فلسفة جديدة مختصرة

فلسفة جديدة مختصرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

مؤلف هذا الكتاب هو المفكر الفرنسي القدير ألبير جاكار. وكان قد نشر سابقاً كتاباً بعنوان: فلسفة صغيرة موجهة لغير الفلاسفة: أي لغير المختصين بالفلسفة، وذلك لكي يفهموها. وهو عبارة عن كتاب مقابلات يرد فيه على تساؤلات الباحثة الفرنسية هوغيت بلانيس. وقد صدر هذا الكتاب عام 1997. والآن يعيد التجربة من جديد مع الباحثة نفسها ويرد على أسئلتها عن شؤون الإنسان والعالم والعولمة والعلاقات بين الشمال والجنوب، الخ..

من خلال كتاب جديد نستعرضه الآن. أول شيء يلاحظه القارئ في هذا الكتاب هو أن الحكيم الفرنسي الكبير يستخدم أسلوباً مبسطاً يمكن أن يفهمه الإنسان العادي. وبالتالي فهو يبتعد عن لغة الفلاسفة العويصة والمعقدة التي لا يفهمها إلا الفلاسفة أنفسهم. وأما الشيء الثاني المهم فهو ان المؤلف يتمتع بحس إنساني عالي المستوى. وهو لا يتحدث عن مشاكل العالم من موقع المفكر الغربي المتغطرس والقوي وإنما من موقع الإنسان الذي يتحسس آلام البشر أينما كانوا.

وأما الشيء الثالث الذي يلفت الانتباه في هذا الكتاب فهو أن المؤلف يتناول قضايا حساسة تهم الجميع كقضية المواطنة والمواطن ومعناها في المجتمع الحديث، ثم قضية العقلانية واللاعقلانية، ثم مشكلة النظام العالمي الجديد في عصر العولمة والهيمنة الأميركية، ثم قضية التضامن بين البشر، ثم قضية العنف أو الإرهاب المتصاعد في عالمنا المعاصر، ثم قضية التوتاليتارية، الخ..

وفيما يخص العولمة يستشهد الباحث الفرنسي منذ البداية بعبارة رائعة للروائي الانجليزي الشهير جورج أورويل. يقول فيها: «المهم ليس أن تعيش، ولا حتى أن تنجح في الحياة. المهم هو أن تبقى النزعة الإنسانية في قلبك!».

بمعنى آخر حتى ولو امتلكت كل ثروات الأرض، حتى لو نجحت وتفوقت على جميع الآخرين، فإنك لن تساوي شيئاً يذكر إذا لم تظل إنساناً ذا مشاعر وأحاسيس إنسانية تجاه جيرانك، ومواطنيك، والجنس البشري بمجمله. إذا كنت لا تتحسس آلام الآخرين أو عذابهم وفقرهم فإنك لن تساوي شيئاً في مقياس الأخلاق والمثل العليا.

وهذا الكلام موجه إلى أميركا والغرب بشكل عام. فالغرب هو أغنى وأقوى من كل البشر الآن. ولكن ماذا تنفعه قوته إذا كان يتبع سياسة لا إنسانية تجاه الآخرين؟ ما معنى ثروته الطائلة إذا كان الآخرون يموتون من الجوع في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية ومناطق أخرى؟ ما معنى الحضارة المادية من دون الحضارة الأخلاقية والمعنوية؟ هذا هو التساؤل الذي يطرحه البروفيسور ألبير جاكار الذي يمثل الضمير الفرنسي حالياً بالإضافة إلى الأب بيير صديق الفقراء والمحتاجين والضعفاء.

أما العولمة كنظام شمولي حديث العهد فيحددها المؤلف على النحو التالي: اختصار الزمن والمسافات بل وحتى إلغاء الزمن والمسافات. ومن أجل التوضيح يضرب على ذلك المثل التالي: عندما جرت معركة واترلو الشهيرة بين الانجليز بقيادة ويلنغتون والفرنسيين بقيادة نابليون بونابرت وانتهت بهزيمة هذا الأخير لم يسمع الانجليز نتيجة المعركة إلا بعد أيام عديدة! أما الآن فإننا نسمع بالنتيجة مجرد حصولها، بل وحتى نرى مجريات المعركة أمام أعيننا على شاشات التلفزيون. وبالتالي فلشد ما تغيرت الأمور بين الأمس واليوم!

