نوري السعيد وبريطانيا

نوري السعيد وبريطانيا

ت + ت - الحجم الطبيعي

صدر مؤخراً في دمشق كتاب بعنوان «نوري السعيد وبريطانيا ـ خلاف أم وفاق» مؤلف هذا الكتاب هو الدكتور محمد حمدي صالح الجعفري، الذي يعتبر نوري السعيد شخصية غير عادية شغلت أذهان الناس في العراق والمنطقة العربية ردحاً من الزمن. فمنذ بروزه فوق المسرح السياسي لفت أنظار الساسة العرب والأجانب، طيلة نصف قرن. لما يتمتع به من ذكاء وقَّاد وفطنة عالية، وقدرة على المناورة والخداع،

وكان البريطانيون أول من انتبه إلى مواهبه، وقادهم ذلك للتفكير به، والتعاون معه، لأنهم كانوا بأمس الحاجة له، فقد كانوا منشغلين بتأسيس الحكم الوطني في العراق أواخر عام 1920، الذي جاء كنتيجة لثورة العشرين، التي انتفض بها الشعب العراقي ضد الاحتلال البريطاني. وفي ذلك الوقت كانوا بحاجة إلى خدمات رجل يمتلك هذه المواهب لحماية مصالحهم في العراق، وأرادوا أن يكون محباً وصديقاً لبريطانيا،

فوجدوها عند نوري السعيد، وقد نجحوا في مسعاهم، وكسبوه صديقاً وفياً لهم، وبادلهم نوري المشاعر نفسها، فباتوا يوكلون إليه المهام الجسام، منذ أن قدم إلى العراق عام 1920 ـ هو من مواليد بغداد 1888 ـ واستقر بمنصبه كمدير عام للشرطة في الحكومة العراقية الجديدة، وبعدها رئيساً لأركان الجيش، ثم وزيراً للدفاع، ورئيساً للوزراء لعدة مرات. وبقي مخلصاً لبريطانيا وفياً لها حتى انتهاء نفوذها عام 1958.

بدأت حياة نوري السعيد العسكرية بعد أن تخرج من الكلية الحربية باسطنبول عام 1906، وعيّن في وحدة مشاة تابعة للجيش العثماني السادس ببغداد، وكان من واجبات هذه الوحدة جباية الضرائب المفروضة على مواشي القبائل الرحَّل في المنطقة، وقد نجح كثيراً في عمله هذا بحيث وطَّد علاقاته مع رؤساء العشائر وأكسبته ودهم وثقتهم.

مع نشوب الحرب العالمية غادر بغداد إلى مسقط بدعوة من السلطان تيمور بن فيصل، بغرض مساعدته في إنشاء جيش حديث. ورغم ذلك، فكر في العودة إلى الجيش العثماني، غير أنه سرعان ما تراجع عن فكرته لعدم ثقته بالأتراك، كما أنه توقع دخول البريطانيين إلى البصرة، وفعلاً حصل ما توقعه، فباشر نوري اتصاله بالبريطانيين.

وعندما نزلت القوات البريطانية البصرة في 23 نوفمبر 1914 واحتلتها، كان نوري السعيد يرقد في مستشفى الإرسالية الأميركية لإصابته بمرض التدرن الرئوي، فوقع أسيراً بيد القوات البريطانية، ونقل كأسير حرب عثماني إلى الهند.

نقل بعدها إلى مصر، ثم غادرها إلى الحجاز للالتحاق بالثورة السورية الكبرى. وحال وصوله جدّة عُيِّن وكيلاً للقائد العام للجيش، لحين وصول عز الدين علي المصري إلى الحجاز ليشغل المنصب. ثم سافر إلى مكة بناء على أوامر الشريف حسين للالتقاء به والتباحث في شؤون الحرب، ومواقف الدولة العثمانية وكيفية التعاون مع الحلفاء. فينقله بعدها إلى الجيش الشرقي تحت قيادة الأمير عبدالله الذي رحب بمقدم نوري وعيَّنه رئيساً لأركان جيشه، ومنحه لقب باشا.

ولم تمض فترة قصيرة حتى نُقل إلى الجيش الشمالي، تحت قيادة الأمير فيصل برفقة صهره جعفر العسكري، قائد القوات فيها، فعين نوري رئيساً لأركان الجيش الفيصلي، وحقق نجاحات كبرى، حيث وصفه «لورنس» بأن حركات نوري باشا العسكرية هي القاضية على الأتراك قضاءً نهائياً، مما حمل البريطانيين على منحة وسامين، تقديراً لجهوده الحربية.

وبعد أن أصبح الأمير فيصل ملكاً على سوريا جعله مسؤولاً في إعداد الترتيبات الإدارية والأمنية في دمشق، ونجح نجاحاً فائقاً، فرشحه الملك للاشتراك في مؤتمر باريس للصلح 1919، وتولى في المؤتمر مسؤوليات كبيرة، باعتباره مسؤولاً عربياً لامعاً، وممثل الشريف حسين ونيابة عنه، مما مكَّنه لأن يأخذ مكانة رفيعة بعد انتهاء الثورة والحرب العالمية الأولى، وعند تشكيل حكومة سوريا العربية وحكومة العراق الوطنية عام 1920.

تدرج بعدها في المناصب إلى أن أصبح رئيساً للوزراء لأول مرة عام 1930 فوَّقع مع البريطانيين معاهدة 1930 الشهيرة والتي ضمنت بموجبها بريطانيا مصالحها كافة في العراق. ومنذ ذلك الوقت وحتى انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 تولى نوري السعيد رئاسة الحكومة ثماني مرات، إذ بعد انتهائها تصير مهمته صعبة، ويصير السعيد الشخصية المؤهلة لتنفيذ سياسة بريطانيا في مواجهة الاتحاد السوفييتي في المنطقة العربية.

