تأثير الثورة الفرنسية على العالم

تأثير الثورة الفرنسية على العالم

ت + ت - الحجم الطبيعي

شارك في تأليف هذا الكتاب العديد من الباحثين والأساتذة الجامعيين الانجليز وغيرهم. وقد تناولوا فيه موضوع الثورة الفرنسية الكبرى وتأثيرها على العالم وبخاصة العالم الانغلو ـ ساكسوني. ومنذ البداية يقول المشرف على الكتاب ما معناه:

ان الثورة الفرنسية هي أكبر حدث في تاريخ العصور الحديثة. فقد قسمت التاريخ إلى قسمين: ما قبلها وما بعدها. فما قبلها كان النظام الملكي الإقطاعي الأصولي القديم. وما بعدها كان النظام الجمهوري البرلماني الديمقراطي الحديث. وقد انتشرت أفكارها في كل أنحاء أوروبا عن طريق نابليون وحملاته العسكرية المشهورة. كما وانتشرت في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي عن طريق حملته على مصر.

ولكنها انتشرت ايضاً بشكل عفوي طبيعي: أي عن طريق قوة الأفكار نفسها وتعلق الناس بها وبخاصة إذا كانت تحمل لهم رياح الحرية ونهاية الاستبداد. وقد ابتدأت الثورة عام 1789 مع سقوط الباستيل رغم الطغيان والعهد القديم، وانتهت عملياً عام 1799 مع انقلاب نابليون بونابرت واستلامه للسلطة وزمام الأمور وإيقاف الفوضى الثورية. ثم يردف الباحث قائلاً:

ويعتبر المؤرخون ان أسبابها المباشرة تعود إلى الأزمة المالية التي شهدتها فرنسا آنذاك. وكانت ناتجة عن الحروب المكلفة التي خاضها الملوك في القرن الثامن عشر وعن المصاريف الباهظة للبلاط وقصر فرساي. وهذا ما أدى إلى تجويع الشعب فانتفض وثار. كما وتعود إلى حقد الشعب على الطبقات العليا التي كانت تتحكم به وتمص دمه وبخاصة: طبقة النبلاء الإقطاعيين، وطبقة الكهنة ورجال الدين. فقد كانت لهما امتيازات واسعة، وما كانوا يدفعون الضرائب على عكس عامة الشعب.

ومن الأسباب التي أدت إلى اندلاع الثورة الفرنسية أفكار التنوير التي انتشرت طيلة القرن الثامن عشر في الأوساط العليا من المجتمع، أي في أوساط النبلاء والبرجوازية. وكانت تدعو إلى المساواة بين الناس وإلغاء الامتيازات الموروثة أباً عن جد منذ مئات السنين. كما وكانت تعارض النظام الملكي المطلق والحق الإلهي للملوك والاستبداد الناتج عن ذلك.

ومعلوم أن الملك الفرنسي كان خاضعاً لحاشيته وللطبقات العليا المستفيدة من النظام والتي تتحكم بالثروات والامتيازات وكل شيء وتترك الشعب جائعاً أو شبه جائع. يضاف إلى ذلك أن الثورات الإنجليزية التي حصلت في القرن السابع عشر والثورة الأميركية التي حصلت في القرن الثامن عشر وصلت عدواها إلى الفرنسيين وألهمت النخب الفكرية والسياسية وبخاصة «لافاييت».

ولا ينبغي أن ننسى المواسم الرديئة لفرنسا عام 1788، فلم تحصد إلا القليل من القمح وسواه بسبب رداءة المحاصيل، وهذا ما أدى إلى زيادة الأسعار بشكل مخيف وتصاعد نقمة الشعب على السلطة بسبب نقص الخبز والمواد الغذائية ذات الضرورة القصوى.

كل هذه الأسباب مجتمعة أدت إلى اندلاع الثورة التي أطاحت بالنظام القديم واكتسحت في طريقها كل شيء. ولكن قبل اندلاعها قبل مثقفو الشعب وممثلوه أن يجتمعوا مع ممثلي النظام في اجتماع عام بقصر فرساي. وقد ألقى الملك خطاباً خالياً من المقترحات التي تؤدي إلى إصلاح الأوضاع. ومعلوم أن ممثلي الشعب الفقير الجائع كانوا ينتظرون أن يعرض عليهم الملك مشروعاً للدستور وبعض الإصلاحات الضرائبية والاجتماعية التي تخفّف الحمل عن كاهل الشعب، ولكنهم لم ينالوا شيئاً.

