشها.

فالاضطرابات التي عرفتها فرنسا عام 2005، حيث قام شبيبة «ضواحي» المهاجرين بإحراق السيارات والهجوم على أجهزة الأمن في أكثر من مدينة فرنسية، وتهديد النظام العام، شكلت كاشفا عن مشاكل أبناء الهجرة المهملين، بل وأدت إلى التساؤل حول مدى صلاحية «النموذج الديمقراطي الجمهوري».

فأبناء المهاجرين مثل كافة شبيبة الطبقات الشعبية، أبناء أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية للمجتمع الفرنسي. وبعبارة أخرى فإنهم «ينتمون إلى فئات اجتماعية كانت ضحية هذه الأزمة». كل شيء يجري «وكأن فرنسا اختارت لنفسها طريق البطالة» بحيث أن العقد الاجتماعي الذي قام على منهج إزالة التفاوتات الاجتماعية كان يتحقق على قاعدة «توافق غير معلن» بعدم تشجيع التشغيل أو حل الأزمات الاجتماعية المتصاعدة.

فالنقابات كانت تعمل على تمثيل مصالح العاملين بينما تركزت سياسة أرباب العمل على «إدارة السلام الاجتماعي» داخل المنشآت الاقتصادية دون الأخذ بعين الاعتبار جحافل العاطلين عن العمل. أما السلطة السياسية فقد ركزت على تحقيق الحوار والتفاوض مع الشركاء الاجتماعيين في النقابات والمنشآت الإنتاجية، حريصة بذلك على مصالحها الانتخابية لدى من يعملون أو لدى الذين يتمتعون بفئات «الإسعاف الاجتماعي».

والنتيجة التي تشير إليها الكاتبة هي بروز نزعة الانغلاق على مرجعية وهوية خاصة. فالدينامية الديمقراطية التي كانت قوية وفاعلة لجعل أبناء المهاجرين أفرادا مندمجين في المشروع المواطني الديمقراطي الحديث قد أصابها العطب بسبب أشكال العزل والحرمان والإقصاء التي فرزها النظام الديمقراطي نفسه، بما قاد إلى اللجوء إلى مرجعيات وهويات تبحث عن الاعتراف بها، وبما جعل بعض المفطرين يقول بـ«انتعاش الروح القبلية».

لقد نجم عن توطن مجموعات واسعة «من أصول أجنبية وذات ثقافة إسلامية» وجود نزعتين متعارضتين في قلب المجتمع الفرنسي: النزعة الاندماجية التقليدية التي تخاف من تلاشي الدولة ـ الأمة لاسيما وأن هذه الأخيرة مهددة في الوقت نفسه بالوحدة الأوروبية. والنزعة التعددية الثقافية التي ترى في الوضعية الجديدة للمجتمع الفرنسي حظوظا ثمينة لتشكيل «مواطنية جديدة» للجميع.

وبالرغم من الخلافات القائمة بين المشروعين «الاندماجي» و«التعددي» فإن هناك قواسم تجمعهما:

ـ المساواة في المعاملة وذلك بتوحيد وضعية العمال الأجانب وأسرهم مع الفرنسيين.

ـ قمع جميع أشكال التمييز بسبب الأصل والانتماء الاثنية.

ـ تسهيل الحصول على الجنسية الفرنسية ومنح حق التصويت والانتخاب على مستوى البلديات والأقاليم.

وتتعرض الكاتبة إلى مقارنة بين عدد من البلدان الأوروبية حول مسألة اندماج المهاجرين وأبنائهم، بما يبرز تفاوتا فيما بينها.

فلقد قامت سياسة الاندماج على احتضان المدرسة لأبناء المهاجرين كي يتعلموا لغة بلاد استيطانهم وإعدادهم كمواطنين فيها، ونشر الثقافة الديمقراطية فيما بينهم وحصولهم على المعارف الضرورية لاندماجهم في الحياة الاجتماعية، إلا أن هذا الاندماج الثقافي الذي يتعزز بوجود ثقافة جماهيرية سمعية ـ بصرية سائدة يعيش داخلها أبناء الهجرة أو بتواصلهم مع بقية السكان لم يحل دون وجود خصوصيات تختلف من بلد أوروبي إلى بلد آخر.

فالواقع أن هناك فرقا واضحا ملحوظا بين كل من بريطانيا وألمانيا وفرنسا، إذ أن الجالية الباكستانية في بريطانيا مثلا تعمل على توجيه سلوكيات أفرادها، وأنماط علاقاتهم مع الآخرين، في الوقت الذي تقوم فيه بتغذية الوعي على تميزهم عن غيرهم حسب ثقافتها التقليدية.

أما في ألمانيا وفرنسا، فإن أبناء المهاجرين يقيمون «علاقة رخوة» مع المؤسسات الدينية والاتنية لجالياتهم، وأكثرهم يعلن عن عدم التردد على الجوامع «إلا من وقت لآخر»، أو التردد على الجمعيات الدينية أو الاجتماع مع أقرانهم في «الأعياد الدينية الكبرى».