وكل ذلك بفضل الاختراعات التكنولوجية الحديثة ووسائل المعلوماتية التي تقوم على شيء واحد: موجات هرتز فعن طريقها ينقل لنا التلفزيون أي حادثة تحصل في العالم بلمح البصر، وعن طريقها ينقل لنا الهاتف المحمول صوت شخص يعيش في الصين في ثوان معدودات، وعن طريقها ينقل لنا الفاكس الأوراق المكتوبة في آخر العالم بنفس اللحظة.

وعن طريقها يصلنا الراديو أو الانترنت بشتى أنحاء العالم. وعن طريقها تنتقل الرسائل الاليكترونية بالسرعة القياسية من طرف العالم إلى طرفه الآخر .. وبالتالي فالعولمة هي أولاً نتيجة تطور وسائل الاتصال الحديثة. لاريب في ان المرحلة الأولى من العولمة حصلت في القرن لتاسع عشر عندما ظهرت القطارات والسيارات والسفن التجارية وسكك الحديد التي حلت محل الجمال والبغال والحمير وعربات الخيول ومختلف وسائل النقل التقليدية.

ولكن ما أبعد الفرق بين قطارات القرن التاسع عشر أو حتى القرن العشرين وقطارات اليوم! فالفرنسيون مثلاً اخترعوا قبل بضع سنوات القطار السريع جداً. وهو الآن يقطع المسافة بين باريس ومرسيليا بثلاث ساعات، في حين ان القطار التقليدي لم يكن يقطعها إلا بتسع أو عشر ساعات.

وبالتالي فقد ضاقت مسافات العالم إلى أقصى حد ممكن في عصر العولمة الحالية. وهذا هو المعنى الأولي للعولمة. ولكن هناك معنى ثان يتمثل في انتقال السلع والبضائع والبشر من بلد إلى بلد ومن قارة إلى قارة من دون حواجز أو حدود تقريباً. لاريب في انه لا تزال توجد قيود على انتقال البشر، ولكن فيما يخص البضائع انهارت كل الحدود والجدران العازلة.

ثم يردف البروفيسور «البيرجاكار قائلاً: ولكن أخطر شيء في العولمة الحالية هي أنها تتم لصالح الدول الكبرى الغنية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. وبالتالي فهي تزيد الغني غنى والفقير فقراً. فالولايات المتحدة هي التي تمتلك الشركات الكبرى العابرة للقارات. وهي شركات أخطبوطية متغلغلة في شتى أنحاء العالم.

أنها تمتلك لها فروعاً في كل بلدان العالم. وفروعها تحاول السيطرة على الاقتصادات المحلية للدول بل وانتهاك سيادتها. وبالتالي فالعولمة حتى الآن ليست نافعة إلا للكبار. ولكنها قد تتحول إلى عولمة ايجابية إذا ما تمت السيطرة عليها من قبل السياسيين الحكماء الذين يحبون العدل ويهمهم مصير البشرية.

وبالتالي فالأمل لا يزال موجوداً. ويرى المؤلف ان كرامة البشرية كلها مهانة من خلال تجويع الملايين في افريقيا السوداء والعالم الإسلامي وآسيا وأميركا اللاتينية. وكل طفل يموت من الجوع أو من سوء التغذية هو عار علينا جميعاً.

ثم انه يطالب الولايات المتحدة بدفع ديونها لافريقيا السوداء لا بأن تدفع افريقيا السوداء ديونها لصندوق النقد الدولي:

فالغرب الذي يراكم الديون على بلدان العالم الثالث أو ما يدعى الآن ببلدان الجنوب هذه الديون في الحقيقة يجب أن تكون لصالح هذه البلدان وليس العكس. والدليل على ذلك إنهم نقلوا في القرن السابع عشر والثامن عشر ملايين السود إلى أميركا لزراعتها وفلاحتها واستصلاح أراضيها البكر. وعاملوهم كعبيد واستغلوهم لعدة أجيال.

