مؤلّف الكتاب هو المفكّر الياباني «إينازو نيتوبي» الذي ولد في العام 1862 وتوفي عام 1933، وهي المرحلة الأخطر في تاريخ العالم من حيث انطلاق زمن الحداثة الغربي نحو العالم، والشرق تحديداً، ساعياً إلى تقويض أنظمته الإقطاعية القديمة، وإحلال نظام العولمة الاقتصادية الجديد بمعناه الرأسمالي، سواء أكان عن طريق الاقتصادات الجديدة أو عن طريق الاستعمار والحروب، لإزاحة العوائق كافة أمام الآلة الغربية المندفعة أماماً لتحقيق ما تصبو إليه من فائض في الدخل، وفائض في القوّة لأجل سيطرة مديدة على العالم.

وكان لابدّ لهذه الآلة المندفعة أن تهزّ المجتمعات الإمبراطورية القديمة هزّاً عنيفاً، لينطرح السؤال النهضوي الكبير عن أسباب تقدّم الغرب، وكيفية اللحاق به؟ وهل بإمكان هذه الأمم اللحاق به وهي مازالت ترزح تحت وطأة تقاليد وقيم الإقطاع الناهضة على قيم النبالة والفروسية بكلّ رومانسيتها المعتمدة على جملة من الفضائل الجماعية لحماية الذات، ولكن على طريقة «دونكيشوت» الذي آثر استعادة زمن آفل بدرع صدئة وسيف مثلوم!؟

هذا الكتاب إذن، هو بمثابة إحساس مبكّر بزوال زمن قديم، ورغبة قوية من مؤلّفه بتجاوز هذا الزمن عبر إقامة جسر جديد يغذي المجتمع الإمبراطوري الياباني بالدماء الجديدة مع المحافظة على فضائله المستمدة من البوشيدو، سيما وأن المؤلّف أمضى ردحاً من حياته جوّالاً في الولايات المتحدة الأميركية،

وفي ألمانيا وحصل خلالها على درجة دكتوراه الفلسفة الأولى من بين الدرجات الخمس التي حملها، كما يشير المترجم، مما أهّله لأن يتبوأ مناصب عدة منها ما هو أكاديمي بحت وآخر دبلوماسي حيث مثّل بلاده في مؤتمر السلام الذي عقد في فرساي، ثمّ بقي في جنيف ممثلاً لبلاده لدى عصبة الأمم، ثمّ مساعداً لأمينها العام في 1926.

البوشيدو، كما يوضّحها المؤلّف، تتألّف من ثلاثة مقاطع: بو ـ شي ـ دو، وترجمتها: «طرائق الفارس المحارب»، التي يتعيّن على النبلاء المحاربين الالتزام بها في حياتهم اليومية وكذلك في غمار اضطلاعهم بواجبات مهنتهم، بمعنى آخر هي قانون أخلاقي ملزم لطبقة المحاربين، وهي بهذا المعنى بمثابة العرف الملزم القائم على قيم الشرف والفروسية والنبالة،

حيث تأخذ هذه القيم المتفّق عليها طابعاً قدسياً لا يجوز اختراقه بأية حال من الأحوال، لأنه يستمد تعاليمه من الدين والفلسفة والحكمة، ومن جملة الخصائص القومية الفائقة الخصوصية، فتغدو هذه التعاليم بمثابة القانون المتّفق عليه من قبل الجميع، ولكنه في الوقت نفسه قانون غير مكتوب، صاغته أجيال متعاقبة فلا يستطيع أحد تتبّع زمان ومكان بداياته الأولى،

وبالرغم من ارتباطه المتين بالزمن الإقطاعي، إلاّ أن النظام الإقطاعي ذاته على حدّ تعبير المؤلّف، منسوج من خيوط عدّة، مما يعني أن البوشيدو مزيج متداخل من القيم التي مثّلتها هذه الطبقة المرفّهة من المحاربين ذوي الملامح الخشنة الذين اتّخذوا من القتال مهنة لهم، بما يشبه «الإحساس البدائيّ للوحشية الطفولية» بحسب تعبيره، ولكنها في الوقت نفسه تتأطّر بجملة من الضوابط الأخلاقية الصارمة.

وفي فصل خاص سوف يتتبّع المؤلّف مصادر هذه القيم، فيتتبع آثار كلّ من التعاليم البوذية والزن والشنتو، معتبراً أنها من أهم المصادر التي ألهبت الغريزة الوطنية والأحاسيس القومية، وغرست في صميم البوشيدو قيم الولاء للحاكم وحبّ الوطن.

