فرنسا في القرن الثامن عشر

ت + ت - الحجم الطبيعي

مؤلف هذا الكتاب هو البروفيسور أوليفييه شالين أستاذ علم التاريخ الحديث في جامعة السوربون. وهو يقدم في كتابه الجديد هذا صورة بانورامية شاملة عن القرن العظيم الذي أسس الحداثة الفرنسية والأوروبية: أي القرن الثامن عشر. وينقسم كتابه إلى ثمانية فصول. الأول يتحدث عن الإطار الزمني العام للأحداث الفرنسية في ذلك القرن.

فهو يتعرض مطولا لعهد لويس الخامس عشر الذي كان طويلا جدا لأنه امتد من عام 1723 إلى عام 1774: أي أكثر من نصف قرن. وهنا يقول المؤلف ما معناه: لقد كانت سلطته تتفوق على سلطة أي ملك آخر في أوروبا. ولكن هذه السلطة لم تكن تشمل كل المناطق الفرنسية بالدرجة نفسها. فالمناطق البعيدة جدا عن العاصمة كانت غير خاضعة للسلطة المركزية كثيراً. ثم يردف المؤلف قائلاً: في الواقع أن فرنسا كانت آنذاك عبارة عن مجموعة من الشعوب المتجاورة إلى جانب بعضها البعض.

ولم تكن موحدة في شعب واحد كما سيحصل بعد الثورة الفرنسية، فقد كان لكل منطقة عاداتها وتقاليدها الخاصة. ولم تتوحد فرنسا فعلاً إلا بعد تشكيل سكة الحديد التي تشمل كل البلاد، ثم بعد اختراع القطار الذي يصل جميع المناطق الفرنسية بعضها بالبعض الآخر. وعلى هذا النحو راح سكان المناطق المختلفة في الشمال والجنوب والغرب والشرق يتعرفون على بعضهم البعض.

وهذه هي أطروحة المؤرخ الكبير فيرنان بروديل.

وبالتالي فالتكنولوجيا ووسائل الاتصالات الحديثة هي التي وحّدت فرنسا، وليس العهد القديم على عكس ما يزعم بعضهم. لا ريب في أن ملوك فرنسا حاولوا توحيدها وربطها بالعاصمة باريس كمركز لجميع المناطق ولكن وسائل الاتصالات آنذاك كانت بدائية ولا تسمح لهم بذلك. فقد كانت العربات التي تجرها الخيول هي وسيلة السير والاتصال بين العاصمة والمناطق أو بين المناطق بعضها مع البعض الآخر. وشتان ما بين عربات الخيول والقطار الذي ينهب المسافات نهبا ! القطار يربط بين أقصى الشمال وأقصى الجنوب ببضع ساعات أما عربات الخيول فتلزمها أيام عديدة لكي تربط بينها أو حتى أسابيع.

ثم يواصل المؤلف في الفصل الثاني حديثه عن العلاقات الكائنة بين الملك وشعوبه الفرنسية لا شعبه الفرنسي. وهنا يحلّل العلاقات التي كانت سائدة بين لويس الخامس عشر والنخب الأرستقراطية والإقطاعية التي تحكم الأقاليم البعيدة أو القريبة. فبعضهم كان مقربا منه أكثر من البعض الآخر.

ثم يتحدث المؤلف أيضا عن الحروب الداخلية أو الخارجية التي اضطر هذا الملك إلى خوضها إما من أجل توسيع أراضيه وفتح أراض جديدة وضمها إلى فرنسا، أو من أجل إخضاع التمرد أو العصيان الذي قد يحصل ضده في بعض المناطق النائية. فأحيانا كان يحصل تمرد على السلطة المركزية ومحاولة استقلال من طرف بعض كبار الإقطاعيين.

أما الفصل الثالث من الكتاب فمكرس لدراسة الإصلاح الديني الكاثوليكي الذي جاء كردّ فعل على الإصلاح الديني البروتستانتي. كما ويتحدث عن المعركة التي خاضها رجال الدين ضد الفلاسفة الذين أدخلوا الأفكار الجديدة إلى فرنسا.

وهنا يقول المؤلف ما معناه: ما انفك رجال الدين التابعون للمذهب الكاثوليكي يخوضون المعركة ضد المذهب البروتستانتي الذي كان يعتبر بمثابة الهرطقة أو الزندقة. ولكن بدءًا من منتصف القرن الثامن عشر أخذ يلوح في الأفق خطر جديد: ألا وهو خطر الفلاسفة وأفكارهم المضادة للدين المسيحي.

