من المكتبة العالمية

برلين الجديدة: الذاكرة ، السياسة , المكان

ت + ت - الحجم الطبيعي

مؤلفة هذا الكتاب هي الباحثة كارين إى. تيل أستاذة علم الجغرافيا في جامعة لندن وجامعة مينيسوتا بالولايات المتحدة الأميركية. وهي هنا تقدم كتابا متكاملا عن مدينة برلين التي أصبحت مؤخرا عاصمة ألمانيا الموحدة. فهي تدرس أوضاع هذه المدينة الكبيرة من جميع النواحي: الجغرافية، والتاريخية، والفنية، والجمالية، والسياسية...

ومنذ البداية تقدم لنا المعلومات الأساسية عن برلين وتقول بأن مساحتها تبلغ حوالي 892 كلم وأما عدد سكانها فيصل إلى ثلاثة ملايين ونصف تقريبا. وهي أكبر مدينة ألمانية. وبرلين تقع على ملتقى نهرين هما: نهر «سبري» ونهر «هافل». ومعلوم أن «بون» كانت هي عاصمة ألمانيا الغربية قبل سقوط الشيوعية وتوحيدها مع ألمانيا الشرقية. وكانت برلين مقسومة إلى قسمين: برلين الغربية، وبرلين الشرقية. ولكن كل هذه المأساة أو المهزلة انتهت الآن، وأصبح الشعب الألماني موحدا.

ثم تردف المؤلفة قائلة: إن معاهدة التوحيد، أي توحيد ألمانيا، أعادت إلى برلين مكانتها التاريخية كعاصمة لألمانيا. ولكن أهالي بون لم يقبلوا فورا بنقل العاصمة من مدينتهم إلى برلين. وجرت مناقشات صاخبة بين أنصار كلتا المدينتين انتهت بانتصار برلين. وأصبحت العاصمة الفعلية ومقر الحكومة الألمانية بدءًا من عام 1999 ـ 2000.

وقد تأسست برلين عام 1200، أي قبل ثمانمائة عام. وبالتالي فهي مدينة قديمة وعريقة تاريخيا. وعندما اندلع الإصلاح الديني في ألمانيا على يد مارتن لوثر لقي نجاحا منقطع النظير في برلين وتحولت عندئذ من المذهب الكاثوليكي إلى المذهب البروتستانتي. ولكن حرب الثلاثين عاما التي جرت بين هذين المذهبين (1618 ـ 1648) أنهكت برلين ودمرتها فعلا وقتلت شبابها.

وكانت هذه هي أول مرة تدمر فيها برلين ولكنها لن تكون الأخيرة! ثم انتفضت برلين من رمادها كطائر الفينيق وأعيد بناؤها وتم تجديد عمرانها بكل حيوية ونشاط. ثم توسعت وكبرت في ظل ملوك بروسيا وأصبحت عاصمة ألمانيا الشمالية. وفي ظل الملك فريديريك الكبير (1740 ـ 1786) أصبحت برلين إحدى عواصم الثقافة والفن في أوروبا. ومعلوم أن هذا الملك الجبار كان مستبدا مستنيرا على عكس ملك فرنسا لويس الخامس عشر الذي كان مستبدا أصوليا وظلاميا.

ولهذا السبب فإنه جذب إلى بلاطه كبار علماء أوروبا ومثقفيها وفي طليعتهم فولتير. ومعلوم أنه كان صديقا للملك حتى قبل أن يعتلي العرش ثم استمرت هذه الصداقة الفكرية بعدئذ على الرغم من كل التقلبات والخيبات والمشاكل والخلافات.

وفي القرن التاسع عشر كبرت برلين وتحولت إلى مدينة صناعية. وانتشرت فيها مصانع الحديد والنسيج في آن معا. وبعد أن وحد بسمارك ألمانيا حول بروسيا أصبحت برلين عاصمة الإمبراطورية الألمانية عام 1871. ثم حصلت الحرب العالمية الأولى وهزمت ألمانيا على إثرها من قبل فرنسا وانكلترا.