وإلى ذلك فإنه سيتوقّف مطوّلاً عند تعاليم كونفوشيوس كمصدر أكثر خصباً بالنسبة إلى البوشيدو، ثمّ تأتي بعدها تعاليم «منشيوس» التي أثّرت بدورها تأثيراً هائلاً، لتشكّل مع تعاليم كونفوشيوس المرجع الأساسي للشباب، والحجّة الأرفع والأسمى في مناقشات الكبار.

يتألّف الكتاب من سبعة عشر فصلاً صغيراً، تتبّع المؤلّف خلالها وبالتفصيل كلّ فضيلة من هذه الفضائل التي تشكّل الأساس لقيم سلوك المحاربين والمجتمع، كالاستقامة والعدل والشجاعة وروح الجسارة والتحمّل والرحمة والاستقامة كفضيلتين مرتبطتين بالرجولة، والبسالة والشجاعة كيف تكونان صائبتين وكيف تكونان متهورتين، ولن يتحقق ذلك إلاّ بالتربية والتدريب،

حيث يميّز المقاتل ما بين الفضائل والرذائل من خلال جملة من الفضائل التي تساعده على ذلك، ومنها قيم الحبّ والشهامة والإحساس بالآخرين والتعاطف والرحمة اللتين تعتبر برأيه من أرقى الفضائل وأرفع سمات الروح الإنسانية، وأنه لولا هذه القيم الرفيعة لتردّى النظام الإقطاعي الياباني إلى نظام عسكريّ لا إنسانيّ.

فالرحمة بتعبيره، فضيلة رقيقة أقرب إلى عاطفة الأمومة، على العكس من فضيلتي الاستقامة والعدالة الذكوريتين؛ نظراً لأن الرحمة تتمتّع بالرهافة والمقدرة على الإقناع المرتبطين بالضرورة بالطبيعة الأنثوية، ولكن لكلّ حدّه الذي لا ينبغي تجاوزه، وبذلك فإن الرجال الأكثر شجاعة هم الأكثر رقّة، ومن يسكن الحبّ قلوبهم تشتدّ جسارتهم.

أما عن اللطف والتهذيب، فيشير المؤلّف إلى أن كلّ سائح أجنبي سوف يلاحظ أسلوب الشعب الياباني في المجاملة والسلوك المهذّب، وسوف يؤكّد مراراً بأن هاتين الفضيلتين ليستا نابعتين من الجبن والخوف، وإنما من الاحترام والتقدير لذات الإنسان ولعواطفه ومشاعره، وإلى ذلك فإنهما نابعتان بدورهما من الحبّ وجملة من الفضائل الإضافية التي ترتبط على نحو شديد بنظام اللياقة وآداب السلوك، حيث يدرّب الشباب على السلوك القويم كالانحناء والمبادرة في الكلام وكيفية السير والجلوس وآداب المائدة.

والمفارقة هنا أن المؤلّف المعجب أشد العجب بهذا النمط من القيم والفضائل، يعي حجم الانتقادات الأوروبية لآداب السلوك اليابانية، فيستعرض بعضها ليناقشها فيما بعد، ومن ذلك انتقاد الأوروبيين لأوضاع النساء اليابانيات، وللمبالغة في تطبيق هذه الآداب، حيث إنهم لا يستطيعون فهم كلّ هذا الإصرار على تطبيق هذه القواعد التي تأخذ من الوقت والجهد يفوق ما ينبغي،

مما يضطره للدفاع عن هذه الآداب التي بالرغم من بعض سلبياتها بتعبيره، إلاّ أنها لا تبلغ حماقة صرعات الأزياء الغربية التي لا تفتأ تتغيّر على شكل تجليات مجنونة للغرور الفارغ. أما عن المرأة في البوشيدو، فهي في الغالب خاضعة للنظام نفسه من حيث التدريب على الممارسات القتالية لتحمي نفسها وتدرّب أبناءها، ولكنها في الوقت نفسه عليها أن تحقق إنجازات إضافية للوصول إلى جوانب الحياة الأكثر رقّة ورفاهية،

حيث لم تكن الموسيقا والرقص والأدب جوانب مهملة في حياة المرأة، وإنما هي جزء مهمّ من الحياة المنزلية والاجتماعية، إلى جانب التفاني في الولاء للزوج الذي يتفانى بدوره في خدمة سيّده، لكي يتمكّن الأخير من طاعة مشيئة السماء.