فقد تجرأ بعضهم على إنكار الوحي والمعجزات الواردة بكثرة في الإنجيل. وقد اضطر للهرب إلى برلين بعد أن انكشف أمره خوفا من الاعتقال والتعذيب وذلك لأن سطوة الأصوليين المسيحيين آنذاك كانت قوية جدا. وكان الملك ينفذ لهم كل ما يريدون. فإذا قالوا له بأن هذا المفكر كافر أو قليل الدين والإيمان أمر بسجنه أو حرمه من وظيفته ومصدر رزقه.

ثم هاجم مطران باريس كتب جان جاك روسو عن الدين ورد عليه هذا الأخير في نص شهير. كما وهاجم سيادة المطران الموسوعة الفلسفية التي كان ينشرها ديدرو بالتعاون مع فريق بحث كامل. وقال إنها تنشر الإلحاد والأفكار الهدامة المضادة للنظام الملكي والعقائد المقدسة.

واشتعلت المعارك عندئذ بين الكهنة والفلاسفة على أوسع نطاق. وهي المعارك التي أدت إلى تنوير العقول في أوروبا ولغم الأسس اللاهوتية لمشروعية النظام القديم. ومعلوم أن الكهنة المسيحيين كانوا يخلعون الشرعية الإلهية على ملك فرنسا أثناء تنصيبه كملك في الكاتدرائية.

ومقابل ذلك كان الملك يتعهد بحماية الدين المسيحي ورجاله وضرب خصومهم بيد من حديد. وهذا هو معنى اللاهوت السياسي الذي انتقده سبينوزا وفلاسفة التنوير الآخرون. فاللاهوت المسيحي يدعم السلطة السياسية، والسلطة السياسية تدعم اللاهوت وترتبط به بشكل لا ينفصم. وعلى هذا النحو تحصل العلاقة بين الملك ورجال الدين وتتوثق عراها بشكل لا ينفصم.

وقد استطاع رجال الدين سجن العديد من الشعراء والمفكرين في سجن الباستيل بعد أن اتهموهم بالزندقة والخروج على مبادئ الدين. وهذا ما حصل لفولتير وسواه.

أما الفصل الرابع من الكتاب فمخصص لانتصار التنوير في فرنسا. ولكنه يطرح الموضوع على صيغة التساؤل لا الإثبات مما يدل على شكه في انتصار التنوير في تلك الفترة. فالواقع أنه ابتدأ وترعرع في القرن الثامن عشر ولكنه لم ينتصر فعلا إلا في القرن التاسع عشر. منذ بداية هذا الفصل يطرح المؤلف السؤال على النحو التالي:

هل حقا أن التنوير انتصر في فرنسا إبان القرن الثامن عشر؟ ويجيب عليه قائلا: من الصعب جدا أن نقدم جوابا واحدا أوتبسيطيا على هذا السؤال. كل شيء يعتمد على ما ندعوه بالأنوار.

فإذا ما استخدمنا الكلمة بصيغة المفرد، أي تنوير، فإنما كانت تعني نور الإيمان في القرن السابع عشر، أو النور الطبيعي للروح والعقل عند ديكارت مثلاً.

ولكن بدءًا من منتصف القرن الثامن عشر، أي من ظهور الخطاب الافتتاحي للموسوعة الفلسفية على يد الفيلسوف دلامبير فإن الكلمة بصيغة الجمع أصبحت تعني انتشار أنوار العقل في العالم كله للقضاء على الخرافات والعقائد المتعصبة والغيبية. والواقع أن المعنى الفرنسي لكلمة التنوير أو الأنوار يعني ما يلي: روح الحرية المضادة للتراث المسيحي، والأحكام الطائفية المسبقة والراسخة في العقول، وكذلك المضادة للعرش والنظام الملكي.

وبالتالي فالمعركة الفلسفية التي خاضها عصر التنوير الكبير كانت تهدف إلى تهديم النظام القديم وإحلال نظام جديد محله.

وهذا ما أدى في نهاية المطاف إلى اندلاع الثورة الفرنسية التي جاءت كتتويج لحركة التنوير. والواقع أن التعصب الديني المسيحي كان قويا جدا آنذاك.

وكان يخنق العقول من كثرة تركيزه على الممنوعات والمحرمات في الفكر والسلوك. فأي خروج على الطقوس الدينية كان يعتبرها محرما، وأي احتجاج على رجال الدين كان يعتبر كفرا...

ومعلوم أن الكنيسة المسيحية كانت تسيطر آنذاك على نظام التعليم كله. وكانت هي التي تشكل عقول التلاميذ منذ الصغر. وبالتالي فإن الثورة عليها لم تكن أمرا ميسورا.

