كتب في الذاكرة

ديوان العباس بن الأحنف

ت + ت - الحجم الطبيعي

هو العباس بن الأحنف من بني حنيفة، وكنيته أبو الفضل، فقيل له اليمامي، ولعله نسب إليها لمولده فيها. والعباس من الشعراء الذين قصروا شعرهم على الغزل، ولم يتجاوزه إلى غيره من الفنون الشعرية، وكان يفتخر بأنه لا يهجو ولا يمدح، قال:

لحاني في القريض فقلت ألهو وما منّي الهجاء ولا المديح

وعلى ذلك فقد رويت له أربعة أبيات قيل إنه مدح بها الخليفة الرشيد. ويدل شعر العباس على أنه اتصل بالمهدي والرشيد، ولكنه اتصال أُلفة، لا اتصال غايته التكسب، ولكن الإعجاب بشعره جعله يفوز في جوائز كثيرة، فقد روي أن «خالد بن يحيى البرمكي» طلبه في أحد الأيام، فقال له: إن «مارية» إحدى جواري الرشيد هي الغالبة على أمير المؤمنين، وإنّه جرى بينهما عتب، فهي بعزّة دالة المعشوق تأبى أن تعتذر، وهو بعزّ الخلافة وشرف الملك والبيت يأبى ذلك، فقل شعراً تسهل به عليه هذه القضية، فقال:

لا بد للعاشق من وقفةٍ تكون بين الوصل والصّرمِ

حتى إذا الهجر تمادى به راجع من يهوى على رُغمِ

فدفعها يى البرمكي» إلى «الرشيد» فقال: والله ما رأيت شعراً أشبه بما نحن فيه مثل هذا الشعر. ثم قال: يا غلام هات نعلي، فغنني والله أراجعها على رغم. ثم إن «مارية» لما علمت بمجيء الرشيد، تلقته وقالت: كيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ فأعطاها الشعر، وقال: هذا الذي جاء بي، قالت فمن قاله؟ قال: العباس بن الأحنف، قالت: فبم كوفئ؟ قال: ما فعلت شيئاً بعد، فقالت: والله لا أجلس حتى يكافأ، فأمر له بمال كثير، وأمرت له بمال أقل.

وغزل العباس نزيه شريف مطبوع، وقد قال الجاحظ: «لولا أن العباس بن الأحنف أحذق الناس وأشعرهم وأوسعهم كلاماً وخاطراً، ما قدر أن يكون شعره في مذهب واحد لا يجاوزه، لأنه لا يهجو ولا يمدح، ولا يتكسّب، ولا يتصرف، وما نعلم شاعراً لزم فناً واحداً لزومه فأحسن فيه وأكثر». وقد قدّمه «أبو العباس المبرّد» على نظرائه وأطنب في وصفه، قال: وكان العباس من الظرفاء ولم يكن من الخلفاء، وكان غزلاً ولم يكن فاسقاً، وكان ظاهر النعمة ملوكي المذهب، شديد التزيّف وذلك بيّن في شعره.

ولعل هذه الأقوال، تدلّ على ما كان للعباس ولشعره من منزلة في الشعراء العباسيين والشعر العباسي، ولذلك يمكن لقارئ الديوان أن يلمس أن شعر العباس يتناهى في اللطف ورقة الشعور وجمال الديباجة ومتانة التركيب، ومقاطعه كلّها من السهل الممتنع، ومعانيه من تلك المعاني التي كانت في أيامه، غير أنه أبرزها في حلة جميلة صافية، حسنة الإيقاع تلذّ القلب والأذن وتعلق في سهولة بالأذهان.

وكان «إبراهيم الموصلي» الموسيقار المعروف، مشغوفاً بشعره لرقته، فتغنّى في كثير منه. وثمة أسطورة في موته وهي أن جماعة من أهل البصرة خرجوا يريدون الحج، فلما كانوا في بعض الطريق، فإذا بغلام يقول لهم: هل فيكم أحد من أهل البصرة؟

فأجابوه: كلنا من أهل البصرة، فماذا تريد؟ قال: إن مولاي من أهلها ويدعوكم إليه، فقاموا إليه فإذا هو ملقى تحت شجرة قرب عين ماء، فجلسوا، فأحس بهم، وأنشأ يقول:

يا غريب الدار عن وطنه مفرداً يبكي على شجنه

كلّما جدّ البكاء به دبت الأسقام في بدنه

وبينما هم جلوس، إذ أقبل طائر فوقع من أعالي الشجرة، ففتح العباس عينيه وراح يسمع تغريد الطائر ثم أنشأ يقول:

ولقد زاد الفؤاد شجاً طائر غنى على فننه

شفّه ما شفّني فبكى كلّنا يبكي على سكنه

ثم تنفّس نفساً عميقاً فاضت نفسه معه.

وهناك أسطورة أخرى بأن المأمون حين أخبر بأن إبراهيم الموصلي والكسائي والعباس بن الأحنف قد ماتوا في نفس اليوم قدم العباس فصلى عليه، وحين سئل كيف آثر العباس بالتقدمة أنشد:

وسعى بها ناس فقالوا إنها لهي التي تشقى بها وتجاهد

ويروون بعد ذلك أبياتاً كثيرة، وكل ذلك يدل على مكانة هذا الشاعر الذي لم يقل غير الغزل الساحر.

Email