يستعرض الباحث السوري مروان بركات في كتابه «جبل ليلون» في مرآة التاريخ منطقة جبل ليلون (شيراوا) باعتبارها شهدت حضارات ومعتقدات وأديان عديدة من وثنية ويزيدية ومسيحية وإسلام مر بها سكان المنطقة. مروان بركات هو باحث في الأركولوجيا، وهو أستاذ مادة التاريخ في ثانويات حلب، من أعماله «همسات مملكة البراءة» ـ قصص، و«قصائد من ذاكرة القلب» شعر.
تطرق الباحث إلى معنى تسمية ليلون الذي ورد اسمه في الكثير من المصادر التاريخية القديمة بتسميات مختلفة، ومن أهم وأبرز هذه المصادر الكتاب المقدس (التوراة) ورد ذكره تحت اسم (جبل نابو) وذلك نسبة للإله الرافدي الذي اشتهر خلال القرن التاسع قبل الميلاد في منطقة بلاد ما بين النهرين ـ موطن الإمبراطوريات الكردية القديمة ـ ونابو هو إله الكتابة والحكمة.
ويرى المؤلف بأن أصل التسمية كردية من الناحية اللغوية، فكلمة ليلون تطلق على ثمرة الزيتون قبل نضوجها حينما تكون فجة، وبهذا تكون التسمية «جبل الزيتون «كما أن هناك تسمية ثالثة لجبل ليلون «شيراوا» وهي تسمية كردية أطلقت نسبة إلى عشيرة شيروان خلال القرن الثامن عشر الميلادي. أما جبل ليلون في وقتنا الحالي يعرف باسم جبل سمعان، نسبة إلى الناسك سمعان العمودي.
واستعرض بركات البنية الجيولوجية لجبل ليلون والتي اقتصرت على المعلومات النظرية بالإضافة إلى بعض الجولات الحقلية المبسطة، والتي شملت الستراتيغرافيا، البتروغرافيا، الجيولوجيا التاريخية والتكتونية، التعرية، النشاط الجيولوجي للمياه الجارية، والانهيارات والانزلاقات،
النشاط البركاني، مكامن المواد المفيدة، إذ ترتبط منطقة جبل ليلون جيولوجياً بنهوض أصاب صخور القاعدة وبفوالق حددت هذا النهوض متزامناً مع الفوالق الرئيسية المشكلة في الأجزاء الطرفية من الصفيحة العربية ومع تشكل معظم السلاسل الجبلية في العالم، أي خلال الحركة الألبية التي ميزت دور الباليوجين.
وتطرق المؤلف إلى الجغرافيا الطبيعية للجبل الذي يعتبر جزءا من جبال الكرد، ويقع جنوب شرقي مدينة عفرين، وشمال غربي مدينة حلب مساحته التقريبية 1200 كم، تتميز تضاريسه بقلة الارتفاع 500 م فوق سطح البحر، تتخللها أودية جافة، تتميز تربته باللون الأحمر وبقلة سماكتها وهي على شكل جزر ضيقة في المنخفضات وأقدام الجبال والأودية.
وأشار الباحث إلى المناخ المسيطر في ليلون بأنه متوسطي شبه رطب في الغرب ويتحول شرقاً إلى شبه جاف، والحرارة منخفضة شتاء مرتفعة صيفاً. أما عن المياه كونها عامل أساسي لاستمرار الحياة فيعتمد سكان جبل ليلون على مياه الأمطار للزراعة والشرب معا، ومع وصول الكهرباء للمنطقة تم حفر الآبار إلى حين تم تمديد شبكات المياه.
كما استعرض بركات الغطاء النباتي الذي يميز ليلون، بحيث اشتهر بأشجار الزيتون واللوز والسرو والصنوبر، وأهم الأزهار هي الأقاحي،الزنابق، القرنفل، النرجس، الأرجوان، شقائق النعمان. وعن الحيوانات البرية في المنطقة ذهب الكاتب إلى أن أثرها يتمثل في الطيور، والزواحف، والسلاحف، والضباع.
ومن جهة أخرى سلط المؤلف الضوء على العصور التاريخية ـ التي سبقت الكتابة ـ في جبل ليلون، وصنفها إلى عصر البلايستوسين، العصر الحجري القديم، العصر الحجري المتوسط، العصر الحجري الحديث، عصر البرونز والنحاس، عصر الحديد.
وفي نفس السياق أشار الباحث إلى وجود أدلة تاريخية تثبت وجود الإنسان في منطقة ليلون الذي يعود إلى العصور الحجرية الوسطى، حيث تم العثور على هياكل عظمية عديدة من بينها هيكل عظمي لطفل يعود إلى انسان نياندرتال والذي يعود تاريخه إلى مئة ألف سنة خلت في كهف «دودرييه» الواقع في جبل ليلون (عفرين).
ولقد تم تقدير عمر الطفل بحوالي سنتين، وقد دفن بطريقة منهجية، يبلغ طوله 80سم، ولدى مقارنة عظامه مع عظام طفل حديث وجدت فروقات كثيرة مثل ضخامة الرأس والأذرع الطويلة وبروز الذقن الطفيف والهيكل العظمي المنحني.
