في هذا الكتاب ترى الباحثة المصرية الدكتورة هدى مكاوي أن الطرق الصوفية تعتبر من أهم الموضوعات المثيرة لفكر الباحثين في القارة الإفريقية، التي كان لها نصيب وافر في انتشار تلك الطرق بها، وذلك اعتماداً على استعداد عقلية تلك الشعوب للتصوف.

كما أدت الطرق الصوفية دوراً كبيراً في تاريخ إفريقيا، تمثل في عدم نفاذ الدعوات الاستعمارية المستترة وراء التبشير، فكانت الطريقة الأحمدية في نيجيريا، والسنوسية في ليبيا، والمهدية في السودان. في البداية يستعرض الكتاب الإطار النظري والمنهجي للفكر الصوفي في السودان بداية من التعرض للمفاهيم المختلفة للتصوف والتي تدور في إطار الصفاء والصف والصوف والصوفة، وإن كانت كلها ترتكز على الزهد في الدنيا، والتواضع، والإخلاص في العبادة.

كما تناول بالشرح بعض المفردات الصوفية مثل: العهد أو البيعة، والكرامة (الأمر الخارق الذي يأتي به الإمام)، والحضرة (الليلية)، والراتب والحزب والورد، وكلها أدعية وآيات قرآنية تقرأ بعدد معين وفي أوقات معينة، والولاية وما تحتويه من خلافة النبوة للعلماء، وخلافة الرسالة للأبدال، وخلافة أولي العزم للأوتاد، وخلافة الاصطفاء للأقطاب. مع شرح مفهوم الإمامة بداية من إمامة الصلاة، وحتى قيادة الأمة في شؤونها الدنيوية والأخروية.

كما تم تناول جميع الطرق الصوفية التي انتشرت في المجتمع السوداني ومنها: الطريقة القادرية والسمانية والختمية والتيجانية والإدريسية والاسماعيلية والمجذوبية. ثم تتناول الكاتبة بالشرح والتفصيل النسق السياسي للمهدية في السودان باعتباره مجتمعا افريقياً تقليدياً يميل للحكم المركزي الذي تتجمع فيه السلطة في يد زعيم واحد وهو الإمام الذي يفرض سلطته على الجميع.

وقد أثرت المهدية في المناخ السياسي في القرن التاسع عشر مع قيام الإمام المؤسس محمد أحمد عبدالله المهدي بدور كبير في القضاء على السلطة الحاكمة في السودان آنذاك، وذلك بمساعدة أنصاره (مجتمع الأنصار) الذين آمنوا به إماماً مهدياً وأخلصوا له الولاء فاستطاع تكوين الدولة المهدية عام 1881 وحتى سقوطها في عام 1898، تلك الفترة التي شهدت إلغاء التمايز القبلي واندماج غالبية القبائل السودانية في مجتمع واحد.

حيث انصهرت القبائل المتناحرة في خدمة المهدية ومقاومة الحكم التركي في السودان. وامتد نفوذ الدولة المهدية من وادي حلفا في الجنوب الشرقي إلى سواكن وطوكر شرقاً، وإلى كسلا جنوباً والانحدارات الجنوبية الشرقية لبني شانغول وجبال جوبا، حتى مقابلة النيل الأبيض وفاشودة وبوهر والرجاف إلى الجنوب الغربي، كما امتد نفوذها إلى جنوب الصحراء الليبية.

ولا يقوم النظام السياسي للمهدية على الوراثة أو ولاية العهد، ولكن باختيار الأصلح من بين الأنصار، وهو ما دفع الإمام المهدي إلى اختيار أحد أبناء قبيلة التعايشة (عبدالله التعايشي) ليصبح نائباً وقائداً عاماً على جيوشه، ولقبه بالخليفة.

وتتكون السلطة في المهدية على أساس هرمي يكون فيه الإمام هو رأس الدولة وأمير المؤمنين يليه خليفة الخلفاء، ثم الخلفاء، ثم المجلس الذي يستشيره الإمام في قراراته، والقضاة. أما بالنسبة للنسق الديني للطريقة المهدية فتراه الكاتبة مزيجاً من الشعائر والمعتقدات والمبادئ التي ترسم قواعد الحياة عن طريق سلسلة من الواجبات والأعمال التي تؤدي إلى معرفة الله والاتحاد به عن طريق التدريب المستمر والتوجيه الدائم الذي يعطيه الشيخ لمريديه.

ويعتبر العهد هو الميثاق الذي يربط بين الشيخ والمريد في فكر المهدية، وهو التزام بين الأنصاري والإمام بالطاعة والحماية. ويعد العهد أو البيعة وسيلة لشرعية الحكم باعتبارها الأساس الثابت في الإسلام للقبول السياسي للسلطة.

وتعتبر حلقات الذكر (راتب المهدي) من أهم المظاهر الشعائرية للمجتمع الأنصاري، ويستعرض الكتاب أهم مكونات تلك الشعائر وهو راتب المهدي والذي يبدأ بالافتتاحية وهي المطلع مع بعض الأدعية، والأساس وهو جوهر الراتب وقراءة الدعاء والمسبحات، والخاتمة وبها دعاء الاستغفار. كما يتعرض الكتاب لطبيعة العلاقات القرابية في المهدية والتي تتنوع بين القرابة الشعائرية، والقرابة الطبيعية (البيولوجية)، وتدور كلها حول زيادة أواصر التلاحم بروابط الود والتآلف مع استخدام مصطلحات الأخ والإخوان والأحبة.