فإذا ما حسبنا أن عدد الرجال والنساء الأفارقة الذي اقتلعوهم من جذورهم وبلادهم ورحلوهم إلى أميركا كالحيوانات كان يبلغ الثلاثة ملايين نسمة. وإذا ما حسبنا ان سعر كل عبد أسود، وعبدة سوداء مئة يورو فقط، وإذا ما حسبنا الفائدة المتراكمة على هذا المبلغ طيلة قرنين ونصف من الاستغلال فإن المبلغ المتجمع يصل إلى ثلاثمئة مليار يورو.

وبالتالي فعلى الولايات المتحدة الأميركية أن تدفع هذا المبلغ فوراً للأفارقة وان تعتذر لهم عما فعلته في الماضي، وينبغي على أوروبا أن تعتذر أيضاً وتدفع الثمن لان تجارها هم الذين نقلوا العبيد إلى أميركا. هكذا تجدون أيها السادة ان ديون العالم الثالث ينبغي ان تشطب فوراً، بل وان يدفع الغرب الديون لهذه البلدان. فهو مديون لها طيلة فترة الاستعمار وليست مديونة له على الإطلاق.

ولكن بما أن القوي هو الذي يصنع القانون فانهم لا ينفكون يتحدثون عن ديون العالم الثالث المتراكمة بالمليارات والتي تمنعه من التطور. فهو يلهث تحت وطأتها، وكل مداخليه لا تكفي لرد فوائد الديون فما بالك بالديون ذاتها! هذه هي العولمة الجائرة، أي العولمة التي تجعل الغني يتحكم بالفقير والقوي بالضعيف.

ثم يردف البروفيسور ألبير جاكار قائلاً: ولكن الغرب مارس السياسة نفسها تجاه طبقته العاملة في الماضي. وقد اضطرت هذه الطبقة إلى خوض صراعات نقابية عنيفة تجاه أرباب العمل طيلة القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين لكي تنال حقوقها في تقصير ساعات العمل، وحظر عمل الأطفال واستغلالهم ، أو تحسين شروط العمل لكي تصبح أقل إرهاقاً للعمال، إلخ.

وبالتالي فالرأسمالية لا تعطي شيئاً إلا بعد نضال طويل ومرير. هذا ما علمتنا إياه التجربة التاريخية. والآن نلاحظ أن البداية التي هي رأسمالية في جوهرها لن تعطي شيئاً إلا إذا انتظمت شعوب العالم وتضامنت مع بعضها البعض لمقاومتها. وهو شيء في طور الحصول الآن من خلال القوى الإنسانية والنقابية والسياسية المضادة للعولمة الشرسة.

نحن نريد عولمة بوجه إنساني، لا عولمة بوجه رأسمالي بشع لا يرحم ولا يشبع من استغلال البشر والحجر!.. وبالتالي فينبغي تشكيل حكومة عالمية عادلة قادرة على فرض إرادتها على الشركات المتعددة الجنسيات التي تمتص دم الشعوب وثروات الأرض من دون أي رادع أو وازع.

وينبغي على الغرب أن يتخلى عن فلسفته القائمة على المنافسة الضارية للكل ضد الكل. فالمنافسة مشروعة إذا ما كانت ضمن حدود معينة. ولكنها عندما تتخذ هيئة الحرب على الآخرين، كل الآخرين من أجل استغلالهم أو سبقهم إلى تجميع الثروات والأموال إلى ما لا نهاية فإنها تتحول إلى عملية جهنمية، لا إنسانية.

وهذا ما هو سائد الآن في الغرب الرأسمالي. وبالتالي فلكي نشكل عالماً متضامناً، ذا نزعة إنسانية تجاه الضعيف والمغلوب على أمره فينبغي أن نتخلى عن هذه الفلسفة المتوحشة واللاإنسانية.

الكتاب: فلسفة جديدة مختصرة

تأليف: ألبير جاكار

الناشر: ستوك ـ باريس 2005

الصفحات: 249 صفحة من القطع المتوسط

NONVELLE PETITE PHILOSOPHIE

ALBERT JACQUARD

STOCK - PARIS 2005

P. 249

Email