كتاب «التلويحات اللوحية والعرشية» لشيخ الإشراق «السهروري المقتول» هو من الكتب التي تجمع بين الحكمة العقلية والكشف الروحاني الصوفي. وقدم الكتاب وحرره كلّ من علي محمد اسبر ومحمد أمين أبوجوهر، وهما كاتبان سوريان، يهتمان بالكتابات الصوفية والفلسفية،
وسبق وأن كتبا وحررا عدداً من مؤلفات أعلام التصوف الإسلامي والفلسفة الإسلامية. وعند ذكر اسم السهروردي فإن لبساً كبيراً قد يحدث، نظراً لاشتهار ثلاثة من المتصوفين الأعلام بهذا الاسم وهم: عبدالقادر بن عبد الله بن محمد السهروردي «490 ـ 785 هجري» صاحب كتاب «آداب المريدين»، وقد ولد الرجل بسهرورد بفارس ومات ببغداد.
وشهاب الدين يحيى بن حبش بن أميرك السهروردي «549 - 785 هجري» الذي عُرف بعد قتله بالسهروري المقتول. وكذلك شهاب الدين عمر بن محمد بن عبدالله بن عمويه السهروردي «539 - 236 هجري» صاحب كتاب «عوارف المعارف»، وقضى حياته في بغداد وعلى الأغلب مات فيها. ولد شهاب الدين يحيى بن حبش بن أميرك أو «السهروردي المقتول» في قرية سهرورد، في شمال غرب بلاد فارس.
طلب العلم باكراً في أصفهان، ثم في ديار بكر والأناضول، ثم بلاد الشام، حيث استقر في حلب عندما كانت في إمرة الملك الظاهر، ابن صلاح الدين. وفي حلب كتب أهم أعماله: «حكمة الإشراق»، و«كتاب اللمحات»، و«كتاب التلويحات»، و«كتاب المقاومات»، و«كتاب المطارحات»، إضافة إلى عشرات الكتب الثانوية والرسائل.
ولقي السهروري حتفه في حلب التي كانت خاضعة وقتئذ، ومعها سوريا، لحكم السلطان صلاح الدين الأيوبي الذي أصدر أمرا بإعدام السهروردي بسبب تحريض الفقهاء عليه. وقد قام حاكم حلب، وهو أحد أبناء صلاح الدين، الملك الظاهر الأيوبي، بعد تردد بتنفيذ حكم الإعدام بصديقه السهروردي! لأن صلاح الدين خيّره بين العزل من الحكم أو قتل السهروردي الذي ربطته مع الملك الظاهر محبة واحترام.
ويجمع كتاب التلويحات اللوحية والعرشية بين صفحاته مزيجاً غريباً، يضم مواضيع الميتافيزيقا، أي ما وراء الطبيعة، والتصوف الفارسي، وبعض المبادئ المتعلقة بالعلوم الفلسفية عامة. وتمتاز كتابات السهروري بكثافة رمزية شديدة تغيب فيها مختلف الأبعاد العقلية والمنطقية، وتجمع ما بين الذوق الصوفي والاشتغال الفلسفي.
وعرف السهروردي بلقب شيخ الإشراق، نظراً لتمسكه بفكرة «الإشراق»، التي ينطلق معناها من التقابل ما بين الشرق والغرب، حيث يعتبر الانبثاق المكاني للشمس في وقت شروقها انبثاقاً معنوياً ينمّ عن البدء والانبجاس وحضور الإلهي في الدينوي.
وفي ذهن السهروردي أن جهة الشرق الجغرافي تمثل أعمق مظاهر «بلاد فارس»، وحين الانتقال إلى الجهة المضادة، أي جهة الغرب، نجد أن الغروب المكاني للشمس يمثل، بالنسبة إليه، غياب المقدس وانتصار المدنس، وعليه يعتبر بلاد المغرب رمزاً للانحطاط المعنوي، لذلك ينبغي على الحكيم الإشراقي أن يهجر أو بالأحرى يفرّ من الغرب الجغرافي.
