روايات خالدة

البحر البحر

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تعتبر الكاتبة إيريس مردوخ من أهم الكتاب البريطانيين في القرن العشرين. وهي من الكتاب الذين اتصفوا بغزارة الإنتاج، إذ أصدرت ست وعشرين رواية وأربعة كتب عن الفلسفة وخمس مسرحيات وديوان قصائد ومجموعة من المقالات القيمة، وذلك قبل إصابتها بمرض الزهايمر في منتصف التسعينات.

كما حازت على العديد من الجوائز الأدبية، أهمها جائزة بوكر وهي عن روايتها «البحر .. البحر» وذلك في عام 1978. ولدت مردوخ في دبلن عاصمة أيرلندا في 15 يوليو عام 1919، وهي الابنة الوحيدة لأب انجليزي خدم في الحرب العالمية الأولى كفارس ثم عمل موظفا حكوميا، وأم أيرلندية تدربت على الغناء الأوبرالي قبل زواجها. وساهم حب الوالدين للفن والأدب في رعاية موهبة إيريس الأدبية منذ الطفولة حيث بدأت الكتابة حينما كانت في التاسعة من عمرها.

في مرحلة طفولتها انتقلت العائلة إلى لندن، وتفوقت إيريس في دراستها للآداب الكلاسيكية، وانضمت لفترة وجيزة إلى الحزب الشيوعي الذي سرعان ما أثار خيبتها. كما عملت بعد تخرجها مع هيئة الأمم المتحدة في كل من مخيم اللاجئين في بلجيكا ثم النمسا ضمن برنامج إعادة التأهيل.

وحينما وجدت نفسها عاطلة عن العمل بعد ذلك قررت في عام 1947 دراسة الفلسفة في كامبردج بإشراف الفيلسوف الكبير لودفيغ ويتغنستاين، ومما لا شك فيه أن دراستها للفلسفة قد ساهمت في صقل موهبتها سواء كمفكرة أو روائية.

وبعد كتابتها لثلاث روايات لم تنشر، حققت إيريس شهرتها في عالم الأدب الروائي، حينما نشرت روايتها «تحت الشبكة» عام 1954، وتحكي في روايتها تلك مغامرة وجودية تدور أحداثها بين لندن وفرنسا.

ومع كل كتاب، أظهرت مردوخ جانبا جديدا من إبداعها، وإن كان القاسم المشترك بين جميع كتبها لمستها الكوميدية، إلى جانب الحيوية التي تميزت بها شخصياتها إضافة إلى تماسك الحبكة في أعمالها. كما تميزت باهتمامها الجاد في مسارات كل رواية التي تمحورت في الغالب حول الطبيعة الخيرة والشريرة في الإنسان، والحب والحرية. وتقول في هذا المجال، «ليكون الإنسان جيد ا وبالتالي سعيدا، عليه أن يتحول من الذاتية إلى الغيرية، والهرب من ذاتيته إلى الاهتمام بالآخرين».

وقد صرحت إيريس في مقالها الشهير «ضد الخوف» عام 1961، بأن الأدب تغلب في بعض الجوانب على دور الفلسفة، وتؤكد بأنها لم تسمح أبدا سواء في رواياتها أو شخوص أعمالها أن تصبح تجريدية لصالح رؤية فلسفية ما. ووضحت ذلك بقولها، «لا بد أن تكون الرواية بيتا ملائما للشخصيات لتعيش فيها بحرية، سواء في عالم الرومانسية أو الأساطير الدينية أو الشعبية».

أما روايتها الأخيرة «معضلة جاكسون» فنشرت في ذات العام الذي داهمها فيه مرض الزهايمر 1995، وتوفيت في أوكسفورد في 8 فبراير عام 1999.

وفي روايتها «البحر .. البحر»، يقرر البطل تشارلز أوروباي البالغ الستين من عمره، وهو ممثل ومخرج وكاتب مسرحي، كتابة سيرة حياته بعد أن قرر التقاعد، حيث اشترى لنفسه بيتا قرب البحر أسماه «شراف إند». وفي انتقاله إلى تلك المنطقة النائية كان يحدوه الأمل في التخلي عن عالمه القديم وحياته الماضية. وفي عزلته الجديدة مثلت الكتابة جزءا من هروبه، ومن خلال القلم والصفحات البيضاء بدأ بتدوين أفكاره وذكريات ماضيه وحاضره.

