كتب في الذاكرة

ديوان النابغة الذبياني

ت + ت - الحجم الطبيعي

النابغة الذبياني: هو زياد بن معاوية بن يربوع وهو ذبياني أباً وأماً، وكان يكنّى بأبي أمامة وأبي ثمامة، وهما ابنتاه، كما كان يلقب بالنابغة، وبهذا اللقب اشتهر، ولعل مرد ذلك الى نبوغه في شعره وتفوقه فيه. وتظهر قبيلة «ذبيان» على مسرح التاريخ الجاهلي مع حرب «داحس والغبراء» التي نشبت بينها وبين أختها «عبس» واستمرت نحو أربعين عاماً، امتدت فيما يظهر من سنة 658 إلى 608 للميلاد.

كان النابغة من أشراف «ذبيان» وقد يكون في مصاهرة «يزيد» أخي «هرم بن سنان» له، وهو من أشراف «ذبيان» ما يقطع بذلك، ومعروف ان قبائل «نجد» كانت تدين بالولاء للمناذرة، وكانت تدخل ذبيان في هذا الولاء، فطبيعي ان يقصد شاعرها النابغة «النعمان بن المنذر» وان يضفي عليه مدائحه، وقد سرّ النعمان بوفوده عليه فقربه منه ونادمه، حتى أصبح شاعره الفذ.

على ان حادثاً اضطره الى مغادرة بلاط المناذرة والتوجه الى بلاط الغساسنة، اذ أوقعوا بذبيان وأحلافهم وقعة منكرة، ولم يجد «النابغة» بداً من أن يسعى الى الغساسنة يمدحهم، حتى يكفوا عند قومه، ويردوا الحرية الى من سبوه منهم، وقد مدحهم مدحاً رائعاً فعفوا عمن أسروه.

وبذلك كان ذنب «النابغة» عظيماً عند المناذرة، وبخاصة عند ملكهم «النعمان بن المنذر». وبذلك بدأ «النابغة» في اعتذاراته المشهورة، التي قدمها إلى «النعمان» فعفا عنه، وعاد إلى بلاطه من جديد.

ولكن الروايات التي رويت عن مفارقة «النابغة» لبلاط «النعمان بن المنذر» كثيرة، ومنها خوفه على حياته، بعد أن وضع بعض الشعراء على لسانه شعراً هجائياً في النعمان. والرواية الأكثر انتشاراً هي أن «النابغة» وصف زوجة «النعمان، المتجردة» وصفاً استقصى فيه جميع أعضائها فغار منه «المنخل اليشكري» وكان يهواها، فوسوس للملك أن هذا الوصف لا يقوله إلاّ من جرّبه، فغضب النعمان، وأهدر دمه، فهرب النابغة إلى الغساسنة.

وجميع أخبار «النابغة» تدل على أنه كان سيداً شريفاً من سادات قومه وكان على دين قومه، يتعبّد «العزّى» وغيرها من آلهتهم الوثنية، وكان في شعره حكمة واضحة، ويروي أنه ممن حرّم الخمر والأزلام في الجاهلية.

وقد تبوأ مكانة شعرية عظيمة، إذ كان الشعراء في الجاهلية، يعرضون عليه في المواسم والأسواق أشعارهم، قال صاحب الأغاني: «كان يضرب للنابغة قبّة من أدَم بسوق عكاظ، فتأتيه الشعراء، فتعرض عليه أشعارها» وحدث ذات مرة أن أنشده الأعشى ثم حسان بن ثابت ثم أنشدته الخنساء، فقال، والله لولا أن أبا بصير ـ الأعشى أنشدني لقلت إنك أشعر الجن والإنس فقام حسان وقال: والله أنا أشعر منك ومن أبيك، فقال له النابغة: يا ابن أخي أنت لا تحسن أن تقول:

فإنك كالليل الذي هو مدركي

وإن خلتُ أن المنتأى عنك واسع

وقد رجع «النابغة بعد موت «النعمان بن المنذر» سنة 602 ميلادية إلى قبيلته وأمضى فيها بقية حياته إلى أن توفي قرابة سنة 604م قبل أن تنتهي حروب داحس والغبراء سنة 608م.

اشتهر «النابغة» من شعراء العصر الجاهلي بأنه من الشعراء الذين يجودون شعرهم وينقحونه، بل لا يزال يثقفه ويصقل فيه حتى يستوي اللفظ والديباجة الجزلة، ولعل في مديحه للغساسنة وبخاصة قصيدته البائية ما ينم على أنه كان يتخير ألفاظه ويعرف كيف ينوع في معانيه وكيف يشكل صورته وهو يستهلها بوصف طول الليل، وما تجمع عليه من هموم:

كليني لهمّ يا أميمة ناصب

وليل أقاسيه بطيء الكواكب

تطاول حتى قلت ليس بمنقضٍ

وليس الذي يرعى النجوم بآيب

ولعل اعتذاريات النابغة من أجمل وأجود الشعر في العصر الجاهلي، فقد استعان النابغة بموهبته في اختراع الصور والمعاني ليقدم لنا قصائد تعد من الروائع لما فيها من صدق اللهجة وسهولة اللفظ وحسن الديباجة وقد أسعفه في ذلك ذوقه الحضري، الذي خلصه من خشونة البدو ومن الأنفة الجامحة.

Email