رائد المسرح العربي أحمد أبو خليل القباني

رائد المسرح العربي أحمد أبو خليل القباني

ت + ت - الحجم الطبيعي

كتب عادل أبو شنب عن دمشق وفولكلورها وحكاياتها فقد ألف «دمشق أيام زمان 1990»، و«مسرح عربي قديم 1964 » و«كان يا ما كان» دراسة في الحكايا المروية، و«من معارك النقد الأدبي في سورية»، وله العديد من المجموعات القصصية، وها هو يكمل المشوار بكتابة متميزة عن واحد من أبناء دمشق المستنيرين الذين عملوا على التأسيس في دمشق.

يعتبر أحمد أبو خليل القباني رائداً من روّاد المسرح العربي، فقد مدّ فكره الوقاد بفكرة دمج الموشحات ورقص السماح بالتمثيل الذي رآه يعتمد على التحاور والتخاطب بين الشخوص الجلدية الملونة في «خيال الظل»، وفي المسرح الأوروبي الوافد، وسرعان ما نفذ الفكرة، فكانت هذه المدرسة المسرحية الشامية في مسرح خاص، أقامه القباني في «خان الجمرك» في دمشق.

أوذي القباني واضطهد، فقد آذاه جمهوره، بالإضافة إلى الأذى الذي لحقه على أيدي السلطات الرسمية التي شجعته في بداية الأمر، لكن القباني المؤمن بفنه بقي متشبثاً بما جاء به، وعانى ما عانى ليثّبت أقدام مسرحه، وليجعل من الفن المسرحي بديلاً معترفاً به عن الظواهر المسرحية والأشكال الفنية الشعبية التي كانت سائدة في مطلع حياته.

والتي إليها يرجع الفضل في تلقينه مبادئ الفن الأولى، وتجيء شهادات معاصريه من المؤرخين والفنانين لتحكي عن النضال الشاق الذي بذله ليضع أسس المدرسة المسرحية التي تنسب إليه. هاجر أبو خليل القباني إلى مصر، فأضاء هناك، وأوجد المسرح الغنائي الذي تتلّمذ عليه شيوخ الفن المصريون.

يفاجئنا المؤلف عادل أبو شنب بالربط بين الظواهر المسرحية وبين المسرح مثل : المناسبات الدينية وما فيها، من الندب والبكاء وحلقات الذكر والمدائح النبوية واحتفالات الأعراس والختان والمآتم وحلقات الدراويش المولوية والحكواتي وصندوق الدنيا وخيال الظل، ثم يبدأ بمسرح أبي خليل القباني فيتحدث عن مولده ونشأته فقد كان الفتى يرتاد مع خاله عبد الله النشواتي، مقهى العمارة،

يسهر مع روّاد المقهى، ويتفرج على فصول خيال الظل، ويصغي بانتباه إلى محاوراته العجيبة، ويتابع الحكواتي في وصفه لعنترة وعبلة والمهلهل والزير سالم والزناتي خليفة والملك الظاهر وغيرهم. ولما ولي صبحي باشا على دمشق حضرت فرقة تمثيلية ومثلت في مدرسة العازارية روايات اجتماعية أخلاقية وقد شهد أبو خليل تمثيلية « البخيل » لموليير، فأخذ فكرة أولى متكاملة عن المسرح والتمثيل والممثلين وتوزيع الأدوار والماكياج، فتم بذلك ما كان ينقصه عن فكرة التمثيل والمسرح.

دعا أحمد أبو خليل القباني رفاقه إلى دار أبيه، وراح يغني ويرقص معهم، فهال الأب ما رآه من صخب أحمد ورفقائه، عنفه، ولن يسمح لابنه بالعودة إلا إذا تاب عما كان يرتكبه من خطأ. ولم يجد الفتى ملجأ سوى بيت خاله عبد الله النشواتي، فرحب به هذا.

