الليبرالية والديمقراطية

الليبرالية والديمقراطية

ت + ت - الحجم الطبيعي

مؤلف هذا الكتاب هو الباحث نوربيرتو بوبيو المختص بشؤون الفلسفة السياسية. وفي هذا الكتاب يتحدث المؤلف عن العلاقة بين الليبرالية والديمقراطية عبر العصور منذ الإغريق وحتى يومنا هذا. من المعلوم أن الديمقراطية نشأت لأول مرة في أثينا وكانت تعني منذ البداية حكم الشعب من قبل الشعب أو بالأحرى حكم الكثرة لا القلة.

وكان هناك مبدآن يتحكمان بالنظام الديمقراطي الوليد: أولا مساواة جميع المواطنين أمام القانون. وثانيا حرية الرأي والتفكير والتعبير. وهكذا جمع اليونان بين الليبرالية ـ أي الحرية ـ من جهة، وبين الديمقراطية من جهة أخرى. ولكن كان هناك نقص كبير يعتري ديمقراطيتهم ألا وهي أنها كانت محصورة بالرجال والأحرار.

بمعنى أن العبيد والنساء والأجانب كانوا مستبعدين منها. ولكن على الرغم من ذلك لا يمكن لنا أن نستهين بالإنجازات الإيجابية لأول ديمقراطية ليبرالية في التاريخ. فالناس جميعا كان يحق لهم أن يفتحوا أفواههم في المجالس العامة ويعطوا رأيهم بشأن القضايا العامة التي تهم المجتمع ككل. يضاف إلى ذلك أنهم كانوا متساوين أمام القانون ومؤسسات الدولة لا فرق بين كبير وصغير، أو ابن سيدة وابن جارية.

ثم يتحدث المؤلف بعدئذ عن ولادة الليبرالية بالمعنى الحديث للكلمة ويقول: إن الثورة الإنجليزية التي حصلت في القرن السابع عشر أثرت كثيرا على العلوم السياسية. فقد رسخت في وعي الناس لأول مرة مفهوم الحرية أو الليبرالية بالقياس إلى الحكم الإطلاقي الاستبدادي. وكان إصدار إعلان الحقوق عام 1689 بمثابة الانتقال من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة.

والفيلسوف الذي نظّر لذلك كله واستخرج منه الدروس والعبر هو بدون شك جون لوك. فقد انتقل بالفلسفة السياسية من مرحلة اللاهوت المسيحي إلى مرحلة القانون الطبيعي أو الوضعي الذي يسنّه العقل البشري. وميزة جون لوك تكمن ليس في أنه خلق مفهوم القانون الطبيعي وإنما في أنه استخدمه باتجاه الليبرالية أو الحرية الفردية.

فالواقع أن الفيلسوف هوبز كان قد اكتشفه قبله ولكنه استخدمه لترسيخ الاستبداد ولا الحرية. وكذلك اكتشفه قبلهما كليهما عالم هولندي يدعى: غروتيوس.م جاءت الثورة الفرنسية بعد الثورة الإنجليزية بقرن واحد (1789) وأكدت على نفس المبادئ بعد توسيعها أكثر فأكثر.

فعندما أصدرت الإعلان الشهير لحقوق الإنسان والمواطن كان ذلك يعني أن زمن الاستبداد قد ولّى إلى غير رجعة وأن الحكم المطلق لملوك فرنسا قد انتهى إلى الأبد. فلا حق إلهي للملوك المسيحيين ولا من يحزنون.فالناس أصبحوا متساوين لأول مرة في تاريخ فرنسا.

في السابق، أي أثناء العهد الملكي القديم، كان المجتمع الفرنسي مقسما إلى ثلاث طبقات أساسية: الطبقة الأرستقراطية الإقطاعية، طبقة كبار الكهنة ورجال الكنيسة، بقية الناس: أي معظم الشعب من فلاحين وحرفيين.

أما بعد الثورة فقد سقطت هذه التقسيمات بين الناس ولم تعد للطبقة الأرستقراطية أية امتيازات كما كان عليه الحال في السابق. لم يعد يكفي أن تولد في عائلة إقطاعية لكي تنال كل الحقوق حتى بدون أن تعمل أو تبذل أي جهد.

وإنما أصبحت قيمة الإنسان تكمن في ميزاته الشخصية ومدى قدرته على النجاح في الحياة والتفوق في مجال ما من المجالات.

ثم يردف المؤلف قائلا: ولم تعد السلطة السياسية تستمد مشروعيتها من الكهنة ورجال الدين وإنما من الشعب. أصبحت السلطة ناتجة عن العقد الاجتماعي بين الحكام والمحكومين.

فإذا ما أخلّ الحكام بهذا العقد فإن الشعب يسقطهم في الانتخابات المقبلة ويضع في سدة السلطة أشخاصا آخرين غيرهم، وهكذا دواليك. وهذا هو مفهوم التناوب على السلطة.

ولهذا السبب رفعت الثورة الفرنسية الشعار الشهير وكتبته على واجهة كل المباني الحكومية: حرية، مساواة، إخاء.