ولذلك انفصلوا عن ممثلي الطبقات المترفة، أي ممثلي الطبقة الارستقراطية وطبقة الكهنوت المسيحي، وراحوا يشكلون الجمعية الوطنية المستقلة، وهي التي ستصبح البرلمان الفرنسي فيما بعد. ومعلوم أنه لا يزال يحمل الاسم حتى الآن ويحتل مبنى تاريخياً مهيباً على ضفاف نهر السين.

وعندما عرف الملك بهذا العمل الثوري أو الانقلابي الأول أمر بإغلاق الصالة التي يجتمع فيها ممثلو الشعب. وعندئذ ذهبوا إلى مكان آخر لمواصلة اجتماعاتهم، وقرروا ألا يفترقوا قبل أن يشكلوا دستوراً جديداً للبلاد، وأقسموا اليمين على ذلك. وهذا القسم هو الذي أسس الجمعية الوطنية التأسيسية، وهو الذي وضع حداً للسلطة الملكية وشبه الإلهية المطلقة للويس السادس عشر. وهذا القسم يمثل رمزاً على استلام السلطة من قبل ممثلي الشعب.

ثم يردف الباحث قائلاً: وبعدئذ تسارعت الأحداث، فقد احتلت الجماهير الثورية سجن الباستيل الرهيب بتاريخ 14 يوليو 1789، وأصبح هذا الحدث هو العيد الوطني لفرنسا لاحقاً، وهي تحتفل به كل عام منذ أكثر من مئتي سنة ولا تزال. وشاع جو الفوضى والرعب الممتزج بالجوع في كل أنحاء العاصمة.

وقد هجم الثوار على قصر الانفاليد أولاً بحثاً عن الأسلحة، وقد سرقوه ونهبوه ثم هجموا على سجن الباستيل حيث قتلوا مدير السجن رمز الطغيان، وكان أحد أبناء العائلات الارستقراطية، ثم قتلوا العديد من حراس السجن وأخلوا سراح المساجين كلهم، ثم دمروا السجن فتحول إلى أنقاض لاحقاً، تماماً كما دمروا النظام الملكي والعهد القديم. ثم هجموا على قصر البلدية متهمين العمدة بالخيانة. وكان ينتمي أيضاً إلى عائلة ارستقراطية عريقة وغنية جداً كمعظم الموظفين الكبار في الدولة.

وقد نظموا له محاكمة سريعة وأعدموه على الفور، ثم راحوا يتجولون في الشوارع ورأسه مرفوع على أسنة الحراب تماماً كرأس مدير سجن الباستيل. وعندما شعر الملك بأن الأمر خطير، تنازل عن عليائه وعرشه وقابل ممثلي الشعب بعد أن سحب الجيش الذي كان يحاصر باريس، ثم قدم بعض التنازلات الشكلية أو الفعلية الأخرى.

ولكن الأمور كانت قد تجاوزت الخط الأحمر وما عاد بالإمكان إيقاف المد الثوري الهادر. وعندما شعر الملك بالخطر على حياة العائلة المالكة وبخاصة أخيه الأصغر منه والذي كان مكروهاً جداً من قبل الشعب بسبب طغيانه واحتقاره للناس البسطاء أصدر أمراً بترحيله إلى الخارج لكيلا يصاب بأذى. ثم لحقت به معظم الشخصيات الكبرى التي كانت نقمة الشعب قد تركزت عليها واعتبرتها سبب المآسي والمجاعات.

وكلهم هربوا تحت جنح الظلام إلى إيطاليا، أو انجلترا، أو هولندا، أو ألبانيا، أو بلجيكا. وكانوا يعتقدون انها هجرة مؤقتة لن تدوم أكثر من ثلاثة أشهر. وما كانوا يعرفون ان الثورة سوف تطيح بالملك نفسه وبزوجته ماري أنطوانيت وسوف تقطع الرؤوس الكبرى للمملكة الفرنسية تحت المقصلة.

وفي أثناء ذلك كان الشعب قد عين عمدة جديداً لبلدية باريس، ورئيساً جديداً للحرس الوطني في شخص الجنرال لافاييت ثم هاج الشعب على وزير المالية وعلى شخصيات أخرى نافذة في الدولة وأذلهم جميعاً على رؤوس الأشهاد في الشارع ثم مزقهم إرباً إرباً. وكان ذلك دليلاً قاطعاً على مدى حقد الشعب الفرنسي على العهد القديم بسبب القهر الذي عاناه على مدار السنوات ان لم نقل القرون.. ومعلوم ان هذه الشخصيات كانت قد اتهمت باحتكار القمح ومحاولة تجويع الشعب.