وفي بيته الجديد القديم جدا إلى حد التهالك والخالي من أية رفاهية بما فيها الكهرباء، وجد السكينة والوحدة، وهذا ما ناسبه تماما. شيئان فقط شغلا جلّ اهتمامه، أولهما «البحر» كشخصية محورية على مدار القصة، وثانيهما الطعام، إذ اهتم بوصف الوجبات التي كان يتناولها والمكونة غالبا من الخضار التي كان يستمتع بها كثيرا. وتبين أحداث القصة لاحقا عودة الماضي ليتداخل بالحاضر بصورة أكبر بكثير مما كان يأمل.

وهكذا تشاء المصادفة أن يلتقي تشارلز الذي لم يتزوج أبدا، وإن ارتبط بعدد قليل من العلاقات العاطفية ومجموعة محدودة من الأصدقاء، بحب حياته الأول. كانت ماري هارتلي وهي أهم شخصيات الرواية، المرأة الوحيدة التي أراد في الماضي أن يتزوجها، إلا أنها هربت منه حينها وتزوجت برجل غيره. وتشاء الأقدار أن يكون بيتها الذي تعيش فيه مع زوجها بين بجوار بيته.

أقنع أوروباي نفسه بأنه لا يمكن لماري أن تكون سعيدة في حياتها مع زوجها الذي يتمتع بشخصية بسيطة. وهكذا يسيطر عليه هاجس إنقاذها منه. وتزداد تعقيدات الأحداث، بتواصل ابن ماري الذي يدعى تيتوس، وهو الابن المتبنى لماري وبين. وتنتاب بين بعد حين الشكوك بأن تيتوس ما هو إلا ابن ماري وأوروباي. وتتحول الشكوك إلى هواجس وضغوطات تدفع بتيتوس للهرب من المنزل والمدرسة، لكنه سرعان ما يعود.

وفي إطار شخصية تشارلز، تبين مردوخ أن بطلها غير قادر على الانسجام مع سكان تلك الضاحية، مفضلا أن يعيش مع عزلته التي ينظر إليها السكان بغرابة، كذلك عدم قدرته على التحرر من ماضيه كما عاهد نفسه في البداية قبل لقائه بماري، وهكذا فإن الماضي لا يدعه بحاله. محبون ومحبات، أصدقاء وزملاء، يقتحمون عزلته على الرغم من محاولاته الدائمة التخلص منهم. كان المنزل يعج بالزوار على الدوام، كما يتحول أحد الأصدقاء وهو جيلبرت إلى مدبر لمنزله ولاقى هذا الأمر ترحيبا من تشارلز.

ومن ضمن الزوار الدخلاء، عشيقات سابقات لتشارلز ومنهن ليزي وروزينا، وهناك أيضا بيرغرين وهو مثل البقية يمتهن التمثيل، إلى جانب ابن عمه جيمس، الذي تحول على غير المألوف من عسكري إلى متصوف في الديانة البوذية. ويتحول هاجس أوروباي تجاه ماري، إلى قوة تهيمن على جميع تصرفاته ويواجه وقتا عصيبا، فهو يرفض فكرة ألا يكون أحدهما للآخر، على الرغم من إدراكه أنه باستطاعته الحصول على أية امرأة يرغب بها.

ونعود إلى الشخصية المحورية «البحر»، الحاضرة دائما إما كخلفية لمسرح الأحداث أو كموقع أساسي لها. فبعض الشخصيات إما أن تسقط أو تدفع إلى السقوط في البحر الذي يغيبها عن الوجود. ومن خلال ذلك يتجلى تحول بعض الشخصيات إلى مسوخ، في حين يفقد البعض حياتهم، إلى جانب مسؤولية البحر بصورة ما عن ميلاد جديد للحياة.يجد أوروباي نفسه في خضم أحداث درامية، فتارة يكون في ذروتها وتارة على هامش أعاصيرها. وهكذا يتحول البيت «شراف إند» إلى منصة لمسرح يؤدي الجميع أدوارهم فيه، وفي النهاية ينسحب أوروباي بعيدا عنه أيضا.

حكاية هذه الرواية غريبة بعض الشيء، وتتناول بخطورة الأحداث التراجيدية، فعاطفة أوروباي تجاه ماري تهدأ بالتدريج لتبرد في النهاية، ليتحول مسار البطل باتجاه حياة مختلفة. وبالمجمل فإن معظم الأحداث تتقدم بإيقاع بطيء، وأحيانا بصورة مصطنعة، ويعترف بذلك أوروباي الذي يديرها من خلال مذكراته، ويدرك أخيرا بأنه كان يعيش على هامش شهرته الواسعة كفنان مؤديا دورا ثانويا، في حين كان في الحاضر مركزا للأحداث حيث أدى دور البطل الأوحد فيها.

رشا المالح

Email