د. صالح هويدي، ناقد وأكاديمي عراقي مقيم بالإمارات، وقد أصدر عدداً من الكتب والمؤلّفات النقدية في مجالي الشعر والسرد، منها: «الترميز في الفن القصصي العراقي الحديث» 1989، «التوظيف الفني للطبيعة في أدب نجيب محفوظ »1992 ، «بنية الرؤيا ووظيفتها في القصّة العراقية القصيرة» 1993، «النقد الأدبي الحديث، قضاياه ومناهجه» 1998، «نازك الملائكة أميرة الشعر الحديث» 2001، «صفحات من كتاب التراث» 2002، و«العبور إلى أزمنة التيه» 2003.

كتابه الجديد «صورة النوخذة في الرواية الإماراتية الحديثة/ قراءة في الخطاب السرديّ»، هو عبارة عن دراسة مهمّة لجانب من جوانب التراث البحري الإماراتي الغنيّ بالكثير من القضايا ذات الطبيعة الإشكالية التي لم يتّفق عليها الباحثون حتى الآن، والمرتبطة أساساً بالتشكيلات الاقتصادية والتجارية لمجتمعات ساحل الخليج لمرحلة ما قبل وخلال الوجود الاستعماري الأجنبي الذي سحق هذه الاقتصاديات وغيّر مصائر كثيرة خلال مئة عام من حضوره .

وبالتالي فإن دراسة صورة «النوخذة» في الأدب القصصي والروائيّ الإماراتيّ، قد تدفع الباحث للتساؤل عن الكيفية التي فهم فيها الكتاب الإماراتيون وظيفة ودور النوخذة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية؟ وعن المرجعية التي أسسوا من خلالها رؤيتهم هذه؟ و أخيراً المؤثرات الأيديولوجية الشائعة التي دفعت بنتاجهم الإبداعي نحو هذه الوجهة التي أخذت شكلاً عنيفاً من أشكال الصراع الطبقي؟

في البدء سوف يشير المؤلّف إلى أن أحد أهم المؤثّرات التي كوّنت هذه الصورة عن النوخذة جاء من الأدب الشفاهي الذي انسحب على كثير من الأشكال الأدبية كالحكايات الشعبية والأمثال والأزجال والأشعار والرقص والخرافة، وعكس في الوقت نفسه علاقة الإنسان الإماراتي بمحيطه ومستوى الوعي الذي يمثله هذا الأدب.

لينتقل بعدها إلى مرحلة الأدب المكتوب وجملة المؤثّرات التي تعود في غالبيتها إلى الحراك الثقافي والاجتماعي الذي شهده المجتمع الإماراتيّ في السبعينيات بعيد بناء الدولة وتطوّر التعليم والانفتاح على ثقافة العالم وتأثير الصحافة بشكل خاص في الإنتاج الإبداعي القصصي والشعري.وقد بيّن المؤلّف في الفصل الأوّل إلى أن أهمية «النوخذة» في المجتمع الإماراتي والخليجي إنما تعود إلى ما كان يحتله من مكانة خاصّة، باعتباره واحداً من أهم عناصر مهنة الصيد والغوص على اللؤلؤ آنذاك، وعلى حدّ تعبيره، فقد كان يتصدّر النشاط الاقتصادي، ويتربّع على قمّة هرم التراتبية الاجتماعية،

وبالتالي فإنه ليس غريباً أن يصبح بؤرة دلالية ورمزاً تتجمّع حوله مختلف موحيات النشاط الاجتماعي السلبية والإيجابية، فسعى كتاب القصّة والرواية إلى توظيف دوره الإشكالي هذا في خطابهم السرديّ، ومن ذلك علاقته بالفئات والشرائح الاجتماعية الأخرى، ولاسيما فئة الغواصين والبحّارة الذين كانوا بطبيعة الحال ينتمون إلى فئة الفقراء الذين لا يملكون سوى قوّة عملهم،

الأمر الذي جعلهم ضحايا مرحلة التحوّل السريع مع ظهور النفط وانتقال المجتمع إلى شكل الدولة المؤسساتية، مما جعل الإبداع عامة والأدب السردي على نحو خاص ينحاز لهذه الفئة المغلوبة على أمرها، ساعياً إلى إدانة مظاهر الظلم والاستغلال.

ولتأكيد ذلك، فقد درس رواية «شاهندة» لراشد عبد الله التي نجحت من خلال تقنية الحوار في تصوير حالة قهر النوخذة للبحارة واستغلاله وتمييز نفسه منهم، عن طريق الممارسات الاستعلائية غير العادلة وغير الإنسانية التي كان يمارسها بحقّهم، فضلاً عن ممارسته ضروباً من السادية في معاقبة البحّارة كالجلد بالسوط والكي بالنار وصولاً إلى القتل. ومن جانب آخر،

سيؤكّد المؤلّف أن راشد عبد الله «نجح في تقديم صورتين متمايزتين للنوخذة وقيمتين متضادتين أمكن لهما التعايش في مرحلة تاريخية واحدة، لينأى بذلك عن الموقف العام للروائيين الإماراتيين الذين آثروا الكشف عن الوجه الاستغلالي الكريه للنوخذة في محاولة منهم لتهميشه وإدانته».

