من المكتبة العالمية

تاريخ اسكتلندا

ت + ت - الحجم الطبيعي

ساهم في تأليف هذا الكتاب العديد من الباحثين المتخصصين في مختلف الفروع، وذلك تحت إشراف المؤرخة جيني ورمولد. ومنذ البداية يقول لنا مؤلفو الكتاب ما معناه: إن اسكتلندا هي جزء من بريطانيا العظمى، بل ولولاها لما كان لهذه التسمية من معنى.ولكن لا ينبغي الاعتقاد بأن شعبها إنجليزي بالخاص، وإنما هو يمتلك مقومات قومية وخصوصية.

في الواقع ان اسكتلندا كانت أمة مستقلة بذاتها حتى بداية القرن الثامن عشر. بعدئذ وتحت ضغط ظروف عديدة راحت تنضم إلى إنجلترا، لكي تشكل ما ندعوه: ببريطانيا العظمى.

وهي تقع في شمال بريطانيا وعاصمتها مدينة مشهورة بجامعاتها وعلومها وفنونها: أدنبرة، وتبلغ مساحة اسكتلندا (77) ألف كيلو متر مربع، أي سبعة أضعاف مساحة لبنان أو أكثر، وقد حافظت تلك البلاد على استقلالها على مدار القرون بشكل كلي أو جزئي على الرغم من محاولات إنجلترا ضمها إليها.

ولم تنجح هذه المحاولات فعلاً إلا عام 1707، أي في بداية القرن الثامن عشر كما قلنا. أما قبل ذلك فكانت اسكتلندا بلاداً مستقلة بذاتها، ولها هويتها الثقافية واللغوية والتاريخية الخاصة بها. بالطبع فإن عداءها لانجلترا لم يبلغ حد عداء الإيرلنديين لها، لأن المذهب الديني يجمع بينهما. وهو المذهب البروتستانتي.

أما مذهب الإيرلنديين الغالب فكان المذهب الكاثوليكي. ثم يتحدث المؤلفون بعدئذ عن التاريخ القديم لاسكتلندا، ويقولون: كانت اسكتلندا كاثوليكية كبقية دول أوروبا قبل ظهور الإصلاح الديني على يد لوثر وكالفن. ولكنها تحولت إلى المذهب البروتستانتي الجديد، كما حصل لإنجلترا أو شمال ألمانيا وهولندا والسويد ودول أخرى عديدة.

أما فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال وعموم الدول اللاتينية فقد ظلت وفية للمذهب الكاثوليكي البابوي الروماني: أي لمذهب البابا. هذا في حين أن البروتستانتيين يكرهون البابا كرهاً شديداً، ولا يعترفون به.

ويمكن القول إن «جورج ويشارت» كان أول مفكر اسكتلندي يدخل أفكار الإصلاح الديني إلى تلك البلاد. وكان ذلك بعد عودته من رحلة إلى سويسرا، حيث تعرَّف على أفكار المذهب الجديد التي كانت قد انتشرت هناك، بل وسيطرت على مناطق عديدة.

وقال هذا المفكر بأن على المسيحيين أن يتخلوا عن الشوائب التي لحقت بالدين، وأن يلتزموا بالكتاب المقدس فقط: أي التوراة والإنجيل.

وأما ما عدا ذلك فهو بشري غير ملزم لأنه معرض للصواب والخطأ. وبالتالي فالبابا ليس معصوماً على عكس ما يدعي المذهب الكاثوليكي، وإنما هو بشر قد يصيب وقد يخطئ، بل وأنه أخطأ في أحيان كثيرة وارتكب الفواحش والآثام. فلماذا نظل نتعلَّق به كالبهائم؟

بالطبع فإن هذه الأفكار كانت تعتبر مهرطقة أو زنديقة بالنسبة لذلك الزمان. ولهذا السبب فقد أدين هذا المصلح الديني بتهمة الزندقة من قبل الكنيسة الرسمية التي أعدمته. وهكذا دفع حياته ثمناً لأفكاره.

ولكن أفكاره لم تمت معه. فقد استلمها تلميذه «جون كنوكس» الذي انتقل إلى إنجلترا لكي يعيش بسلام في ظل الملك إدوارد السادس. وبعد موت هذا الأخير استلمت الحكم ملكة متعصبة جداً للكاثوليك ودموية تدعي: «مريم (ماري) الدموية!

ولذلك هرب كنوكس إلى ألمانيا ثم إلى جنيف ولم يعد إلى اسكتلندا إلا عام 1555، وهو مفعم بالأفكار الإصلاحية البروتستانتية.