ولكن برلين ظلت عاصمة على الرغم من انهيار الإمبراطورية الألمانية وحلول جمهورية «؟ايمار» محلها. ثم ظلت برلين عاصمة ألمانيا في ظل النازيين بعد صعود هتلر إلى سدة السلطة. ثم تعرضت برلين للقصف الجوي المكثف من قبل طيران الحلفاء. وأدى هذا القصف إلى تدمير الكثير من معالمها التاريخية وبناياتها الرائعة.

يضاف إلى ذلك أن القوات السوفييتية زحفت عليها عام 1945 حيث جرت المعركة النهائية التي أدت إلى سقوط النازية وانتحار هتلر. وأدت هذه المعارك إلى إصابة المدينة بالكثير من الدمار. هل نعلم بأن عدد سكان المدينة سقط بين عامي 1939-1945 بمعدل النصف تقريبا!

فقد كان قبل بدء الحرب العالمية الثانية أربعة ملايين وثلاثمائة ألف شخص فأصبح بعدها مليونين وثمانمائة ألف شخص فقط! نعم لقد كلفت المغامرة النازية ألمانيا كثيرا.

وهذا هو التدمير الثاني لبرلين بعد التدمير الذي حصل أثناء حرب الثلاثين عاما. ومع ذلك فإن برلين كانت في كل مرة تنهض على قدميها وتعيد بناء نفسها وتصبح مزدهرة أكثر من ذي قبل. ولكن برلين لم تكن الأكثر تعرضا للدمار في ألمانيا.

فالحلفاء ركزوا قصفهم الجوي على فرانكفورت وكولونيا ثم على هامبورغ ودريسدن بشكل خاص. وكانت النتيجة كارثة. مهما يكن من أمر فقد أعيد ترميم كل الأحياء والبنايات المضروبة. والواقع أن برلين الحالية لا تختلف كثيرا عن برلين السابقة من حيث الآثار التذكارية لأنهم رمموها كلها.

ثم تردف المؤلفة قائلة: وفي نهاية الحرب قسمت برلين إلى أربعة أقسام، وكل قسم ممثل من قبل دولة أجنبية معينة: أمريكا، انكلترا، فرنسا، الاتحاد السوفييتي. وهكذا دفع الشعب الألماني ثمن المغامرة الهتلرية غاليا. ثم سيطر السوفييت على برلين الشرقية بل وحاولوا أن يضموا إليها برلين الغربية.

وقد ضربوا عليها الحصار الكامل عام 1948. ولكن الأمريكان ردوا عليهم فورا عندما راحوا يبنون جسرا جويا لإمدادها بالغذاء والدواء وكل شيء. ثم انفك الحصار عنها عام 1949. وفي عام 1961 بنى السوفييت جدار برلين لمنع سكان برلين الشرقية من الهجرة إلى برلين الغربية. ومعلوم أن النظام الرأسمالي أكثر جاذبية ورفاهية من النظام الشيوعي المتقشف. ولهذا السبب انهارت الشيوعية أخيرا وانهار معها جدار برلين عام 1990 وتم توحيد ألمانيا من جديد.

وبالتالي فتاريخ هذه المدينة مليء بالأحداث والتقلبات والفواجع والانكسارات والانتصارات. والآن أصبحت برلين من أحدث العواصم الأوروبية بعد أن بنوا فيها المجمع الحكومي الضخم الذي يضم المستشارية: أي مقر رئاسة الوزراء والمستشار الألماني. وهو مبنى ينتمي في الفن المعماري إلى ما يمكن أن ندعوه بما بعد الحداثة. ثم تشكلت برلين الجديدة على أنقاض برلين القديمة وإلى جوارها. فهناك المدينة العتيقة التي تعود إلى مئات السنين. وهناك المدينة الجديدة التي بنيت مؤخرا.

ثم تتحدث المؤلفة عن بعض الشخصيات الأدبية والفكرية التي عاشت في برلين وتقول بما معناه: في نهاية القرن الثامن عشر ظهرت شخصيات أدبية كبرى من أمثال فيلسوف التنوير ليسنغ (1729-1781)، وفريديريك شليجيل (1772 ـ 1829) وسواهما. وقد دشنا المناقشات الفكرية حول الفلسفة والدين واللغة بشكل خاص.

