من المكتبة العربية

غواية التراث

ت + ت - الحجم الطبيعي

حفظت الذاكرة العربية العديد من الصور المفارقة التي تتموضع في إطارها ملامح الشعر والشعراء عبر المراحل التاريخية السابقة للإسلام والمراحل اللاحقة له، ويخصص الدكتور جابر عصفور كتابه الجديد « غواية التراث » لبحث هذا الموضوع الشيق الذي يحيلنا إلى الكثير من الدلالات المهمة التي تتعلق بطبيعة التحولات التي اعترت المجتمع العربي على الصعد كافة.

مؤكدا منذ البداية أنه يجمع ما بين غواية الحب الأول التي اكتسبها عن طه حسين، وغواية النظرة المحّدثة التي تعلمها جيله من أدونيس، فالباحث يفتتح أولى الفصول بالتعيين التالي:

«هناك أكثر من صورة للشاعر في تراثنا، صورة المدّاح الذي جعل من الشعر حانوتا يدور به على طالبي المديح، وهي الصورة الغالبة التي استمرت طويلا نتيجة لتعقد العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، وصورة الشاعر اللاهي احتجاجاً على فساد حاضره السياسي الاجتماعي.

أو احتجاجا وجوديا على الموت، وصورة الشاعر الصانع الذي يرى في كمال إبداعه غاية مستقلة عن كل غاية، وصورة الشاعر الداعية الذي يوظّف شعره في خدمة اعتقاد أعم منه بالمعنى الديني أو السياسي.

ولكن كل هذه الصور بمنزلة نماذج متغيرة لاحقة، متأخرة نسبيا بالقياس إلى النموذج الأصلي الأقدم الذي بدأ به الوعي بالشاعر والشعر عند العرب».

بعد التعيين السابق يتابع الدكتور عصفور فصول كتابه محددا الخصائص الإنسانية والشعرية لتلك النماذج الأساسية التي افترضها، مبينا الأسباب والمرجعيات الاجتماعية والسياسية التي أدت إلى ظهورها.

ويبدأ من النموذج الأصلي للشاعر، فيقول: «هو نموذج الشاعر العارف بكل شيء والقادر على كل شيء، وهو نموذج ينضوي على المفارقة، فهو ناء عن البشر العاديين بالمعرفة التي يجهلونها، منذ أن أطلقت عليه العربية اسم الشاعر لأنه يشعر، أي يعلم ويعرف ويفطن، وردّت جذر الدلالة اللغوية لكلمة الشعر إلى العلم والمعرفة والفطنة التي لا تتاح إلا للكائن المتفرد.

وهذا الشاعر النائي عن الآخرين لأنه يعلم ما لا يعلمون، قريب منهم بقدرته على أن يفعل ما لا يفعلون، وأول ذلك أثره فيهم بما يبدع من شعر، ينقلهم من إلى حال، ومقام إلى مقام، وذلك في فعل أشبه بأفعال السحر».

ويرى الباحث أن هذه المفارقة التي يتأسس بها النموذج الأصلي تراثياً، تجعل منه نموذجا كليا، ينطوي على الأوجه المتعددة للكاهن والشامان والساحر والعراف والنبي والعالم والحكيم.

ولكن على النحو الذي يردّ كل هذه الأوجه إلى جذرها الذي يصل بين المعرفة والقدرة، والتي قاربت بينه وبين الكائنات غير البشرية كالجن والشياطين والأرواح الشريرة أو الخيّرة.

كما قاربت بينه وبين عناصر الطبيعة الفاعلة المقترنة بالخصب والنماء، هذه الدلالة نفسها هي التي وصلت بين الشاعر والنبي في التراث السابق على الإسلام، ولذلك كان وجود الشاعر في القبيلة من زاوية إعلان ولادته شعريا وتكريمه إبداعيا لحظة احتفالية من لحظات القبيلة.

اللحظة الأكثر دلالة على تعظيم الشاعر الجاهلي وتكريمه يجدها المؤلف في لحظة الاعتراف الشامل به وتعليق قصيدته على الكعبة حيث يطوف الحجاج.

وبهذا الخصوص يشير المؤلف إلى انه قد يرتفع عدد المعلقات إلى تسع أو عشر، لكن العدد سبعة يظل قرين النموذج الأصلي للشاعر، والصورة القديمة للمعلقات، تلك الصورة التي تحيل العدد سبعة إلى الأبعاد الاعتقادية التي تولّد منها النموذج للشاعر عند العرب، عدد السماوات والأرضين، ومرات الطواف حول الكعبة، والأيام التي تجمع في أسابيع، واكتمال فرحة العريس في الدخول على العروس.

ويؤكد المؤلف على أنه لم يكن من قبيل المصادفة أن شعراء المعلقات لم يكونوا من الشذاذ أو الصعاليك الخارجين على قبائلهم، أو المهمشين ، وإنما كانوا من أبناء الصفوة الذين هم سادة قومهم ومصدر فخرهم وديوان مجدهم.

وذلك بما يبدعونه من شعر يعبر عن الوجدان الجمعي للقبيلة، ويصوغ الحكمة التي تهتدي بها، ولا فارق هنا بين امرئ القيس الكندي ابن الملك الذي كان أول من علق شعره على الكعبة، وطرفة بن العبد البكري سيد فتيان قومه.