وينكشف الوعي الإشراقي عن مزيج مكاني / مادي، ومعنوي / إلهي، فالأنوار تبزغ من الشرق كي تضيء النفوس المظلمة، أي يحضر الإلهي في الشرق حضوراً لا يساوق قيمياً الحضور في المكان الغربي، لأنه أرفع منه. وينتج عن هذا الوعي الاعتقادي وجود تفاضل أو تفاصل مادي في الواقع، إذ أن الألوية تعطى على الدوام لكلّ ما هو متموضع في الشرق.
ويذهب العديد من الباحثين إلى الاعتقاد بأن تعويل السهروردي على النور الإلهي الصادر عن الشرق الجغرافي ناتج عن وعي شوفيني يسكن في ذهنه، ويهدف إلى الجمع بين النور المحمدي «نسبة إلى النبي محمد» والنار المجوسية الفارسية، وهو جمع تتم عقلنته بالفلسفة اليونانية، ويدفع به إلى التمازج مع البوذية والهرمسية وسوى ذلك.
وتكشف النظرة الإشراقية عند السهروردي عن تداخل ما بين الفلسفة المشائية وبين تجربة التصوف في إطار الإسلام العام، إضافة إلى مصادر الفكر الإشراقي المتعددة كالزرادشتية والفيثاغورية والأفلاطونية والهرمسية. وهو تداخل جرى في إطار من «العالمية» التي نهض عليها الفكر الفلسفي بشكل عام.
لكن فلسفة السهروردي الإشراقية تتمحور حول اعتبار «النور» مبدأ الوجود، وكلما انحدر الوجود درجة من المصدر الأعلى انخفض مستوى «النور». وحين يبلغ الدرجة الجُرْمية، أي في عالم الأجسام، يتناقص النور ويضمحل حتى يبلغ المرتبة «المظلمة» من الوجود.
كذلك يعتبر السهروري النور مبدأ «الحقيقة» الصوفية الإشراقية التي هي هدف المعرفة، ويفرّق بين فعلي «الإشراق» و«المشاهدة» من الاختلاف في الاتجاه، والاتفاق من حيث الجوهر. وفي العديد من المواضع يستبدل السهروردي الإشراق والمشاهدة بفعلي «العشق» و«القهر»، حيث «العشق، به ينتظم الله الوجود صعوداً، وبالقهر ينتظمه نزولاً. والنفوس منطوية في قهر نورية العقول».
ويرى السهروردي أن الفلسفة المشائية مدخل أساسي لتكوين الحكمة الإشراقية. والمعروف أن المشائية peripatetism فلسفة تتحدد من أرسطو (384 ـ 322 ق.م). وكان أرسطو يلقن تلاميذه الحكمة أثناء المشي في فناء ملعب اللوقيون في أثينا، ومن هنا جاء تلقيبهم بالمشائين.
وكانت الترجمة السريانية للفلسفة الهللينية عاملاً أساسياً في تحقيق الوعي الإسلامي بشكل عام، سواء على المستوى الفلسفي أو الديني، وذلك بعد أن نقل جهابذة مترجمي السريان أمهات الكتب الفلسفية اليونانية إلى اللغة العربية. ويشكل تقسيم أرسطو للعلوم إلى نظري وعملي جزءاً أساسياً من وعي السهروردي بالوجود، وما يبتغيه العلم النظري هو الوصول إلى مجرد المعرفة.
بينما يسلط العلم النظري على الوجود فيتناوله من جهة ما هو متحرك ومحسوس، وهنا يتبدى علم الطبيعة؛ من جهة ما هو مقدار وعدد، وكذلك يتبدى العلم الرياضي؛ من جهة ما هو وجود مطلق، ويتبدى أيضاً علم ما بعد الطبيعة. كما ينقسم العلم العملي إلى الأخلاق وتدبير المنزل والسياسة. ثم يأتي ما هو نظري وما هو عملي الفن.
ويحدّد هنري كوبان ترسمية رباعية للعوالم عند السهروردي، فهناك عالم «الجبروت»: عالم العقول المحضة، أي الأنوار الملائكية الكبرى للسالكين الأول، والعقول المثالية. وهناك عالم «الملكوت»: الأنوار التي تدبر أمر جسم من الأجسام، أي عالم الأنفس السماوية والأنفس البشرية.