وكان ليسنغ يقول بأن التفسير القديم للدين المسيحي لم يعد قادرا على إشباع حاجياتنا الراهنة. وبالتالي فنحن بحاجة إلى تفسير عقلاني وتنويري جديد. ووصل به الأمر إلى حد القول بأن الفلسفة تغني عن الدين. فهي تحتوي على المبادئ الأخلاقية نفسها ولكن بدلا من أن تتوصل إليها عن طريق الوحي راحت تصل إليها عن طريق العقل. وقال بأن الدين المسيحي كان يتناسب مع طفولة البشرية أما الفلسفة فتتناسب مع نضجها.

ومن أهم الشخصيات التي عاشت في برلين في الثلث الأول من القرن التاسع عشر ينبغي أن نذكر هيغل. وهو أكبر فيلسوف في ألمانيا بعد كانط. بل والبعض يضعونه على قدم المساواة معه. ومعلوم أنه احتل كرسي الفلسفة في جامعة برلين بعد أن شغر على إثر وفاة فيخته.

وقد أصبح درس هيغل من أهم الدروس في جامعة برلين العريقة. وكان يجذب إليه عددا غفيرا من الطلاب، وأصبح هيغل عندئذ أستاذ الجيل وراحت السلطة تتقرب منه بعد أن ذاع صيته وانتشرت شهرته في كل أنحاء ألمانيا. وقد حاول مجاملة السلطة خوفا من غضبها واتقاء لشرها. ولكن البعض الآخر يقول بأنه استسلم للإغراءات المادية وحياة الرفاهية بعد أن أغدقت عليه السلطة الهدايا والهبات.

ولكن الرجل لم يتخل عن مبادئه ولا عن فكره النقدي المضاد للكهنوت المسيحي الرجعي. والدليل على ذلك أنه تعرض للمراقبة والمضايقات أكثر من مرة. وكانت رسائله تفتح من قبل الرقابة البوليسية، وكان يعرف ذلك. وهناك شخص آخر مشهور درس في جامعة برلين ويدعى: البرت اينشتاين. وهناك بلور نظرياته العلمية الشهيرة وبالأخص نظرية النسبية. ولكنه اضطر إلى مغادرة برلين مرغما عام 1933 بعد وصول هتلر إلى السلطة وبعد أن هددوه أكثر من مرة.

وعندئذ هاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية وسلمهم هناك أسرار القنبلة الذرية وكيفية صناعتها. وهكذا خسره هتلر وأخطأ كثيرا عندما أرغمه على مغادرة بلاده وجامعة برلين بالذات.

ولا ينبغي أن ننسى زعيم المسرح الألماني والكاتب الشهير برتولد بريخت (1898 ـ 1956). فقد عاش في برلين من عام 1920 وحتى عام 1933. وبعدئذ فرّ منها هربا من النازية التي كانت تلاحق الاشتراكيين والشيوعيين. وقد عاش في الولايات المتحدة حتى نهاية الحرب. ولم بعد إلى برلين الشرقية إلا عام 1948 لكي يدير مسرحها.

ويمكن أن نذكر أيضا الممثلة الشهيرة مارلين ديتريش التي ابتدأت حياتها السينمائية في برلين. وهناك لعبت أدوارها الأولى وأصبحت شهيرة قبل أن تنتقل إلى الولايات المتحدة وإلى هوليوود بالذات كما يفعل معظم الفنانين.

ولا ينبغي أن ننسى الموسيقار الشهير ريتشارد شتراوس (1864 ـ 1949). فقد كان مديرا للأوبرا في برلين لمدة عشرين سنة بين عامي 1898 ـ 1917. وفيها أبدع أفضل سيمفونياته ومقطوعاته الموسيقية.

الكتاب :برلين الجديدة: الذاكرة، السياسة، المكان

الناشر: مطبوعات جامعة مينيسوتا 2005

الصفحات: 296 صفحة من القطع الكبير

The new Berlin

Memory, Politics, Place

Karen E.Till

University of Minnesota Press 2005

P. 296

Email