وكانت الأخبار تصل إلى الأب فتزيده غضباً إلى أن وصل مدحت باشا الوالي المستنير،

فطلب الشاب أحمد أبو خليل القباني ليمثل أمامه رواية، حتى إذا شاهدها، أمر بأن يعطى من بلدية دمشق 900 ليرة ذهبية لهذه الغاية، وهكذا استأجر أحمد أرضاً في جنينة الأفندي، وراح يعلم رفاقه طرق الأداء بالصوت والحركة، وأعطى أدواراً نسائية للفتيان المرد، وأبدى مدحت باشا إعجابه فجاراه الآخرون وأبدوا إعجابهم وسرّوا بنجاح القباني وبولادة فن المسرح.

في لحظة احتضار الأب، أمسك يد ابنه وهو يقول له : «إذا أردت أن تستمر في الغناء، فغني في أوقات فراغك». وتزوج القباني ثم عمد إلى بيع قطعة أرض له، وباع القباني، ليؤسس مسرحاً في خان الجمرك، بلغت تكاليفه ألفي ليرة عثمانية.

نذر القباني نفسه للمسرح، يؤلف ويلحن ويمثل، واستمتع جمهور دمشق بمشاهدة مسرحياته، وكان هناك الممثلون والمختصون بنصب المسرح وتنفيذ المشاهد والمختصون بتفصيل الثياب الملائمة للمثلين وفق أدوارهم، وراقصو السماح والموسيقيون والمنشدون، والإداريون لضبط مختلف الشؤون.

نقل مدحت باشا من دمشق، فجمع أعيان دمشق أنفسهم ووقعوا عريضة تطالب القباني بإغلاق مسرحه، ولما رفض أخذوا العريضة إلى الآستانة، فكان أن صدرت الإرادة السنية إلى والي دمشق بمنع أبي خليل من التمثيل وإغلاق مسرحه الذي دام سنة وتسعة أشهر من عام 1882 حتى عام 1884.

ذهب أبو خليل القباني إلى مصر، لأنها أكثر تحرراً من أقاليم الإمبراطورية العثمانية، وأخذ معه أعضاء فرقته من ممثلين وفنيين ومنشدين وراقصين وآلايته، ونشرت جريدة « الأهرام » خبر القدوم ورحبت بالقباني، علامة عصره في التمثيل والموسيقى والإنشاد.

عمل القباني في أحد كازينوهات الإسكندرية، وقدم لجمهوره أجمل أعماله من فن رفيع وموسيقى عربية جميلة وإنشادات لا مثيل لها، كما استمتعوا برقص السماح ذي الحركات الموزونة المدروسة. كذلك في القاهرة، استقبل القباني في تظاهرة وحمل على الأكتاف، وعمل في عدد من الكازينوهات القاهرية في قهوة الدانوب وزيزينا ثم في مسرح البولتيما، والأزبكية، والتياترو. وكان له شرف أن تفتح دار الأوبرا له ليقدم أعماله المسرحية فيها.

كان مسرح القباني مورداً عذباً يؤمه الكبراء والأمراء والشعراء والأدباء لمشاهدة رواياته، شهد بحسنها الكثير من أئمة البلاغة ومتقني صناعة الصياغة، كما شهد من قبل أكابر الموسيقيين والملحنين. وخلق القباني جوّاً مسرحياً قوامه الرقص والفكاهة والغناء، وبذا يكون رائد تلك المدرسة الفنية الكبيرة التي ما نزال نحس بأثرها حتى اليوم، وهي مدرسة المسرح الغنائي، التي نظمت فيما انتظمتهم الشيخ سلامة حجازي وآل عكاشة ومنيرة المهدية وملك.

ويقال ان وباء الطاعون حل في دمشق في مطلع القرن العشرين فأصاب القباني مقتلاً فمات، ودفن في مقبرة « باب الصغير ».

فيصل خرتش

* الكتاب: رائد المسرح العربي

أحمد أبو خليل القباني - دراسة

* الناشر:دار الشموس - دمشق 2006

* الصفحات: 216 صفحة من القطع المتوسط

Email