ولكن ينبغي الاعتراف بأن تطبيق هذا الشعار لم يتم بين عشية وضحاها! وإنما استغرق تطبيقه عدة أجيال: أي منذ القرن التاسع عشر وحتى العشرين. فالنظام الليبرالي الناتج عن الثورة لم يؤد إلى المساواة في الحقوق إلا نظريا.

أما من الناحية العملية فإن الطبقة البورجوازية التي استلمت الحكم بعد إسقاط الطبقة الأرستقراطية راحت تستغل الأمور لصالحها. وهكذا شكلت نظاما ظالما على الرغم من كل التقدم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي تحقق في عهدها.

ولهذا السبب ظهرت الحركة الاشتراكية كرد فعل على النظام الليبرالي البورجوازي الديمقراطي. فقد نادت بالمساواة والعدالة.

ومعلوم أن الشعب يريد العدالة قبل كل شيء، وأحيانا قبل الحرية. فما نفع الحرية بدون عدالة، أي بدون خبز؟ إنها مفرغة من مضمونها ومحتواها. ضمن هذا السياق نشأت النظريات المتعلقة بالاشتراكية الطوباوية والاشتراكية الماركسية التي قالت: لا معنى لحقوق الإنسان ولا للحريات الفردية ولا للنظام الليبرالي الديمقراطي إذا لم ترافقه العدالة الاجتماعية: أي التوزيع العادل للثروة على المواطنين.

ثم يردف المؤلف قائلا بما معناه: هكذا نلاحظ أن النظام الليبرالي الدستوري كان يشكل تقدما بالقياس إلى النظام الأخلاقي الاستبدادي القديم. ولكنه لم يكن كافيا. ولهذا السبب ظهرت الأحزاب الاشتراكية والنقابات العمالية للدفاع عن حقوق الطبقات الشعبية والعمالية والفلاحية.

ومن أهم المفكرين الذين نظّروا للنظام الليبرالي الديمقراطي في فرنسا شخص يدعى: توكفيل. ومعلوم أنه أصدر كتابه الشهير عن «الديمقراطية في أميركا» عام (1835): أي في الثلث الأول من القرن التاسع عشر. وقد عبر فيه عن إعجابه بالنظام الذي أسسه الآباء الكبار في أميركا: أي توماس جيفرسون وزملاؤه. ففي رأيه أنه من أفضل الأنظمة.

لماذا؟ لأنه يأخذ رأي الشعب بعين الاعتبار. فالحكام أصبحوا يُنتخبون بكل حرية من قبل الشعب ولا يُفرضون عليه بالقوة من فوق.

وأصبحت للشعب كلمته في الموضوع: أي في طريقة الحكم وسنّ القوانين والتشريعات ثم تطبيقها. وهذا هو معنى الديمقراطية. ولكنها ديمقراطية قائمة على دستور ليبرالي يضمن الحريات والحقوق الأساسية للناس. فلا تفريق بين المواطنين على أساس العرق، أو اللون، أو الطائفة، أو المذهب، أو الدين.

كلهم مواطنون أميركيون بنفس الدرجة، ولا يوجد مواطن درجة أولى ومواطن درجة ثانية، الخ. في الواقع أن التفريق بين البيض والسود كان سائدا عمليا ولم ينته إلا بعد فترة طويلة.

ولكن ينبغي الاعتراف بأن العلاقة بين الليبرالية والديمقراطية لم تكن بسيطة ولا سهلة وإنما مرت بعدة مراحل صراعية حتى اكتملت.

فدول أوروبا الغربية الحالية كلها تعيش على أنظمة ليبرالية وديمقراطية في آن معا. ولكن هذا الشيء حديث العهد ولم يتحقق فعلا إلا بعد الحرب العالمية الثانية.

فإنجلترا، أعرق ديمقراطية في العالم، كانت ليبرالية دستورية طيلة القرن التاسع عشر بل وحتى قبل ذلك. ولكنها لم تصبح ديمقراطية بالفعل إلا في النصف الأول من القرن العشرين. لماذا؟ لأن حق التصويت (أو الانتخاب) كان محصوراً بالطبقات العليا من المجتمع: أي الطبقات البورجوازية ذات الملكية.

ثم عمموه بعدئذ لكي يشمل الطبقات الشعبية من عمال وفلاحين بعد أن انتشر التعليم في أوساطهم وتحضروا وتهذبوا.

وقل الأمر ذاته عن فرنسا. هل تعلم بأن الجنرال ديغول هو الذي أعطى المرأة حق التصويت عام 1945 فقط؟ بمعنى أن نصف الشعب كان محروما من المساهمة في العملية السياسية طيلة القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين.

وهذا دليل على أنه ليس من السهل تحقيق الليبرالية والديمقراطية في آن معاً.

* الكتاب: الليبرالية والديمقراطية

* الناشر: فيرسو ـ لندن، نيويورك 2006

* الصفحات :104 صفحات من القطع الكبير

Liberalism and democracy

Norberto Bobbio

Verso - London, New York 2006

p. 104

Email