وهناك عالم «الملك»: البرزخ المزدوج المتألف من الكواكب السماوية ومن عالم عناصر ما دون القمر. وأخيراً «عالم المثل» الذي يتوسط ما بين العالم العقلي لكائنات الأنوار المحضة وبين العالم المحسوس. وليس هذا العالم بعالم المثل الأفلاطونية، ولكنه عالم الصور والمثل المعلقة.
وفي الزمن الذي عاش فيه السهروردي، كان هنالك مسافة بين المذهب الأشعري وبين الفكر الذي أراد الخروج من البوتقة الدينية المُحكمة في إطار الصراع على السلطة في الإسلام، فراحت تتبلور حركات صوفية ذات منحى أبعد من الإسلام، طلباً للخلاص الصوفي، وقد أسهمت الغزوات الصليبية في زيادة الصراع الفكري اشتعالاً.
ولم يُعرَف عن صلاح الدين الأيوبي التعصب والتزمت، على الرغم من عاش في قلب الحرب الدينية، عاشها وقاتل ومات فيها. وأجمع المؤرخون على اعتداله، خاصة بالمقارَنة بسلفه ابن زنكي. ويخبرنا مؤرخ حلب القاضي ابن شداد أن أهل حلب كانوا مختلفين في أمر السهروردي، حيث كان يرميه بعضهم بالزندقة والإلحاد، وينعته بعضهم الآخر بالتُقى والصلاح، بل ولقِّبه بعضهم بلقب «شهاب المِلَّة والدين» تارة، و«المؤيَّد بالملكوت» تارة أخرى.
وليس صحيحاً ما قاله بعض الرواة والمؤرخين عن صلاح الدين الأيوبي كان يكره «كتب الفلسفة وأرباب المنطق ومن يعاند الشريعة»، إذ لا سند مؤكدا أو صريحا. ويرى بروكلمان أن صلاح الدين لم يستشعر الحاجة إلى إقامة ديوان لامتحان الزنادقة إلا مرة واحدة في حلب. ولا يخفى أنه كانت للسهروردي آراء غنوصية، عرفانية، قائمة على أساس الأفلاطونية الجديدة والفيثاغورية الجديدة. وكانت أفكاره مطروقة لدى بعض المتصوفة، من نصارى ومسلمين، الذي اعتبروا أن نوراً روحياً يتخلَّل الكون كإشراق لدنِّي هو جوهر الأشياء جميعاً.
لكن تعاليمه، كما يضيف برولكمان ما لبثت أن أثارت شكوك علماء السُّنة، فزعموا أنه يمثل عقيدة القرامطة المُعادين للدولة. وهكذا لم يكن في وسع صلاح الدين، رغم اعتداله، إلا أن وافق على حكم الموت الذي أصدره الفقهاء القضاة على الملحد عام 1191. ويرى بعض الباحثين أن الفتوى بقتل السهروردي وصلت إلى صلاح الدين للموافقة عليها في وقت من أحلك الأوقات التي مرَّ بها السلطان.
ولم يتسن له التدقيق في مسألة لها علاقة بالكفر، وهو يحارب «الكفار» على أبواب القدس! وقد اختلف المؤرخون في طريقة قتل السهروردي؛ فذكر بعضهم أنه خُيِّر في كيفية قتله، فاختار أن يموت جوعاً، لأنه كانت له عادة في الرياضة، فمُنِع عنه الطعام حتى تَلِف. ومنهم من يذهب إلى أنه قُتِل بالسيف، وآخرون أنه أحرِق، وبعضهم قال إنه خُنِق بوتر.
كان السهروردي يقول: «لا بدَّ أن أملك الأرض». وهو على أية حال، ملك أرضاً أوسع من أرض السلطان الأيوبي. فبرغم عمره القصير، استطاع، انطلاقاً من الصفة التي لحقت باسمه «المقتول»، أن يثير قلقاً كالذي أثاره من قبلُ موتُ الحلاج، فكَثُرَ أتباعُه. ويكفي أن يكون محيي الدين بن عربي أوصل الإشراق السهروردي بعد ذلك إلى ذروته الخالدة.
* الكتاب: التلويحات اللوحية والعرشية
* تقديم وتحرير:علي محمد إسبر ومحمد أمين أبو جوهر
* الناشر: دار التكوين ـ دمشق 2006
* الصفحات: 153 صفحة من القطع المتوسط
عمر كوش