ثم سافر مرة ثانية إلى جنيف وأقام فيها بين عامي 1556 ـ 1559 وبعد عودته إلى بلاده اقتنع بضرورة تنظيم «مدينة الله»: أي إصلاح الدين ونشر الفكر الصحيح.

هكذا نلاحظ أن الإصلاح الديني الاسكتلندي هو جزء لا يتجزأ من الإصلاح الديني الأوروبي ككل. وقد انتصر هذا الخط الإصلاحي في اسكتلندا بعد ان انضمت إليه مجموعة كبيرة من النبلاء الإقطاعيين وعلية القوم.

وفي عام 1560 ذهب البرلمان الاسكتلندي مسافة أبعد في تبني الإصلاح الديني عندما أدان الفاتيكان وسلطة البابا وأعلن عدم الاعتراف بها بعد الآن. ومعلوم أن بابا روما كان يسيطر على كل أنحاء أوروبا في ذلك الزمان على الأقل من الناحية الدينية.

وبعدئذ طلب البرلمان من «كنوكس» هذا وخمسة لاهوتيين كبار آخرين ان يبلورا العقيدة الجديدة بشكل واضح لكي يفهمها الشعب ويتبناها على العقيدة الكاثوليكية القديمة. وقد تجاوب المصلح الديني الكبير «كنوكس» مع طلب البرلمان ونشر عدة كتب لاهوتية. وهي التي أسست المذهب البروتستانتي في اسكتلندا وجعله ينتشر وينتصر.

وقال المصلح الاسكتلندي الكبير جون كنوكس: ينبغي على مجتمع البشر أن يتطابق مع مدينة الله في السماوات ولكي يتطابق معها ينبغي على الناس ان يحترموا المبادئ الدينية الواردة في الكتاب المقدس وقال بان أي خروج عن الأخلاق الحميدة ينبغي ان يعاقب.

وهكذا أسس المذهب الطهري البروتستانتي الشديد التقشف والذي يتميز بنزعة أخلاقية صارمة وقد دفعت مريم الدموية ثمن هذا الإصلاح الديني لأنها لم تفهم رغبة شعبها في تغيير مذهبه واعتناق مذهب آخر جديد.

وإنما ظلت متعلقة بالمذهب الكاثوليكي التابع لبابا روما. لم تفهم ان الشعب الاسكتلندي كان متعطشا للتغيير، للإصلاح، للخروج من فساد رجال الدين وانحرافهم عن الإنجيل وفي مقدمتهم البابا نفسه. فالدين كان يقول شيئاً ورجال الدين يفعلون شيئاً آخر.

ومعلوم أن ماري ستيوارت (أو مريم الدموية) حكمت اسكتلندا أكثر من ربع قرن: أي من عام 1542 إلى 1567 بعدئذ هربت إلى انجلترا حيث التجأت إلى حماية ملكتها اليزابيث الأولى.

ولكنهم في النهاية وصلوا إليها وأعدموها تحت المقصلة بسبب فساد أخلاقها الشخصية وتشبثها الشديد فالمذهب الكاثوليكي الذي أصبح أقلية قليلة في اسكتلندا بعد انضمام الشعب إلى حركة الإصلاح الديني.

ثم يردف المؤلفون قائلين بما معناه: لا يمكننا ان نفهم الشخصية الاسكتلندية بشكل حقيقي إذا لم نعد إلى تلك الفترة البعيدة من التاريخ.

ينبغي ان نعود إلى القرن السادس عشر وتلك الأحداث الدموية الساخنة التي انتقلت بالبلاد من عقيدة إلى عقيدة لكي نفهم الشخصية الاسكتلندية المعاصرة.

ولكن هذا التغيير الكبير دينيا انعكس على المجال السياسي. وهنا تكمن أهميته الكبرى، بالمذهب الكاثوليكي كان مرتبطا تاريخيا بالاستبداد والحكم المطلق. أو قل كان يخلع المشروعية الإلهية على الملوك المستبدين الذين يحكمون أوروبا بيد من حديد ويعتبرون أنفسهم ظل الله على الأرض. وهذه هي حالة لويس الرابع عشر في فرنسا مثلا.

أما المذهب البروتستانتي الإصلاحي فكان أكثر ليبرالية وأميل إلى استشارة الشعب وأخذ رأيه في شؤون الحكم. وبالتالي فالخلاف المذهبي وجد له ترجمة سياسية على أرض الواقع وعلى مدار التاريخ كان البروتستانتيون أكثر تقدمية من الكاثوليكيين المتحجرين.

