روايات خالدة

ثلاثة رجال في قارب

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

«من خلال أخطائنا وفشلنا وليس من مفهوم القيم، يتمكن كل منا من التعاطف مع الآخر والحصول على العزاء» ذلك ما ذكره الأديب الروائي البريطاني جيروم كلابكا جيروم في أحد مقالاته الساخرة التي نشرها في كتاب بعنوان «أفكار مثالية لشخص مثالي» عام 1886 وذلك قبل أن يصبح كاتبا مشهورا.

ولد جيروم في 2 مايو 1859 في ستادفورشاير في قلب بريطانيا، وعاش يتيم الأبوين منذ كان في الرابعة عشرة من عمره وانتقل بين العديد من الأعمال والمهن ومن ضمنها الصحافة والتدريس، مع خيبته الدائمة بسبب رفض الصحف نشر العديد من قصصه.

ثم قاده عمله في المسرح وخبرته في التمثيل لكتابة رواية «على الخشبة وخارجها» عام 1885 ومسرحية «باربرا» وحقق نجاحا لا بأس به. وفي يونيو 1888 تزوج من جورجينا إليزابيث واستمر في كتاباته الساخرة التي توجها عام 1889 في روايته «ثلاثة رجال في قارب» حيث استلهم القصة من شهر عسله ورحلته مع صديقيه في الحياة الواقعية.

ومع النجاح الفوري للرواية رسخ جيروم مكانته كأديب ساخر في الأوساط الأدبية وقرر التفرغ للكتابة. وفي عام 1893 أسس مطبوعة تصدر كل أسبوعين تعتمد على الأدب الساخر الهادف والرسوم الكاريكاتورية. وخلال رحلته إلى ألمانيا عام 1898 استلهم موضوع روايته التالية «ثلاثة رجال في باجيل» وتتناول ذات الشخصيات خلال جولتهم على الدراجات في الغابة السوداء ونشرها عام 1900،

وإن لم تحقق نجاحا يذكر مقارنة بالعمل الأول ويرجع النقاد ذلك لافتقارها إلى الجانب التاريخي الذي أغنى العمل السابق. وفي عام 1902 نشر سيرته الذاتية في كتاب بعنوان «بول كيلفر».عاد جيروم إلى عالم الشهرة مجددا عام 1908 بعد نشر مسرحيته «المرور بالعودة إلى الطابق الثالث»،

وإن كان بعد مرحلة زمنية اعتاد الناس خلالها على أسلوبه الساخر. والجدير بالذكر أن جيروم الذي توفي في 14 يونيو 1929 في مستشفى حكومي بعد إصابته بعدد من الذبحات الصدرية، كان يتسم بشخصية حزينة بعيدة كليا عن كتاباته المرحة الساخرة.

وروايته «ثلاثة رجال في قارب» التي تعد من روائع الأدب العالمي الساخر، ما زالت منذ مئة عام وحتى يومنا هذا مطلوبة من القراء، ويرجع النقاد أسباب استمرار نجاح العمل إلى عدم التزام الكاتب بمدة زمنية محددة إلى جانب ربط الأحداث بالتاريخ المحلي للمناطق المجاورة لنهر التايمز.

كما حولت الرواية إلى أعمال سينمائية وتلفزيونية إلى جانب تقديمها على المسرح وفي الإذاعة. ومن الصعوبة بمكان تلخيص أحداث الكتاب وذلك لعدم اعتماد جيروم على الحبكة في السرد، وما يميزه يعتمد على المواقف الطريفة المتتالية.

يبدأ العمل بتقديم الشخصيات الأربع، وهم كل من جيه الراوي وجورج وهاريس والكلب مونتمورتسي. ويصف الراوي معاناة الرجال الثلاثة الذين يواجهون أزمة منتصف العمر والهواجس التي تهيمن عليهم بشأن الأمراض التي يعانون منها حتى باتت محلا للمنافسة فيما بينهم اعتمادا على من يملك رصيدا أكبر منها.

