تعمل بينيديتا كرافيري، مؤلفة هذا الكتاب، أستاذة في الجامعات الإيطالية، وهي من مواليد مدينة روما وحفيدة «بينيديتو كروس»، أحد أهم الأخصائيين الإيطاليين بالحضارة الفرنسية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر. وتساهم المؤلفة بانتظام في الكتابة بصحيفة «ريبوبليكا» الإيطالية ـ القسم الثقافي ـ كما أنها من كتّاب «مجلة نيويورك للكتب».
سبق لها وقدّمت العديد من الكتب في الدراسة والسيرة. وهي صاحبة كتاب «السيدة دوفان وعالمها» الذي نال عام 1987 جائزة «أفضل كتاب أجنبي» في فرنسا. ومن كتبها «زمن تبادل الأحاديث»، الذي نال هو الآخر اهتماما كبيرا من النقّاد. «ملكات ومحظيات» هو كتاب عن أوضاع المرأة في أوروبا عامة، وفرنسا خاصة، منذ عصر النهضة وحتى نهايات القرن الثامن عشر، مع إسقاطات ذلك على الحقبة الحديثة. تبدأ المؤلفة تحليلاتها انطلاقا من عصر النهضة حيث عرف المجتمع الفرنسي تبدلات عميقة فيما يخص مفاهيم الأسرة التي أصبحت تعتبر منذئذ أساسا للدولة. لكن لم تكن النساء آنذاك يمتلكن مكانة «قانونية» في المجتمع تسمح لهن بممارسة دور فاعل في الحياة العامة، بل كنّ يخضعن بصورة كاملة لسلطة الرجل، وذلك بنفس الطريقة التي كانت تخضع فيها طبقة النبلاء للملك».
وكانت ترجمة سيطرة الرجل تتمثل في واقع أن المرأة، كانت ابنة أو زوجة أو «أرملة». لم تكن تملك أي هامش في حرية الحركة إلا بالمقدار الذي يحدده الرجل، ولي أمرها. هذا في حالة إرادتها القيام بـ «مهمة» عامة، أو تصرّفها بأية «ملكية». قد يكون من المفيد في هذا السياق التذكير أن المرأة في فرنسا لم تتمتع بحق الاقتراع في الانتخابات العامة وحق التمثيل الشعبي، سوى في عام 1945.
وتؤكد المؤلفة أن القرون التي تلت عصر النهضة، وبما في ذلك عصر التنوير (القرن الثامن عشر) لم تعرف سوى تطورا بطيئا ومحدودا جدا فيما يتعلق بالأوضاع العامة للمرأة. ومع ذلك، ورغم ذلك، توصلت نساء عديدات إلى «فرض أنفسهن في مجتمع الرجال». بل إنهن استطعن أن يحوّلن «نقاط ضعفهن» إلى «نقاط قوة».
هذا إلى جانب أنهن لعبن بعض «الأوراق الرابحة» التي «ضعفت» أمامها مقاومة الرجال «أصحاب القرار». وهناك «أوراق رابحة» أخرى لعبتها المرأة وليس أقلّها شأنا أنهن كنّ «ذوات طموح» إلى جانب تمتعهن بقدر كبير من «الذكاء». بكل الحالات استطاعت النساء المعنيات «زوجات كن أو محظيات» الولوج إلى آليات عمل السلطة في عصرهن.
المادة التي اعتمدت عليها المؤلفة تراوحت من أعمال الكسندر دوما، مؤلف «الفرسان الثلاثة» وصولا إلى الدراسات القريبة التي جعلت من نساء شهيرات موضوعا لها. كما وجدت في الصحافة «المهتمّة بأخبار الناس» معينا لها. وتشير في هذا السياق إلى أنها اكتشفت في سويسرا ناشرا للكتب «الفلسفية» وغيرها الممنوعة آنذاك في فرنسا.
