من المكتبة العربية

العصبية والحكمة

ت + ت - الحجم الطبيعي

مؤلف هذا الكتاب هو سعيد الغانمي، الناقد والكاتب والمترجم العراقي، الذي ترجم إلى اللغة العربية أعمالاً فكرية ونقدية هامة، مثل: «نظرية التأويل» الخطاب وفائض المعنى، و«الوجود والزمان والسرد» لبول ريكور، و«السيمياء والتأويل» لجورج شولتز، وكتاب «الصانع» للكاتب العالمي الشهير «بورخيس»،

وترجم كذلك كتاب «اللغة والخطاب الأدبي». كما أصدر بدوره عدداً من المؤلفات، منها: «معنى الكشف الشعري»، و«الكنز والتأويل: قراءات في الحكاية العربية»، و«مئة عام من الفكر النقدي»، و«خزانة الحكايات».

وفي كتابه الجديد «العصبية والحكمة» يقدم المؤلف قراءة في فكر ابن خلدون، وعلاقة العصبية، التي يعتبرها محور نظريته، بالحكمة المستقاة من التأمل في معنى التاريخ وفلسفته، عارضاً موقف ابن خلدون من الفلسفة وموقع نظريته في العصبية عند الفلاسفة. وتطلب ذلك تبيان موقف ابن خلدون المعلن والضمني من الفلسفة بوصفها تساؤلاً كان يراوده منذ لحظات شبابه، لكنه توصل إلى فلسفته في العصبية في لحظة اعتزاله في قلعة بني سلامة.

وينطلق المؤلف من اعتبار أن اللحظة التي عاشها ابن خلدون تشابه اللحظة المعاصرة التي يعيشها العرب، حيث تستفحل البداوة اليوم تحت مسميات عصرية عديدة. وهذا الاعتبار جعله يشابه ما بين أزمة الهوية في عصر ابن خلدون وأزمتها العربية في عالم اليوم، وهو أمر لا يخلو من تعميم واختزال وقسر للحظات تاريخية مختلفة ومتغايرة حسب منطق التاريخ ذاته.

وتغلب السمة السابقة على أغلب الدراسات التي تتناول العلامة والفيلسوف ابن خلدون، حيث تعيد إنتاج ذات الإشكاليات والأسئلة المطروحة، دون أن تتعرض لأسئلة جديدة، خاصة وأن السؤال المطروح اليوم بعد مرور ستمائة سنة على وفاة ابن خلدون هو: ماذا تبقى من ابن خلدون؟ أو ماذا تبقى من علم العلاّمة ابن خلدون؟ وهل يمكن أن ينسحب عطاؤه ويحضر حتى في عصرنا الراهن، أم أن استحضاره هو نوع من الهروب والعجز والأزمة؟

هذه الأسئلة لا تقلل من قوة حضور ابن خلدون، لكنها تتحفظ على من يعتبر أن «المقدمة» صالحة لزماننا وزمان ابن خلدون في آن معاً، مع العلم أن علم الاجتماع اليوم هو غير ما قرره صاحب المقدمة، وظروف ومتغيرات اليوم تختلف تماماً عن مثيلاتها في عصر ابن خلدون. والأجدى هو البحث عن مسارات جدية في النهضة والتغيير بمعزل عن استحضار الرموز التاريخية التي يتجاوزها الزمن الحالي، وأن ننصرف عن الاحتفاليات لصالح الأسئلة الواخزة والاستحقاقات الراهنة.

