يواظب الباحث عمّار السنجري في كتابه الجديد «شعراء ورواة من الإمارات» الحفر في التاريخ الشفاهي لمجتمع دولة الإمارات العربية المتحدة في مرحلة ما قبل النفط وبدايات تكوّن الدولة، وكنا تعرّضنا لكتابه السابق «التاريخ الشفويّ» في ملحق (الكتب)،
وأكدّنا أهمية ما يفعله في هذا الحقل البكر من حيث إضاءة ما يمكن إضاءته، وضمّه إلى حقل التاريخ الاجتماعي كذاكرة مرجعيّة يعتدّ بها، سواء عبر لقاءاته مع من تبقّى من رواة، أو باعتماده على الشعر النبطي كمدوّنة للكثير من العلاقات التي كانت سائدة.
وبذلك فإن حفرياته هذه عبارة عن قراءة حديثة للوجدان الاجتماعي، والكشف عنه في لحظة (زمكانية) شديدة الخصوصية أغفلت عن صفحات التاريخ الرسمي المكتوب. ويؤكّد الباحث في مقدّمة كتابه أنه يعمل على هذا المشروع منذ سنوات التقى خلالها مجموعة كبيرة من الرجال الذين عاصروا سنوات الشظف والحرمان ومراحل التكوين الأولى بكلّ قسوتها ومرارتها،
ذلك التكوين الذي بدأ على يديّ المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وبكلّ ما عرف عنه من حكمة ونظرة مستقبلية تجاوزت معطيات ذلك الزمن المتواضعة، وبالتالي فإن لقاءاته هذه تأتي بمثابة شهادات حية لشعراء ورواة مخضرمين عاشوا هذه المرحلة وعبّروا شفاهاً عمّا كان يحدث بالأمس من أحداث من خلال القصيدة التي يشبهها بـ «الصورة الناطقة»
أو بلقطة الفيديو الكاشفة لكثير من التفاصيل التي قد لا تخطر على البال، ولكن الباحث سوف يتقصّى علاقاتها وتشابكاتها ليضمّها إلى سياقها التاريخي، سيما وأن تاريخ دولة الإمارات يرتبط بشكل أساسي بتاريخ الأسر الحاكمة التي أدّت دوراً مهماً في صناعة أحداث المنطقة وقد توّجت بالاتحاد في دولة واحدة.
وفي صدد عملية الكشف يؤكّد الكاتب أن رصد وتقصّي محمولات البداوة، تحتاج إلى باحثين في الأنثروبولوجيا، نظراً لتعرّض المجتمعات القبلية لكثير من المتغيّرات، التي رافقت انضوائهم لدول وحكومات لها أنظمتها وقوانينها، التي قد تختلف عما كان ينظّم حياة البدو في السابق من قيم وأعراف وتقاليد،
هذا بالإضافة إلى ما أصاب هذه البلدان من متغيّرات اقتصادية عصفت بنظم العمل القديمة التي كانت تعتمد بشكل أساسي على مصادر الطبيعة، بينما اقتصاد اليوم بات يعتمد على المشروعات الصناعية الحديثة في المجالات المختلفة، مما أدخلت معها نظماً جديدة في تقسيم العمل، وأسساً جديدة لتراكم الثروة وترتيب الفئات الاجتماعية، ومظاهر السلطة والقيادة.
ومن هنا، وبتعبيره، تأتي أهمية دراسة تلك المجتمعات التقليدية التي أخذت تنفتح على العالم الخارجي، وتقع بالتالي تحت وطأة الثقافة الغربية وثقافة العولمة التي ينقلها إعلام اليوم بوسائله المختلفة،
وبما يفرضه من نظم وطرق جديدة في العمل والتفكير والسلوك، تتناقض على هذا النحو أو ذاك مع النظم المستقرة في تلك المجتمعات، فتؤدّي إلى تدمير وحدتها، وتحوّلها إلى مجتمعات جديدة (معولمة) ذات نظم ومعايير مغايرة تماماً لنظمها ومعاييرها التقليدية.
يبدأ الباحث لقاءاته مع الشاعر عبيد بن معضد بن عبيد النعيمي في منزله بمنطقة الوجن عام 2001، حيث يروي له جانباً من معاناة قبيلته التي كانت تقطن قرب جبل حفيت: كانت أيام ضنك والموارد شحيحة والأمان قليل،
ويذكر أن الطريق إلى أبوظبي كانت تستغرق نحو 14 يوماً في الذهاب والإياب، يحمل المسافرون معهم مجني التمر من بساتين النخيل في حفيت الغربي وهيلي والعين والجيمي والقطارة ليتم بيعها هناك حسب اتفاقات مسبقة.
أما الشاعر محمد بن عبيد بن نعمان الكعبي، فهو بتعريف الباحث، شاعر مفوّه من قبيلة بني كعب العربية المعروفة، وهو من الشعراء القلائل الذين ينظمون قصائدهم بالفصحى والعامية، وهو في لقائه مع الباحث سيضيء جانباً مهماً عن التعليم في المدارس عام 1945 وعن رحلته لاستكمال تعليمه في السعودية وقطر،
ومما يذكره في روايته، أنه في العام 1959، اتّجه لمقابلة المغفور له الشيخ زايد في أبوظبي: اتّجهت إلى أبوظبي، وكان معي محمد بن نصّار قاصدين مقابلة الشيخ زايد، فقد كانت لنا معرفة بسموّه من أيام العين، فقال لي سموّه: ابق معنا هنا في أبوظبي. وبتنا في الحجرة الشرقية في قصر الحصن.