تبدأ المؤلفة تحليلاتها انطلاقا من فترة حكم الملك فرانسوا الأول الذي تعتبره «مبتكر» مفهوم «البلاط» الملكي بالمعنى الحديث. ونفّذ عمليا فكرة الملك الذي يعيش حياة «عامة» من الصباح إلى المساء وحسب «برنامج» محدد منذ الاستيقاظ حتى النوم ومرورا بحضور المجلس ثم القدّاس ثم النزهة ثم العشاء ثم المشاركة في الحفلات.
وكان فرانسوا الأول هو الذي أعطى صفة «رسمية» لدور «الخليلة» من موقعه كملك فرنسا حيث نالته «آن دوبيسولو دبللي» دوقة منطقة «ايتامب» التي كانت آخر عشيقة له. وتنقل المؤلفة عن فرانسوا الأول اعتباره أن «بلاطا دون نساء مثل حديقة بلا أزهار». كما أنه شجّع قيام «شبكة شبه سرّية من الصداقات النسائية أصبح لها دورها الهام في الحياة السياسية للبلاد. ومن هذه الشبكة بالتحديد استلهمت فيما بعد «كاترين دوميدتشي»، حفيدته، الحلقة الشهيرة باسم «الأسطول الطائر».
وتدرس مؤلفة الكتاب من خلال دراسة الدور الذي لعبته نساء عديدات في ظل «النظام القديم»، أي النظام الفرنسي لما قبل الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789، الكيفية التي تطورت بها نظرة المجتمع الفرنسي للحياة «الجنسية» لملكهم. وهي تؤكد أن الفرنسيين كانوا يجدون في «العشيقات الملكيات» مصدر فخر لهم، على اعتبار أنهم كن يشكلن «نشاطا» طبيعيا مرتبطا بـ «المنصب الملكي» مثل الصيد أو الحرب.
وهكذا كان للملك لويس الرابع عشر «الملك الشمس» كما يجري وصفه، العديد من «المحظيات» اللواتي أنجب منهن عددا من الأطفال الشرعيين الذين اعترف بهم لاحقا حسب الظروف. ولكن الكثير من رعاياه رأوا في ذلك السلوك أمرا مستهجنا من حيث إنه يخالف التعاليم الكنسية، لاسيما من قبل ملك عُرف عنه ورعه وتديّنه.
مع ذلك وصل الأمر بلويس الرابع عشر إلى حد التفكير جديا بتوريث «العرش» إلى أحد أبنائه غير الشرعيين وإنما الذين اعترف بهم. فقطعت الكنيسة عليه الطريق وألغت وصيته إثر موته، وبطلب من الوصي على العرش على اعتبار أن الوريث الشرعي لويس الخامس عشر كان لا يزال قاصرا. وظهر فيما بعد أن لويس الخامس عشر هذا كان مولعا بالنساء وقد جعل هوايته المفضّلة هي «جمع العشيقات والمغامرات الغرامية».
أما لويس السادس عشر المشهور بسلوكه الأخلاقي وورعه الديني فقد كان يعاني من بعض العجز خلال السنوات السبع الأولى من زواجه بماري انطوانيت. ولم تتردد الصحافة «السرية» آنذاك من أن تجعل من الحياة العاطفية للملك «رهانا سياسيا»، إذ إن الأمر كان يتعلق بالعرش وبالوريث. وفي إطار مثل تلك الحالة أصبح لماري انطوانيت دور متعاظم.
لكن في الوقت نفسه ترى المؤلفة أن التعرّض للحديث عن الحياة العاطفية والجنسية للملك نزع الكثير من الهالة التي كانت تحيط بشخصية الملك والملكة أيضا، وأصبحا تدريجيا أشخاص عاديون كغيرهم من العامة عبر إمكانية تقييم سلوكياتهم «الأكثر حميمية».
لكن القوانين المتبعة في الفترة المدروسة لم تكن تعطي للملكة أية سلطة شرعية، لاسيما في ظل القانون المعروف بـ «القانون السالي» (نسبة إلى قبيلة من الفرنجة كانت تسكن بالقرب من منطقة «سالا») والذي كان يقول بتوريث «الذكور» فقط. وكذلك في ظل مفاهيم الدولة الحديثة التي برزت أثناء عصر النهضة والتي أكّدت هي الأخرى على «الشك بقدرة المرأة على إصدار أحكام صائبة».