وهو ثاني من عُلّق شعره، وتلك مكانة لم ينحدر عنها زهير المزني ولبيد العامري وباقي أسماء الشعراء التي يعددها الرواة الذين نقل عنهم البغدادي في كتابه «خزانة الأدب» ص34.

وكما اقتصرت المعلقات على إبداع السادة فإن الذي انتخبها دون غيرها، ورفعها على غيرها من القصائد، هم أقطاب السادة من الملوك والرؤساء، وقد نقل غير واحد من الرواة في أكثر من مصدر أن الملك من ملوك العرب كان إذا استحسن القصيدة قال: علقوها وأثبتوها في خزانتي، وهي التقاليد نفسها التي نجدها حين نقرأ أن ملحمة «جلجامش» قد كٌتبت بأمر الملك آشور بن بعل، ووُضعت في قصره.

ونبّه على هذا في تذييل لوحاته التي ختمها بخاتمه، وظلت الملحمة مودعة في المعابد معلقة على طريقة المعلقات العربية.

وفي سياق بحثه عن خصائص الشعر والشعراء في العصر الجاهلي يذهب الدكتور عصفور إلى التأكيد على أن أهم سمة بارزة للشاعر في العصر الجاهلي من حيث هو نموذج أصلي، أنه صانع أسطورته الخاصة التي يستمد سرها من حضوره المستقل.

ويشع تأثيرها من خصائصه الذاتية، صوته، صدى، وجوده ومعتقده بعض صنعه، وحكمته خلق ذاتي، وإبداعه تشكيل حر يفيض بما فُطر عليه، وينطق بما يشعر به أو يعلمه، ونجد في سيرة عنترة بن شداد الموزعة بين طيات الكتاب تأكيدا على هذه المقولة، فهذا العبد الأسود قد تغلب على حالته الردية في كل مستوياتها.

وأوصلته فحولته في نزال الفرسان والشعراء إلى الحرية، واعترف به شداد سيد عبس ابنا له، وأحبته ابنة عمه جميلة الجميلات، وقاد أقرانه من فرسان العرب إلى النصر على الفرس، وارتفعت أمه زبيبة إلى رتبة الأميرات الشريفات، وتم تنصيبه سابقا على الشعراء وعلى رأسهم شعراء المعلقات الست السابقين عليه.

ظاهرة لافتة أخرى يلحظها المؤلف في هذا السياق، وهي أن الشاعر في هذا الشعر، لا ينظر إلى عالم الأشياء والحيوان والكائنات نظرا محايدا، كأن العالم منفصل عنه، مستقل في الوجود، فالعالم في عيني الشاعر الجاهلي عالم فاعل منفعل، خارجي داخلي، ذات وموضوع.

وعي للشاعر وحضور لوجوده، مرآة للأنا ومحط لتطلعها، سحر تمثيلي وأداء سحري، علاقات متجاوبة لا تنفصل فيها الأشياء عن الكائنات، أو يتباعد فيها الحيوان عن الإنسان، فالجميع في داخل الكون الذي تنطقه القصيدة الجاهلية وتومئ إليه.

وكمثال على هذه الخصوصية يأتي بيت المنخّل اليشكري: وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري. يربط الباحث التحولات التي طرأت على صورة الشاعر الجاهلي وأدواته ومكانته الاجتماعية والثقافية والسياسية بالتحولات والقيم الجديدة التي اجتاحت المجتمع العربي بظهور الإسلام، فيرى:

أن الإسلام قلّص من حجم العنصر السحري والأسطوري الذي انسرب في النموذج الأصلي للشاع، ووضع فكرة الإلهام العلوي والأسطوري في ضوء جديد، ومنع شياطين الشعراء من الانفلات العابث في وادي عبقر، وميز بين الشاعر الغاوي والشاعر المؤمن، وافتتح عهدا جديدا من علاقة الكلمة الشعرية بسلطة الدولة التي اتخذت ـ فيما بعد ـ اسم الخلافة .

وفي الوقت نفسه أسهمت هذه الخلافة في تغيير مجموعة من العناصر الملازمة للنموذج الأصلي للشاعر عبر تحولاتها الاجتماعية وصراعاتها السياسية، وذلك على نحو زاوج في نموذج الشاعر بين صورتي: «الداعية» و«النديم» وكان يعني تقليص الحرية الإبداعية للشاعر في مواجهة السلطة التي تحميه وينطق باسمها.

أيضا التأصل المتزايد للحضور المديني في المجتمع الإسلامي المتعدد المشارب والثقافات، كان يستبدل صناعة الكتابة بصناعة الخطابة شيئا فشيئا، ويستبدل الوعي الشفاهي بالوعي الكتابي، ويستبدل مركزية الشاعر (صوت القبيلة ورمزها البدوي الصحراوي المتحد) بمركزية الكاتب (صوت المدينة ورمزها الحضري المتعدد).

وأكد من أهمية الوعي الكتابي وجوده في علاقات مثاقفة متغايرة الخواص، جسدت وانطوت على الصراع الدائر بين الأجهزة الأيديولوجية للدولة المركزية والأيديولوجيات الهامشية المضادة، وذلك في كل المستويات السياسية والفكرية والفنية والأدبية.

تهامة الجندي

الكتاب: غواية التراث

الناشر: مجلة العربي ـ الكويت 2005

الصفحات : 224 صفحة من القطع

المتوسط

Email