وبالتالي فإنه يرفض أن يكون موقفه أو موقف البوشيدو من المرأة يدفع باتجاه إقصائها إلى الظلّ، وسيبيّن ذلك من خلال مناقشته للدساتير الغربية وحقوق الإنسان والمرأة، الأمر الذي ستعكس مواقفه المدافعة عن نظام البوشيدو، مما يعكس التباين بين الثقافتين من جهة، وأزمة عدم فهمه للنظام الليبرالي الرأسمالي من جهة ثانية،

إذ إنه رغم ثقافته الغربية الرفيعة واعتماده كثيراً من الآراء لمفكرين وأدباء غربيين، سيبدو لنا أن المؤلّف في حيرة من أمره إزاء حضارة الاستهلاك، فهو معجب بالحضارة الغربية، على الأقل من ناحية الفكر والثقافة، ولكنه في الوقت نفسه رافض لقيم الاستهلاك فيها، وللنزعة الفردية الليبرالية وقيمها التي تتلخّص في عبارة «دعه يعمل دعه يمر»،

إذ إنه يواظب على تعزيز قيم الأسرة الأبوية والولاء للإمبراطور ضمن نظام الطاعة الإقطاعيّ ذاته، حيث يفلسف هذا النظام بما يشبه ترجمات عبد الله بن المقفع في كتبه «أدب الصغير والكبير في الأخلاق، واليتيمة في طاعة السلطان». ويمضي قدماً في اعتبار هذه القيم كالصخرة الركينة التي لا تستطيع أية قوة التأثير عليها، فالبوشيدو، بتعبيره، قوّة لا تقاوم، ولا ترقى للإحاطة بها الأذهان لأنه الروح المحرّكة لليابان والقوّة التي تدفعها قدماً، لأن قلب الشعب يستجيب لها من دون معرفة سبب هذه الاستجابة لأي نداء يخاطب إرثه.

إلاّ أنّ آداب السلوك تبقى آداباً، ولا يمكن لها برأينا أن تدفع الأمم نحو النهضة، هذا فضلاً عن كونها قد تكون أشبه بدخان يغطّي الأنظمة الشمولية، بتعبير كريس باتن في كتابه «شرق وغرب»، ولو قيّضت الحياة لإينازو نيتوبي إلى اليوم لأدرك بأم عينه أن فضائل البوشيدو قد قادت اليابان نحو الكارثة الماحقة بعدما تبنتها المؤسسة العسكرية،

ولأدرك أن ما كان يتخوّف منه من اكتساح الثقافة الليبرالية الغربية قد تمّ في اليابان، وما نهوض يابان اليوم إلاّ بفضل نظام اقتصادات السوق والحرية السياسية، وليس بفضل قيم الفروسية القروسطية التي عبّرت عنها رواية سرفانتس «دونكيشوت» خير تعبير.

في الختام، كثير من أفكار هذا الكتاب ما انفكّت تجد صدى لها في أوساط بعض النخب، وهي في العموم أفكار عتيقة، ولكنها تستمدّ مشروعيتها من الدعوة إلى النهضة عبر نظام قيميّ اجتماعيّ شبيه بنظام البوشيدو ذاته، وهي دعوة عربية رائجة اليوم في ظلّ ما نراه من انكسارات وتمزّقات في السياسة والاجتماع، ومن العداء الغامض للثقافة الليبرالية الغربية، الذي نرجو ألاّ يدوم طويلاً بدليل أن اليابانيين أنفسهم طووا هذه الصفحة منذ زمن، ومضوا في الانخراط في ثقافة العالم وفي اقتصاداته.

أخيراً، تأتي هذه الترجمة من قبل الأديب كامل يوسف حسين، بعد ترجمتين عربيتين للكتاب، أولاهما كانت لمختار كنعان في العام 1938، والثانية لنصر حامد أبو زيد عن دار سعاد الصباح عام 1993، وذلك بغرض تقديم ترجمة متكاملة ودقيقة ومستنيرة للكتاب، وخصوصاً في ظلّ تطوّر العلاقات العربية ـ اليابانية على الصعيد الثقافي، ورأينا أنها ترجمة دقيقة من مترجم وأديب يسعى منذ زمن لمدّ جسور التواصل بيننا وبين العالم، فيشكر على كلّ ذلك.

عزت عمر

*الكتاب: البوشيدو ـ روح اليابان

*ترجمة:كامل يوسف حسين

* الناشر: المجمّع الثقافي - أبوظبي 2006

*الصفحات: 244 صفحة من القطع المتوسّط