وقد أدت كل هذه التفاعلات والصراعات الدينية والعقائديةإلى انفجار الثورة الانجليزية الأولى عام 1642 ثم الثانية عام 1688. وهاتان الثورتان هما اللتان أدتا إلى تأسيس الحداثة السياسية في انجلترا. وهكذا أصبحت بلاد شكسبير أول ديمقراطية في العالم. وكل ذلك مرتبط بالمذهب الإصلاحي البروتستانتي وانتشار الأفكار الجديدة.

ثم يردف الكتاب قائلاً: لا ريب فيه إنه تضافرت عوامل عديدة لكي تقبل اسكتلندا بأن تنضم إلى مملكة انجلترا وتشكلان معاً بريطانيا العظمى. وهذا المصطلح ظهر لأول مرة عام 1603 أي في بداية القرن السابع عشر وذلك على يد الملك جاك الأول.

من بين هذه العوامل نذكر الاشتراك في المذهب ومحاربة المذهب الكاثوليكي المعادي.

ومن بينها أيضاً حاجة اسكتلندا إلى انجلترا جارتها الجنوبية من أجل التجارة ليس فقط دائماً مع مستعمراتها أيضاً. ومعلوم أن انجلترا كانت قد أصبحت دولة استعمارية.

ومن بينها ضغط ملكة انجلترا على اسكتلندا لكي تقبل أخيراً بالتخلي عن نزعتها الاستقلالية العقيمة وتنضم إليها. وهكذا كان. فقد تحققت الوحدة الانجليزية ـ الاسكتلندية عندما قبلت أدنبرة معاهدة الوحدة عام 1707. ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن واسكتلندا تشكل جزءاً لا يتجزأ من بريطانيا العظمى.

وقد قبلت اسكتلندا آنذاك أن تلغي برلمانها القومي الذي كان ينعقد في أدنبرة. وأصبحت ترسل نوابها إلى البرلمان الانجليزي في ويستمنستر. وقد استمرت الوحدة بين الشمال الاسكتلندي والجنوب الانجليزي دون مشاكل تذكر لأن كلا الطرفين التزم بتطبيق بنود المعاهدة بدقة.

يضاف إلى ذلك ان هيمنة الانجليز لم تكن مطلقة ولا استبدادية. فقد قبلوا بأن يزيد عدد نواب اسكتلندا في مجلس العموم من خمسة وأربعين إلى اثنين وسبعين بين عامي 1707 ـ 1885. وساعد على الانصهار بين كلا الشعبين التبني الكامل للغة الانجليزية في اسكتلندا واختفاء لهجتها أو لغتها المحلية التي لم يعد يتكلمها إلا 5,1% من عدد السكان.

وبالتالي فقد حصل انسجام لغوي وثقافي بين شمال بريطانيا العظمى وجنوبها. وقد ساهمت الثورة الصناعية الانجليزية في تحسين أوضاع السكان في اسكتلندا ورفع مستوى معيشتهم.

وهذا ما زاد من تقوية أواصر الوحدة بين الطرفين. فقد ابتدأ سكان اسكتلندا يقطفون من ثمار الوحدة. وأدى هذا التحسن الاقتصادي إلى زيادة عدد سكان اسكتلندا الذي كان مليوناً فقط أثناء توقيع معاهدة الوحدة فأصبح الآن أكثر من ستة ملايين.

وقد انتشر التعليم بقوة بعد الوحدة وأدى إلى محو الأمية من البلاد وتقريباً في وقت مبكر جداً فمنذ بدايات القرن التاسع عشر كانت نسبة الذين يعرفون القراءة والكتابة تتراوح بين 85 إلى 90%.

وهي نسبة عالية جداً بالقياس إلى ذلك الزمان. هذا وقد أنجبت اسكتلندا شخصيات كبيرة في مجال العلم والفكر والآداب. يكفي ان نذكر من بينها والتر سكوت، أو الفيلسوف التنويري دافيد هيوم، أو الشاعر ييتس، أو آخرين عديدين جداً.

والواقع أن اسكتلندا شهدت عصر تنويرها في القرن الثامن عشر مثل انجلترا، بل وشهدته حتى قبل ذلك التاريخ. وهذا انتقلت من مرحلة الإصلاح الديني إلى مرحلة التنوير وحققت قفزة أخرى في مجال الحضارة والتقدم إلى الأمام.

الكتاب: تاريخ اسكتلندا

ورمولد

الناشر: مطبوعات جامعة أوكسفورد

2005

الصفحات: 402 صفحات من القطع الكبير

SCOTLAND, A HISTORY

JENNY WORMALD

OXFORD UNIVERSITY PRESS 2005

OXFORD

Email