أما بالنسبة للشاعر راشد بن محمد بالعبدة الشامسي المعروف بالحزيمي، فهو شاعر البديهة السريعة والأمكنة، وقد أجرى اللقاء معه بمنطقة الفقع في مدينة العين في 2002، ومما يذكره الشاعر أنه سافر مشياً على الأقدام من قطر إلى الدمّام مع ثمانية رجال
قاصدين الأمير سعود بن عبد الله بن جلويّ أمير المنطقة الشرقية في ذلك الوقت، طلباً للعمل، وعملا في السميت والطابوق لمدة ست سنوات، ثمّ عاد إلى دبي وعمل بذات المهنة، ويعكس شعره جانباً من حياة العمل والحياة البدوية اليومية وجانباً من حكمته في الحياة.
ويروي بلال بن خميس بن مبارك الدرمكي، كثيراً من الحكايات عن حياته في البحر، وعن لقائه المغفور له الشيخ زايد في مسقط وعمله معه،ثمّ مع صاحب السموّ الشيخ خليفة بن زايد، ومن الأحاديث الطريفة المعبّرة يذكر الراوي سنة الجراد التي مرّت على العين، وكيف قام هو وبعض من أهلها بملء جواني عديدة منه، لكي يضيفوه إلى الطعام بعد أن تتمّ معالجته.
وخلال لقائه الشاعر أحمد بن محمد بن دري الفلاحي، يذكر المؤلّف أنه من الشخصيات البدوية التي تعلّم الآخرين «فن إتكيت الصحراء، بقيمها ونبلها ودلالاتها ومحمولاتها، وفن احترام الآخر، ولا غرابة في ذلك لأنه ببساطة خريج مدرسة المغفور له بإذن الله الشيخ زايد حكيم العرب، والذي جسّد قيم البداوة والصحراء بأرقى معانيها وتصوّراتها».
وقد ولد الشاعر في منطقة القطارة بالعين في الثلاثينات، وعاش متنقّلاً بين العين ودبيّ وعُمان والسعودية وقطر، وعاصر العديد من الشخصيات الكبيرة والشعراء الكبار. أما الشاعر عيد بن سعيد الغفلي، فهو يحفظ تغريبة بني هلال بلهجتها الأصلية النبطية، بالإضافة إلى درايته الواسعة بالأمكنة وتحرّكات البدو وهجرات القبائل،
ومما يرويه عن نبوغه في الشعر أنه حلم ذات ليلة بأنه يلفّ وزاره على وسطه، وبينما هو كذلك، إذ يبصر كمية كبيرة من الليرات الذهبية على جانبيه، وبعد قليل سيبشّره المطوّع بأنه سوف يصبح شاعراً، وهذا المال الذي ضمّه إلى جنبيه هو الشعر، ثمّ يقول: «الغريب أني لم يسبق لي قبل هذه الحادثة أن قلت شعراً أو نظمت قصيداً، وبعد هذه الحادثة جاءني الشعر كنهر يتدفّق».
وإلى جانب ما حكاه عن تجربته الحياتية، سيروي الكثير من الحكايات عن بني هلال، وعن قبيلته شمّر، ومن المهمّ في هذا الصدد، ذكر روايته لقصيدة الشاعرة «بنت ابن ظاهر» الشاعر المعروف، حيث اشتكت امتداد العمر بها ولم تلق عريساً بعد.
ومما يذكره المؤلف اعتماداً على كتاب «الماجدي بن ظاهر» أن التاريخ لم يذكر عقباً لابن ظاهر عداً بنتاً واحدة لم يعرف لها اسماً، سوى أنها بنت ابن ظاهر كما أعربت هي في قصيدتها الوحيدة، وتعتبر هذه القصيدة من غرر القصائد لاشتمالها على حكم وأمثال ومخاطبة وأسلوب لا يقلّ عن مستوى ما تحتويه أشعار أبيها، وهذه القصيدة تضع قارئها أمام شاعرة متمكّنة من نظم الشعر بجدارة.
أما الشاعر عبيد بن محمد النيادي الذي جاوز المئة من العمر، وعاش والده كما يروي نحو 135 عاماً، وكان جدّه معاصراً ومرافقاً لزايد الأول، فقد أكّد أنه عاش حياته في العين مع أهله وبني عمّه في النيادات، وقد حفظ القرآن الكريم في بواكير حياته، وقد ذكّر أنه يحفظ أشهر قصيدتين قيلتا في زايد الأول للشاعر علي بن سعيد بن الضبع الجنيبي.
وعلى هذا النحو من التأريخ الدقيق يمضي الباحث في متابعة كلّ من الشعراء: عيد بن نايع بن نايع المنصوري، مبخوت بن علي بن ضبعان، سيف بالحايمة الظاهري، مهير بن سعيد بن ساري الكتبي، الراوي العوضي المنهالي،
وسعيد بن صالح النعيمي، لنكتشف مزيداً من الحكايات المرتبطة بحياة أبناء البر والبحر الثقافية والاقتصادية والاجتماعية بطبيعة الحال، وعلاقة أبناء المجتمع بما يجري في العالم من أحداث، هذا بالإضافة إلى العديد من القصائد الشعرية المأخوذة من شعرائها مباشرة، أو من شفاه رواة ثقات.
عزت عمر
*الكتاب:شعراء ورواة من الإمارات
*الناشر: مركز زايد للتراث والتاريخ العين 2006
*الصفحات:208 صفحات من القطع المتوسّط