بينما رواية «ساحل الأبطال» لعلي محمد راشد ستسعى إلى تقديم صورة إيجابية عنه، إذ تبدو علاقات النوخذة صالح مع البحّارة العاملين معه قائمة على الودّ والتعاون والاحترام، وليس ثمة في الرواية ما يشير إلى ممارسات قهرية أو استغلال لجهود العاملين معه على ظهر السفينة. ويؤكّد المؤلّف أنه ليس غريباً أن تبدو العلاقة على هذا النحو لأن النوخذة كان شخصية وطنية أصيلة، انخرط في صفوف المقاومين لمجابهة محاولات الأجنبي احتلال بلاده.

وبالرغم من أن النوخذة في رواية «أحداث مدينة على الشاطئ» لمحمد حسن الحربي، لم يكن شخصية فاعلة في أحداثها، إلاّ أن المؤلّف سيلتقط جملة عابرة جاءت على لسان السارد أشارت إلى النار أطلقت من جهة بيت النوخذة راشد، لكي يبيّن جهات الصراع الاجتماعي واصطفاف النوخذة إلى جانب قوى الظلم الممثلة بالأمير وحاشيته.أما بالنسبة للروائي علي أبو الريش، فقد تناول المؤلّف ثلاث روايات له،

وأوّلها رواية «تلّ الصنم» التي تخلّى فيها النوخذة عن غواصه الشجاع الذي فقد ساقه، ناكراً له ولمواقفه البطولية، ليؤكّد من ثمّ أن هذا الموقف إنما كان تعبيراً عن موقف تاريخيّ بدا فيه النوخذة رمزاً طبقياً كريهاً ومجسداً للقيم النفعية في ظلّ علاقات تفتقر إلى العدل والتكافل، ولتكتسب شخصية الأعرج بعدين أساسيين: أوّلهما أنه ضحية من ضحايا الصراع الاجتماعي، وثانيهما البعد الرمزي باعتباره كان مثالاً لقيم البطولة، وبالتالي سيورد نموذجاً لخطاب السارد المعبّر عن هذا الصراع بقوله: «بقي الأعرج التاريخ المشرق، وبقوا هم نقطة سوداء تشرق على الجبين كالمرض الخبيث،

ولكن من يملك الشجاعة في بتره؟» ليستنتج بعدها أن هذا الصراع قد أسهم في إعادة تشكيل وعي الراوي لمصلحة القوى المستقبلية في حركة التاريخ والقيم النموذجية فيه، حتّى بدت شخصية الراوي ممتلئة بإمكانات التمرّد على الواقع، وجاهزة لتغييره، بنزع الشرّ منه بطريقة إنسانية خالية من العنف. وإلى ذلك فإن صورة النوخذة ستأخذ بعداً سلبياً ترك في ذاكرة الناس ندوباً وفي أرواحهم جروحاً غائرة.

أما عن صورة النوخذة في رواية «ثنائية مجبل بن شهوان» فهي لا تختلف عن سابقتها في رواية «تل الصنم» من حيث القسوة واللاإنسانية مع العاملين معه، إلاّ أنه في هذه الرواية سيصبح صاحب أسطول تجاريّ يخوض به عباب البحر ما بين الهند و فارس وشرق أفريقيا، وسيصبح مثالاً لربّ العمل صاحب القوّة المطلقة التي تستحكم بمصائر الغواصين والبحّارة، ولكن في الوقت نفسه سيلقى تحدياً من عبد الرحمن السيلمة الذي تحدى سطوته وأجبره على الاعتذار،

ومن إحدى النساء التي كان النوخذة سبباً في موت ابنها، فقد بصقت في وجهه وما كان منه إلاّ أن «فرّ هارباً يجرّ خلفه أذيال هزيمته، مقتنعاً بضعفه»، وإن دلّ هذا على شيء، فإنما برأينا يدلّ على قرب انتهاء مرحلة النوخذة بصعود فئات جديدة تحمل وعياً جديداً رافضاً للظلم والعلاقات القهرية.

بينما في رواية «سلايم» فإن المؤلّف سوف يعتبر شخصية النوخذة غير مرئية في زمن السرد، ولكنها تظلّ مهيمنة على البنية السردية، لكونها الباعث الرئيس على أفعال الشخصية المحورية عبد الله الشديد ومواقفها السلوكية، بل وأزمتها النفسية كلّها. إذ بدا طغيانه المستعاد في ذاكرة عبد الله الشديد واضحاً على وعيه، ومدمّراً لنفسيته، ومشكلاً أفق رؤيته حاضراً ومستقبلاً،

نظراً لأنه خسر عمله بسبب سلطة النوخذة، ووفق هذا التوجه ستتبدى صورة النوخذة كرمز طبقيّ ونموذج للقهر والتحكّم واستغلال جهود العاملين معه بالرغم من أنه كان يصرّح أنه «جاء إلى هذا العالم لينقذ البشرية من الفقر» وبالتالي وعلى حدّ تعبير المؤلّف، فإن النوخذة لم يعد شخصية سردية فحسب، وإنما قوّة تاريخية وعنصراً من عناصر اختلال العلاقات الإنسانية بين البشر وانكفاء ميزان العدالة الاجتماعية لدى علي أبو الريش.

عزت عمر

* الكتاب:صورة النوخذة في الرواية الإماراتية الحديثة

* الناشر: مركز زايد للتراث والتاريخ - العين 2005

* الصفحات: 88 صفحة من القطع الكبير