وهناك أيضا «استمرار للقيم الخاصة كالهوية القومية أو الهوية الدينية، الأمر الذي يلاحظ بالنسبة للسكان ذوي الأصول الباكستانية في بريطانيا وبحثهم عن إقامة علاقات قوية مع باكستان. وهذا يفسر من وجهة نظر الكاتبة، واقع أن تاريخ الديمقراطية في بريطانيا مختلف عن غيره من البلدان الأوروبية. لماذا؟ لأن البريطايين يعترفون بوجود «هيئات وسيطة» و«مجموعات خاصة» في المجتمع البريطاني دون أن يعني ذلك الاعتراف الحقوقي والسياسي بها.

والأمر تراه بشكل خاص بالنسبة للأتراك في ألمانيا حيث يتمسك هؤلاء بهويتهم القومية ولا يعترفون بهويتهم الألمانية إلا بصعوبة بالرغم من أنهم ولدوا في ألمانيا ودمجوا ثقافيا في مدارسها. وهذا يتضافر مع حقيقة أن الألمان ما زالوا متعلقين بمفهوم اتني مسيطر للأمة الألمانية. على عكس ذلك فإن أبناء المهاجرين في بريطانيا وفرنسا يعلنون عن ازدواجية انتماءاتهم للبلد الأصل ولبلد الاستيطان، أي «أنهم هنود وبريطانيون» أو «جزائريون وفرنسيون» أو «برتغاليون وفرنسيون» بآن واحد.

ولكن الكاتبة لا تقصر مشكلة الاندماج على أجيال الهجرة، وإنما تطرحه على مستوى المجتمع الفرنسي. فالعقد الاجتماعي لسنوات الازدهار أصبح مثلوما بما أوجد حركة احتجاج على المؤسسات الديمقراطية. ففي عام 2004 بينت استطلاعات الرأي أن 13% من الفرنسيين يمنحون الثقة لهذه المؤسسات ضد 79%.

والنقابات أصبحت تتهمش أكثر فأكثر بحيث لا يوجد سوى 8% من العاملين داخلها. أما الأحزاب السياسية فإن نشاطها أصبح متصورا على تحصير الانتخابات الرئاسية النيابية. وكل من «الحزب الاشتراكي» أو حزب «الاتحاد من أجل الحركة الشعبية» لا يضم أكثر من 000 200 منسيا إليه بالرغم من الجهود التي بذلت في هذا الميدان.

وفي عام 2003 أعلن 44% من الفرنسيين عدم اهتمامهم بالسياسة مقابل 62% منهم عام 1994 في حين تتعرض الطبقة السياسية لانتقادات واسعة. لقد تحولت اهتمامات المواطين نحو المجتمع المدني حيث إن 45% منهم ينتسبون إلى جمعية مدنية وباتجاه البحث عن «ديمقراطية المشاركة» في وجه «الديمقراطية التمثيلية».

لماذا؟ لأن هذه الديمقراطية التمثيلية التي تفترض انتخاب من هم قادرون على تبين المصالح العامة وخدمتها بنزاهة، أصبحت «أرستقراطية تمثيلية» معزولة عن الناخبين تحركها المصالح الجهوية أو استطلاعات الرأي الظرفية. وانتشار الانترنت ساعد هو من جانبه على التحول باتجاه ديمقراطية مباشرة مستمرة، يستطيع فيه المواطنون أن يناقشوا وأن يطرحوا آراءهم واقتراحاتهم.

وبانتهاء التنظيم الاقتصادي الذي كان يؤمن التشغيل الكامل الأمر الذي يؤدي إلى تفكيك العلاقات الأسرية والاجتماعية، فإن شعور الحرمان والظلم يقوى خاصة مع التصاعد الفاحش لمداخيل الرأسمال على حساب الفئات العاملة التي تتعرض للتسريح شيئا فشيئا والتي تشعر أنها تخضع لشروط «اندماج مذلّ» لها بعد التعويضات الزهيدة «الإسعافية» وبالأحرى «الإحسانية» التي يقدمها أرباب العمل للمسرحين أو العاطلين عن العمل.

وترى الكاتبة أخيرا أنه لا بد من إعادة صياغة الوحدة الاجتماعية الاندماجية على أساس ديمقراطية مواطنية واجتماعية سليمة وعادلة، وأن دور الباحث الاجتماعي (إن لم نقل جميع المهتمين بقضايا الثقافة والاجتماع والسياسة) يتطلب المساهمة في مشاركة المواطنين في طرح التساؤلات والإجابة عليها والمشاركة في تصحيح نواقص المشروع الديمقراطي الاندماجي المعهود الذي اعتقد أنه كفيل بتحقيق المساواة والحياة الكريمة للجميع.

*الكتاب:ما هو الاندماج؟

*الناشر:غاليمار ـ باريس 2007

*الصفحات:238 صفحة من القطع المتوسط

Qu'est - ce que l'intation ?

Dominique Schnapper

Gallimard - Paris 2007

P.238

الأكثر مشاركة