ثم انتشرت الثورة بشرارتها من باريس لكي تشمل بقية الأقاليم والمحافظات الفرنسية. وهجم الفلاحون على قصور الاقطاعيين في ليلة (4) أغسطس من عام 1789 وحرقوها ونهبوها. ومعلوم ان حقد الفلاحين البؤساء على الاقطاعيين الذين يمصون دماءهم منذ سنوات طويلة كان كبيراً.

ثم هدأت نقمة الفلاحين بعد ان قررت طبقة الاقطاعيين والكهنة ان تتخلى عن امتيازاتها. وهكذا نلاحظ ان الأغنياء لا يتخلون عن امتيازاتهم إلا تحت الضغط والتهديد. وعلى هذا النحو انتهى النظام الاقطاعي في فرنسا وتحققت المساواة بين الطبقات الثلاث: أي طبقة النبلاء الارستقراطيين الاقطاعيين، وطبقة الكهنة ورجال الدين، وطبقة جماهير الشعب المؤلفة من الفلاحين بشكل خاص ثم من الحرفيين الصغار وبقية الكادحين. وهي الطبقة الأكثر عدداً بالطبع والتي تشكل تسعين بالمئة من الشعب الفرنسي. وهي التي كانت وقود الثورة الفرنسية.

ثم رفع الشعار الشهير الذي لا يزال منقوشاً على البيان الرسمي لفرنسا حتى الآن: حرية، مساواة، إخاء. وعلى هذا النحو ولدت فرنسا الجديدة من مخاض ثوري عسير. ثم يتحدث الكاتب عن نخبة الكتاب والمثقفين والسياسيين الانجليز والأميركان الذين أثرت عليهم الثورة الفرنسية بأفكارها. ومن بينهم أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأميركية: توماس باين. وكان قد ولد في انجلترا عام 1737 في عائلة متواضعة جداً. ثم انتقل إلى لندن وهو في العشرين من عمره.

واشتغل في أعمال الخدمة الوضعية لكي يكسب عيشه. ولكنه في ذات الوقت راح يكمل دراساته بشكل عصامي عن طريق قراءة كتب إسحاق نيوتن والفلاسفة العقلانيين والتنويريين. ثم راح يتردد على الأوساط الثورية ويشارك في اجتماعاتها. ولذلك فصلته الدولة من وظيفته بعد ان اعتبرته مشاغباً لا يوثق به. وفي عام 1774 تعرف في لندن على بنيامين فرانكلين الذي نصحه بترك انجلترا والسفر إلى أميركا.

وقد وصلها وهو في السابعة والثلاثين من عمره، وهو وصول تاريخي في الواقع لانه سيغير مصيره ومصير قارة بأسرها. فالرجل سوف يصبح أحد أهم الشخصيات في الولايات المتحدة الأميركية، بل وأستاذ جورج واشنطن وملهمه.

ونشر توماس باين عندئذ كتبه التي يعبر فيها عن أفكاره الثورية الجديدة. وأصبح رئيس تحرير مجلة بنسلفانيا.

ثم نشر كتابه الشهر «الحس الصائب» أو الحس المشترك الذي يعبر فيه عن حق الولايات المتحدة في الاستقلال عن انجلترا ونيل الحرية. وساهم فعلياً في حركات التمرد ضد التاج البريطاني. ثم شارك مع توماس جيفرسون في كتابة أول دستور لولاية بنسلفاينا.

وراح توماس باين ينشر بين عامي 1776 ـ 1783 عدة مقالات عن الأزمة الأميركية. ولذلك عينه الكونغرس في منصب رفيع كمكافأة له على خدماته الجليلة للولايات المتحدة. ثم نشر بعدئذ كتابه «عصر العقل» وكتابه الآخر «حقوق الإنسان». وكان صديقاً لكبار الثوريين الفرنسيين من لافاييت، الى دانتون، الى روبسبير.

الكتاب: تأثير الثورة الفرنسية على العالم

الناشر: مطبوعات جامعة كمبردج 2005

الصفحات: 365 صفحة من القطع المتوسط

The Impact of the French revolution

Iain hampsher - monk

Cambridge university press 2005

P. 365

Email