ينبغي العلم بأن ديكارت تربّى في مدارس اليسوعيين، أي الإخوان المسيحيين، وكذلك الأمر فيما يخص فولتير وغيره من الفلاسفة.

ولكنهم تمرّدوا على هذا التعليم التقليدي القروسطي فيما بعد عندما اكتشفوا الحقيقة في كتب العلم والفلسفة.

والواقع أن هناك عدة عوامل ساهمت في تشكيل حركة الأنوار الفرنسية. نذكر من بينها التعصب الشديد للكنيسة الكاثوليكية ضد البروتستانتيين واضطهادهم وطردهم من البلاد في عهد لويس الرابع عشر. فالتعصب الطائفي آنذاك كان على أشده ليس فقط ضد اليهود أو المسلمين أو الأديان غير المسيحية، وإنما كان قويا جدا أيضا ضد المذاهب المسيحية غير الكاثوليكية.

نقول ذلك ونحن نعلم أن المذهب الكاثوليكي البابوي الروماني كان يعتبر نفسه المذهب الوحيد الصحيح في المسيحية. وكان يعتبر أتباع المذهب البروتستانتي أو حتى الأرثوذكسي بمثابة الزنادقة الخارجين على الإيمان المسيحي الصحيح والعقيدة القويمة. وضد هذا التعصب الأعمى للبابا والفاتيكان والمذهب الكاثوليكي نهض فلاسفة التنوير وخاضوا حربا ضروسا مع الكهنة والمطارنة والخوارنة. وعن هذه المعركة الفكرية تمخضت الحداثة التي تحكم أوروبا اليوم ومنذ سنوات طويلة.

ثم يردف المؤلف قائلاً: إن نقد المسيحية كان الشغل الشاغل لفلاسفة من نوع فولتير، وديدرو، ودلامبير، وروسو وعشرات غيرهم. صحيح أن عدد الفلاسفة كان محدودا ولا يتجاوز بضع عشرات في كل أنحاء فرنسا وبخاصة في باريس، ولكنهم كانوا متحمسين جدا لأفكارهم ومستعدين لخوض المعركة على المكشوف مع رجال الدين.

وقد دفعوا الثمن باهظا أحيانا. ففولتير سجن في الباستيل قبل أن يهرب إلى انكلترا ثم هولندا ثم ألمانيا ويعيش معظم حياته خارج حدود الأراضي الفرنسية. وديدرو سجن أيضا بعد أن نشر كتابه الذي يشكك بالعقائد التقليدية للمسيحية. ولولا تدخل بعض الشخصيات النافذة لقضى حياته كلها في السجن.

ولذلك أصبح حذرا بعد هذه التجربة المرة ولم يعد ينشر كل ما يكتبه. بل إن نصف مخطوطاته لم تنشر إلا بعد موته. ولهذا السبب فإن شهرة ديدرو التي نعرفها حاليا لم تتشكل إلا في القرن التاسع عشر ولم تكن معروفة في حياته. وهناك فلاسفة اغتيلوا من قبل المتعصبين لأنهم لم يستطيعوا الهرب في الوقت المناسب.

والواقع أن مشروع الموسوعة الفلسفية الضخم هو الذي ساهم في نشر الأفكار التنويرية في فرنسا. وفي البداية كانوا يريدون ترجمة الموسوعة الانجليزية فقط. ولكنهم غيروا رأيهم لاحقا واختاروا تأليف موسوعة فرنسية جديدة ومبتكرة. وكانت تحتوي على كافة العلوم والمعارف المتوافرة في ذلك العصر.وقد أشرف عليها كلّ من الفيلسوفين الكبيرين ديدرو ودلامبير. وكلاهما كان متحمسا لمشروع التنوير أشد التحمس وكارها لرجال الدين والأصوليين المسيحيين المتعصبين.

وقد استطاع هؤلاء إيقاف المشروع أكثر من مرة بعد أن اشتكوا عليه لدى السلطات العامة. واتهموه بأنه مشروع كفر وفسوق وخروج على سلطة الدين وسلطة الملك في آن معا. ولكن ديدرو كان يعود إلى المعمعة من جديد بعد أن يسمحوا له بإصدار جزء جديد من الموسوعة.

وهكذا دواليك...

* الكتاب: فرنسا في القرن الثامن عشر

* تأليف: أوليفييه شالين

* الناشر: بيلان ـ باريس 2006

* الصفحات : 328 صفحة من القطع الكبير

La France au XVIII siècle

Olivier Chaline

Belin- Paris 2006

p.328

Email