ويرى المؤلف أنه حين اعتكف ابن خلدون لكتابة «المقدمة»، كان قد مرّ بانقلاب كبير، انتقل فيه من الاهتمام بالفلسفة والعلوم العقلية إلى العداء الشديد لهما، وهو أمرّ تصرح به «المقدمة»، ويرد ذلك إلى التأرجح بين العقلانية واللاعقلانية التي يعتبرها العديد من الباحثين سمة أصيلة في تفكير ابن خلدون،

ومع ذلك يطالب المؤلف بقراءة أفكار ابن خلدون فيما بين السطور، أي قراءة المسكوت عنه والمخفي والمموه عليه لأسباب فكرية. ويخلص المؤلف من أنه توفرت لابن خلدون في شبابه ثلاث بيئات مختلفة، الأولى تجربة علمية وأدبية وفلسفية، والثانية بيئة سلطانية في بلاطات عدة ملوك، والثالثة بيئة القبائل التي تحاول البلاطات استدراجها واستتباعها لها.

والحقيقة هي أن ابن خلدون يبدو معادياً للفلسفة في الظاهر فقط، أي عندما يكتب في: «إبطال الفلسفة وفساد منتحليها، غير أنه في واقع الأمر، وفي ضوء فلسفته الاجتماعية والتاريخية يعتبر واحداً من بين أولئك المفكرين الرواد الذين انزلوا الفلسفة من السماء إلى الأرض من أجل فهم العالم، فقد أبطل فلسفة الميتافيزيقيا لتحل محلها فلسفة الفيزيقيا المجتمعية التي يمكن لعقل الإنسان أن يتعامل معها. ونلمس في «المقدمة» سريان نهجه العقلاني الواقعي، الذي استخدمه لمحاربة الأوهام والطلاسم والأساطير.

ويطرح المؤلف سؤالاً حول علاقة التاريخ بالفلسفة عند ابن خلدون، لكنه ينزاح عنه لصالح كتابة التاريخ كما فهمها ابن خلدون. ومع ذلك فإن التاريخ عند ابن خلدون يكرّر نفسه ولا يكرر نفسه، من خلال اعتبار أن حركة «الصعود والهبوط» واحدة، ولكن مضمونها الاجتماعي «العمراني» يختلف بين لحظة تاريخية سابقة ولحظة لاحقة.

هذه النظرية الخلدونية عن التطور استفاد منها باحثين كثر في الاجتماع والتاريخ وانقسمت المدارس الأوروبية في فترة نهضة القارة عليها بين مؤيد ومعارض ومتفهم لها، بوصفها تتحدث عن تاريخ خاص ومحدد. إلا أن هذه النظرية المتماسكة في منطقها الفلسفي وشواهدها التاريخية أثارت مخيلة عشرات المؤرخين والفلاسفة فاستفادوا منها واستخدموها في قراءات مختلفة، عن صعود الغرب وهبوطه، وعن صعود الشرق وهبوطه، وعن صعود الحضارات وسقوطها.

وعليه فقد كان «ابن خلدون» صاحب عبقرية عربية متميزة، إذ كان عالماً موسوعيًا متعدد المعارف والعلوم، ورائداً مجدداً في كثير من العلوم والفنون، فهو المؤسس لعلم الاجتماع، ومجدد في علم التاريخ، وأحد رواد فن «الأتوبيوغرافيا» أي فن الترجمة الذاتية،

كما أنه يُعدّ أحد العلماء الراسخين في علم الحديث، وأحد فقهاء المالكية المعدودين، ومجدد في مجال الدراسات التربوية، وعلم النفس التربوي والتعليمي، وكان له إسهامات متميزة في التجديد في أسلوب الكتابة العربية. ودرس ابن خلدون علوم اللغة من نحو وصرف وبلاغة وأدب، وكذلك علوم المنطق والفلسفة والطبيعية والرياضيات.