يجمع الثلاثة في إحدى جلساتهم وبرفقة الكلب جيه، بأنهم في حالة مزرية على الصعيد المعنوي والصحي وبحاجة إلى إجازة بعد حياتهم العملية الشاقة والطويلة. وهكذا يتفقون على القيام برحلة على متن قارب في نهر التايمز.

تبدأ المجموعة بالتخطيط وإعداد قائمة بالمعدات التي لايمكنهم الاستغناء عنها في رحلتهم. وبعد متابعة لأخبار الأرصاد الجوية التي تتنافى مع الواقع يتفقون على موعد المغادرة، ومن هنا تبدأ المفارقات فبعد قضاء ليلة في العراء تحت الأمطار وفشلهم في نصب الخيمة يلغون فكرة التخييم من البرنامج.

ويتناول جيروم خلال سرده للرحلة، ثلاثة محاور متوازية مرتبطة بكل موقع جديد تتوقف فيه المجموعة مثل كينغستون وهامبتون كورتس وكيمتون بارك وغيرها. وفي كل موقع يجمع السرد ما بين الصعوبات التي يواجهها الثلاثة مما يدفع أحدهم إما إلى قص طرفة تحمل الحكمة والمغزى أو السخرية من نفسه أو الآخرين إلى جانب سرد الأحداث التاريخية في المنطقة وبصورة غير مباشرة.

وتتضمن تلك القصص التي يرويها أحدهم نقدا، إما لصفات بعض الشخصيات أو للمجتمع الارستقراطي وغير ذلك. ومثال على نقد الشخصيات، قصة العم روجر الذي يعتبر نفسه الركن الأساسي لتوازن حياة المحيطين به، وبالتالي عجزه عن القيام بأي عمل بسيط بمفرده مثل تعليق لوحة صغيرة على جدار حيث يجند كل أفراد العائلة والخدم لتنفيذ تلك المهمة.

أما فيما يتعلق بنقد المجتمع فيتناول الطبقة البرجوازية المتعالية، من خلال قصة جيه الذي كان في حفل راق لدى أحد النبلاء. وخلال الحفل وحينما بدء العزف والغناء، ذكر طالبان شابان من الحضور بأنه من ضمن المدعوين إلى الحفل بروفيسور ألماني يجيد غناء أغنية ألمانية كوميدية جعلت امبراطور ألمانيا يغمى عليه من الضحك،

كما بينا بأن كلمات الأغنية تحمل مفارقات ساخرة في المعاني تدفع المستعمين إلى الضحك، ومما يرسخ ذلك هو جدية البروفيسور التامة في الغناء لكأنه يؤدي أغنية تراجيدية. ويتم دعوة البروفيسور من الصالة الأخرى، وما إن يبدأ الغناء حتى يدعي جميع الحضور فهمهم للغة الألمانية وبالتالي محاكاة الشابين كلما ضحكا.

وفي النهاية يتوقف البروفيسور عن الغناء حانقا ليختفي الشابان مباشرة، وبلهجة تأنيب يقول للحضور ان الشعب الانجليزي أكثر شعب متبلد الأحاسيس فهذه الأغنية التراجيدية التي تحكي قصة معاناة وموت الحبيب والحبيبة ولقاء أرواحهما في العالم الآخر قد أبكت امبراطور ألمانيا حتى أغمي عليه في حين أنهم يضحكون ساخرين. وبالطبع انسحب الحضور بمن فيهم جيه المدعي صامتين يتحاشى أحدهما الآخر.

وبعد انتقال المجموعة من بلدة إلى أخرى مع معاناة مستمرة على كل الأصعدة يصلون أخيرا إلى أوكسفورد حيث تسوء حالة الجو مما يدفعهم إلى إنهاء رحلتهم والعودة بالقطار قبل يومين من الموعد المحدد وهم في غاية السعادة لعودتهم إلى اليابسة بعيدا عن قاربهم ونهر التايمز.

Email