ثم لم تكن النساء قادرات على تقرير مصيرهن فيما يتعلق بالزواج، لاسيما على صعيد طبقة النبلاء والشرائح العليا صاحبة القرار، إذ كانت «صفقات» الزواج تتم بين الأهل على أساس حسابات دبلوماسية وسياسية إستراتيجية وغالبا في سن مبكرة بالنسبة للفتيات. بهذا المعنى أيضا كانت سلطة الملكات محدودة بإطاعة ما تفرضه التقاليد وزوجها الملك والوزراء أيضا. وإذا كانت للنساء سلطة في حالة وفاة الملك ولا يزال ابنه، وريثه الشرعي، طفلا قاصرا فإن الأم كانت تحظى ببعض السلطة وإنما باسم «ابنها» وليس باسمها الخاص.
أما «المحظيات» فقد كن يتمتعن ببعض السلطة من خلال قدرتهن على الاستمرار في «جذب الملك» و«الاحتفاظ به»، تحت نظر «بلاط» زاخر عادة بالدسائس. ثم إن المنافسة كانت كبيرة عادة للفوز بمثل تلك «المكانة» لكن كان هناك دائما خطر «الطرد»، وأيضا خطر «الثأر» إذا توفي الملك، من قبل الملكة الشرعية.
مع ذلك أعطى لويس الرابع عشر لبعض «محظياته»، مثل «مدام دو منتبان» و«مدام دو مينتونون»، هامشا كبيرا من الحرية في خياراتهن «الاجتماعية» و«الجمالية»، ولكنه منعهن منعا باتا من الانخراط في السياسة. فقط استخدمهن أحيانا من أجل «تمرير» بعض الرسائل التي لا يستطيع تمريرها رسميا. وتشير المؤلفة مثلا أنه استخدم «مدام دو مينتونون» من أجل الإعلان عن «إلغاء ميثاق نانت»، أي إلغاء «ميثاق» المصالحة بين الكاثوليك والبروتستانت الذين تجابهوا في حرب «طائفية» استغرقت أكثر من عقدين.
وتتعرض المؤلفة في العديد من الصفحات للعلاقة بين «الملكة» و«المحظية» حيث كان مطلوب من الأولى أن تحافظ على مرتبتها وهدوئها «مهما كانت عواطفها». هذا ما عاشته كاترين دو ميدتشي زوجة الملك هنري الثاني، كما عاشتها «ماري تيريز النمساوية» زوجة لويس الرابع عشر. أما «المحظية» فكان عليها المحافظة على «احترام الملكة» باعتباره من «احترام الملك». باختصار تؤكد المؤلفة أن «الاثنتين»، الملكة والمحظية، عاشتا آنذاك وضعا ليس مقبولا اليوم. المحظية كان يتم تقديمها رسميا للملك وللملكة وللبلاط، وكانت «الاثنتان» تحضران أحيانا جنبا إلى جنب في الاحتفالات.
ومن بين المحظيات اللواتي كن الأكثر نفوذا يتم ذكر «ديانا» محظية هنري الثاني التي كانت تكبره بعشرين عاما وكانت تمارس عليه سلطة مطلقة. و«مدام دو بومبادور» التي كان يثق بها لويس الخامس عشر ثقة مطلقة. أما أهم الملكات فتحددها المؤلفة بـ «كاترين دو ميدتشي» التي كانت تتمتع بعبقرية والتي حددت هدفها بحماية أطفالها والمحافظة على وحدة البلاد وعدم المساس بالسلطة الملكية. كما تؤكد أنها فعلت بكل ما تملك من إمكانيات وطاقة للمحافظة على «السلام المدني» ولكن بعيدا عن أي تزمت. وهنا تتم مقارنتها مع «إليزابيث الأولى ملكة بريطانيا».
*الكتاب:ملكات ومحظيات سلطة النساء
*الناشر:غاليمار- باريس 2007
*الصفحات: 397 صفحة من القطع المتوسط
Reines et favorites
le pouvoir des femmes
Beneditta Craveri
Gallimard - Paris 2007
p. 397