ولا شك في أن عظمة ابن خلدون تجلت في نواحي عديدة، سواء في الجمع بين عبقرية الفكر النظري من جهة أولى والتطبيق العملي من جهة ثانية، أم في اكتشافه لعدد من قوانين حركة المجتمعات والعمران البشري. وتقوم مأثرته في تحديد لأنماط الرئيسية الثلاثة للعمران في زمانه،

وهي معيشة «الحضر» في المدينة، و«البداوة» في القبيلة، و«الريف» في القرية، واعتبر أن العلاقة الجدلية بين هذه الأنماط الثلاثة (أي الشد والجذب، الكر والفر) هي التي تفسر دورة صعود، وانحلال، ثم سقوط الممالك والدول في زمانه، ثم صعود وانحلال وسقوط غيرها، وهكذا. وكانت آلية وروح هذه العلاقة الجدلية، هي ما أطلق عليه ابن خلدون «العصبية»، أي الولاء المطلق لأقرباء الدم، والتحيز لهم، والتهيؤ لنصرتهم، ظالمين أو مظلومين.

ويعتبر ابن خلدون أن القبيلة أو البداوة هي المخزون الأكبر للعصبية، من حيث أنها تمكن القبائل من الزحف على الريف، ثم على الحضر، وحين تكون الأسرة الحاكمة في مجتمعها قد فقدت روح عصبيتها وانغمست في حياة الترف والملذات، فإنها تكون قد فسدت وضعفت، ومن ثم تسقط كبيت من ورق، تحت هجمة أصحاب العصبية الجديدة، الذين يصبحون حكاماً جدداً، يجري على عصبيتهم ما جرى على ما سبقها من ضعف وفساد وتحلل.

ويرى المؤلف أن العصبية هي محتوى الشعور الجمعي لدى البدو، ولكن لا يمكن قلب القضية بحيث يقال أن العصبية هي الشعور الجمعي، لأن الشعور الجمعي يوجد حيثما يوجد المجتمع. ويفهم العصبية على أنها جهاز دفاعي، قوة ردع تصد بها احتمالات العدوان من العصائب الأخرى، ولكنها تنطوي على وجه داخلي آخر يزيد من لحمة التماسك بين أفرادها، ولعل أبرز مظاهرها ما يسميه ابن خلدون بالتوحش، أي الاعتزال في البيد والقفار.

وتحضر نظريات ابن خلدون عن «النسب والعصبية والرياسة ودورات الملك» بكثافة في الكتاب، إلا أنه لم يبينّ الأهمية النظرية في فهم وتفسير مركزية القبيلة في التاريخ العربي، كونها لا تتوقف على توصيفاته التاريخية للحقبة التي عاشها، بل تمتد إلى عصرنا الحالي حاملة بعض التطبيقات المهمة،

فقد رأى ابن خلدون أن صراع العصبيات الصغرى ـ تنافسات القبائل ـ يُحسم لصالح عصبية غالبة سرعان ما يؤول إليها الملك، وبه ومن خلاله تعمل على إعادة صياغة الولاءات والعصبيات الصغرى بحيث تخلق روحا جماعية بين القبائل المتصارعة، معتمدة على شرعية دينية تستدعيها من هنا أو هناك.

لكن دينامية وحراك العصبيات الصغرى يخفت ويشتد بالتوازي مع منعة وقوة العصبية الغالبة التي ستنخرط في دورة الملك الحتمي الذي ما أن يصل ذروته حتى تبدأ بالهبوط والانحدار الناتج عن فساد يولده الترف والدعة. في تلك الأثناء تكون عصبية أخرى ترقب الانحدار لتتلقف راية الرياسة وتصعد لتأخذ مكانها في دورة الملك التي تتابع الدوارن.

كنا نأمل في أن يجيب الكتاب على أسئلة محددة، أو أن يبحث في جانب محدد ومن منطلق جديد، كي يضيء جوانب أخرى من أطروحات وأفكار ابن خلدون، وذلك كي يكتسب الكتاب أهمية إضافية، لا أن يدخل في مجال المطروح والمتداول والشائع.

عمر كوش

* الكتاب: العصبية والحكمة: قراءة في فلسفة التاريخ عند ابن خلدون

*الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت 2006

*الصفحات: 187 صفحة من القطع المتوسط

Email