كذلك الزواج بين أفراد المهدية، والذي يشاركه فيها المجتمع السوداني باعتباره من المجتمعات الإفريقية التقليدية التي لا يمكن الفصل فيها بين القرابة من ناحية والزواج والعائلة من ناحية أخرى. ويعيش أفراد الأسرة الأنصارية الكبيرة معيشة مشتركة داخل مكان فسيح مقسم إلى عدة منازل متجاورة تتيح إقامة علاقات أسرية مستمرة وحميمية. ويتولى كبير العائلة رعاية شؤون الحياة اليومية وفي الغالب يكون قريبا مشتركا لجميع أفراد تلك الأسرة الممتدة الكبيرة.

وتعد التنشئة الاجتماعية للفرد الأنصاري من الأسس التي تعتمد عليها المهدية في الصقل المنهجي لشخصيات الأنصار، وتعتبر الخلوة من أهم تلك المبادئ، كما أنها من أقدم المؤسسات التربوية التي ظلت عبر العصور من تاريخ السودان تؤدي رسالتها في تدريس القرآن وتحفيظه بالإضافة إلى تعليم مبادئ القراءة والكتابة وتعاليم المهدية.

وتناقش الكاتبة النسق الاقتصادي للمهدية في السودان والذي يعتمد على حالة شديدة الثراء لمجتمع الأنصار الذي كان زعيمه المؤسس واحداً من أغنى أغنياء السودان، وقد استمرت تلك الحالة حتى أحفاد الأحفاد، وتتنوع مصادر الثروة لدى الأنصار من مختلف أنواع الملكية بما فيها ملكية الرقيق فيما مضى (ملكية الأفراد للرقيق ـ ملكية بيت المال للرقيق)، والتهادي (علاقات العطاء والتقبل والرد في الهدايا)، وهو ما يزيد الجماعة الأنصارية تماسكاً وارتباطاً.

ويعد التهادي من وسائل كسب المكانة الاجتماعية، كما أنه شرف يمنحه الإمام لبعض أغنياء الجماعة يخولهم بموجبه بالصرف والإنفاق على بعض فقرائها، كما يعتبر اعترافا بالمركز المالي العالي للمانح، وهو في الأخير نظام اجتماعي لمساعدة الأفراد في حياتهم اليومية أو لمساعدة شباب الأنصار المقبلين على الزواج.

ويوضح الكتاب أثر التغيير الاجتماعي على الطريقة المهدية بعد سقوط الدولة في نهاية القران التاسع عشر، حيث تمكنت المهدية من مسايرة التغيرات السياسية بالسودان من خلال شخص الإمام عبد الرحمن المهدي وآرائه المتماشية مع تلك التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي اجتاحت السودان آنذاك، علاوة على الكاريزما الخاصة به. فقد انطلق الإمام من أن المهدية تدعو إلى التغيير واستند إلى بعض أقوال الإمام المؤسس مثل: لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال.

وقد دعا الإمام عبد الرحمن أنصاره للاندماج في المجتمع السوداني ونهاهم عن لبس الزي الرسمي المميز لهم كما في السابق (الجبة المرقعة). ولم يحارب التعليم المدني الذي أخذ بالانتشار، بل عمل على دعم التعليم الديني بإدخال بعض التعديلات على نظام الخلوة، فألحق بها نظام الحرف اليدوية، كما أصبحت الخلاوي تؤهل خريجيها للالتحاق بالمعاهد الدينية.

وقد كان للإمام إسهاماته المالية في إنشاء المعهد الديني بأم درمان ثم إنشاء الجامعة الإسلامية، وفي إصدار الصحف، كما كانت له بعض الآراء والاجتهادات الفقهية في الفن والموسيقى. وكان لشباب الأنصار دور كبير منظم في استجابة المجتمع الأنصاري للتغيير حيث أصبحت المهدية تحتوي على عدد كبير من المتعلمين والمتخصصين في العلوم المدنية.

كما زادت نسبة الأنصار بالمدن عنها بالريف على عكس ما كان قديماً، وخاصة في أم درمان والتي أصبحت مسرحاً للأحداث السياسية بالسودان، وقام شباب الأنصار عن طريق تجمعاتهم بنقل آرائهم وأفكارهم إلى بقية المجتمع الأنصاري.

وإزاء التغيرات الاجتماعية للأنصار حدثت تغيرات نوعية بنائية للطريقة المهدية حيث تم إجراء بعض التعديلات الأساسية في مراكز وأدوار الأعضاء وتأسيس أدوات سياسية جديدة تتماشى مع البناء السياسي الجديد للمجتمع السوداني فتم تأسيس حزب الأمة، وتكوين رابطة شباب الأنصار.

محمد جمعة

*الكتاب:البناء الاجتماعي للمهدية في السودان

*الناشر:مكتبة مدبولي ـ القاهرة 2007

*الصفحات:310 صفحات من القطع الكبير