وانتقل الكاتب في دراسته إلى العصور التي سبقت الميلاد والعصور الميلادية في جبل شيراوا (ليلون)، حيث كان الشمال والشمال الغربي من سوريا يخضع للعديد من الإمبراطوريات التي أقيمت فيها الكثير من الممالك التي مازالت بعض آثارها تعبر عن حضارتها، وأهمها الهورية (حورية)، الميتانية، الحثية، المصرية (فراعنة)، الآشورية، والأورارانية، الميدية، الإخمينية، اليونانية، السلوقية، الرومانية، والبيزنطية.
أما أهم الممالك التي أقيمت في هذه المنطقة: مملكة حلب، مملكة ألالاخ، مملكة كرميش (جرابس). واستعرض بركات جبل ليلون بعد الإسلام، حيث دخلت الجيوش الإسلامية في سنة 16 هجري مدينة حلب بقيادة أبوعبيدة بن الجراح ومع حلول عام 1105م دخل الصليبيون منطقة إنطاكية في حملتهم الأولى،و خلال فترة 1120م كان جبل ليلون ومنطقة جبل الكرد تحت الحكم الصليبي.
وهكذا كانت منطقة شيراوا تتبع لمدينة أنطاكية في بداية الفترة الرومانية حتى انتقل حكم شمال سوريا إلى الأيوبيين وإنشاء إمارة كلس وذلك عام 1175م، حين فتح صلاح الدين الأيوبي الحدود الشرقية لجبل ليلون. وطيلة الفترة العثمانية كانت منطقة جبل ليلون تتبع إداريا لإمارة كلس، إلى أن أصبح جبل ليلون يتبع لعفرين حتى اليوم.
وفي كانون الأول 1918م دخلت القوات الانجليزية مدينة حلب، وفي عام 1919 م تسلمت القوات الفرنسية ولاية حلب، وبهذا أصبحت سوريا تحت الاحتلال الفرنسي ولاقت هذه القوات مقاومة شرسة من قبل المقاومة الوطنية في جبل الكرد.
ومن جهة أخرى ينقلنا المؤلف إلى الحياة الدينية في ليلون، فمن خلال الرقم التي تم العثور عليها خلال التنقيبات في المواقع الأثرية، يشاهد تأثير الدين واضحا في كل نواحي النشاط الإنساني. وكانت تعبد الشمس (إله الشمس) في الدرجة الأولى عند الإنسان البدائي وذلك اعتقادا منه بأن ما دامت الشمس تهب النور والدفء فهي تهب الحياة إذن فهي أساس الكون فاتخذت إلهاً عظيما.
ويظهر ذلك في آثار منطقة جبل شيراوا، يلاحظ الكثير من الأبنية والمعابد القديمة نقش على نجفاتها أقراص الشمس وتراتيل على جدران الكهوف. وفي السياق نفسه أشار بركات إلى «الإلهة عشتروت» (عشتار) إلهة الحب والحرب سيدة أوروك ونينوى وأربيل والتي كانت تعبد بجانب إله الشمس وذلك أيام الإمبراطورية الحورية (الميتاهورية)، ورموزها نجمة الصباح ونجمة المساء وشكل الوردة، كما وجد لها اسم آخر في النصوص والرقم وهي «إنانا».
وتطرق المؤلف إلى عبادة الإله (نبو ـ نابو) وهو إله الكتابة والحكمة، وذلك حتى القرن السادس الميلادي بحيث كان يعرف جبل ليلون بجبل نابو وهو مذكور في الكتاب المقدس (التوراة)، ومعابد هذا الإله تدعى (ازيدا) ما يبرز ترافق عبادة الإله نابو مع الديانة الازداهية (اليزيدية) التي انتشرت فيما بعد في منطقة جبل الكرد في سوريا، وفي كردستان.
ويؤكد الباحث على أن سكان منطقة ليلون ظلوا معتنقين اليزيدية حتى أوائل القرن 19م، وخلال النصف الأخير منه أصبح كل سكان جبل ليلون يعتنقون الإسلام دينا باستثناء بعض القرى التي مازلت تعتنق اليزيدية. واستعرض بركات الحياة الاقتصادية في جبل شيراوا، حيث يقوم الاقتصاد على زراعة الحبوب والبقول وأشجار الزيتون والتين واللوز وأيضا تربية المواشي وبعض أنواع الدواجن.
ومن ناحية أخرى تطرق المؤلف إلى السياحة في جبل ليلون، لوجود الكثير من المعالم الأثرية المعروفة عالميا مثل كهف دودرييه، وكنيسة القديس سمعان العمودي في قلعة سمعان، وقبر المار (مارون) أبا الطائفة المارونية في براد، وقلعة كالوتة المعروفة، ومزار الشيخ بركات اليزيدي على قمة شيخ بركات.
وبالمحصلة يأتي الكتاب في إطار الكشف عن تاريخ جبل ليلون، كمعلم تاريخي مهم باعتباره شهد العديد من الحضارات الإنسانية التي يكتنفها بعض الغموض، وكونه كان مركزا لمعتقدات وأديان مختلفة في القرون التي سبقت الميلاد والتي تلته.
ناهد رضوان
*الكتاب:جبل ليلون.. في مرآة التاريخ
*تأليف:مروان بركات
*الناشر:دار عبد المنعم ناشرون - حلب 2006
*الصفحات:240 صفحة من القطع الصغير