إذ تلقي عليه مسؤولية إقليمية عالمية جديدة، وهذه المسؤولية تختلف عن السابق، التي كانت تنحصر في إطار بلده العراق. فلقد بات الآن يبحث عن حلفاء في المنطقة ويتحاور معهم لوضع الاستراتيجية الجديدة موضع التنفيذ، إذ كان هو الآخر مقتنعاً أن الشيوعية تشكل خطراً كبيراً على العرب والمسلمين.

فقاد حملة قوية ضد الأحزاب والتيارات التي تقف ضد من السلطة، أو التي تتعاطف مع الاتحاد السوفييتي، حتى إنه أصبح لا يفرق بين الشيوعي وغير الشيوعي، لأنه يعتبرهم ينطلقون نحو هدف هو إخراج بريطانيا من المنطقة، والقضاء على أصدقائها، ومن بينهم المسؤولون العراقيون.

لذلك عندما أعلن رئيس الحكومية العراقية توفيق السويدي في مارس 1946 أن حكومته قدمت طلباً للحكومة البريطانية لغرض تعديل معاهدة 1930، ثارت ثائرته، وراح يناصب حكومة السويدي العداء، ولم يهنأ له بال حتى سقطت الوزارة في أواخر مايو 1946، لأنه شعر أن أمر إلغاء أو تعديل الاتفاقية من شأنه خلخلة النظام الملكي الذي سيعرضه للخطر.

لكن ليس أكثر من خطر الرئيس جمال عبدالناصر على نوري السعيد وبريطانيا حين وقعت المواجهة العسكرية ـ حرب السويس 1956، عندما أعلن عبدالناصر تأميم قناة السويس التي تديرها شركات أجنبية، ومن بينها شركات بريطانية وفرنسية. فقد وقف السعيد موقفاً معادياً من القرار، وسارع يحث الدول الغربية لمهاجمته عسكرياً وإسقاط نظامه، واعتبر تصرفه إخلالاً بالاتفاقيات الدولية.

فاتفق السعيد مع بريطانيا على إرسال وزير الخارجية العراقي د. فاضل الجمالي إلى ليبيا لمقابلة الملك إدريس حول هذا الموضوع. لأن تأديب عبدالناصر وبسرعة أصبح ضرورة، وبدأ يحرض بريطانيا ضد عبدالناصر، إذ طلب من السفير البريطاني في بغداد أن تقوم حكومته بإرسال باخرة محملة بالأسلحة للعراق عبر قناة السويس،

وهذه ستكون فرصة لقيام الحكومة المصرية بمضايقتها وعند ذلك سيكون الأمر مبرراً لضرب عبدالناصر. كما أنه طلب استبعاد الصهاينة من المشاركة بالعملية، لأن هذه المشاركة تستفز العرب. أما بريطانيا فلم يكن لديها القدرة على القيام بعمل عسكري سريع، فضلاً عن ذلك، فإن الرئيس الأميركي لم يُظهر تعاوناً مع الحكومة البريطانية.

لذلك بدأ الحل العسكري يظهر للعيان غير أن بريطانيا وفرنسا ومعهما إسرائيل لم يتخلوا عن الحل العسكري. هذا الحل الذي راود نوري السعيد في محاولته لإعادة الكويت إلى العراق ـ الوطن الأم ـ حيث كانت بريطانيا قد اقتطعتها من البصرة وأعطتها لآل الصباح ـ ذلك كي يكسب رضا المعارضة العراقية التي كانت تصعّد من غضبها ومن حنقها على سياسة نوري السعيد الخيانية خاصة بعد حرب السويس 1956.

ولما لم يستطع إقناع البريطانيين بذلك دعا إلى تشكيل (اتحاد عربي) تنضم الكويت إليه مع العراق وسوريا والأردن وأيضاً السعودية، بحجة أن مثل هذا الاتحاد يشكل جبهة اقتصادية قوية ضد عبدالناصر. ولم ينس أن يذكر ثانية السفير البريطاني في العراق بأن الكويت جزء من العراق، وأن الحكومة البريطانية هي المسؤولة عن فصلها عن العراق،

مما دفع السفير إلى رفض هذا المنطق، الأمر الذي اضطر السعيد لتغيير تكتيكه مبيناً أهمية انضمام الكويت لأي نوع من الاتحاد بين العراق والأردن. مع تأكيده في أن تقوم الحكومة البريطانية بجهودها في التأثير على موقف حكام الكويت، وأن العراق يرحب بأي نوع من التقارب بين الكويت والعراق تقرر بريطانيا طبيعته.

هنا راحت أفكار نوري السعيد إلى اللعب بورقة ابتدعها هي «الورقة السورية» ذلك للتخلص من عدوه اللدود الأمير عبدالإله، فاخترع اتحاداً يضم سوريا والعراق، سماه (مشروع سوريا الكبرى) وقد باركته الحكومة البريطانية، حيث يتوج فيه الأمير عبد الإله ملكاً على هذا الاتحاد، وكل ذلك وجد لدى نوري السعيد تبريراً لفكرته، فالمعروف عنه كثرة حيله ومخادعاته ـ من ذلك ما يذكره السفير الأميركي في بغداد «والدار غولمان»:

إذ في أوائل 1955 تم تنفيذ مؤامرة أسقطت وزارة فارس الخوري السورية المعتدلة، فظهرت جماعة يسارية تحت قيادة صبري العسلي وخالد العظم، لتخلف وزارة الخوري، وانحازت سوريا نحو مصر بعد أن نضجت الميول اليسارية في الجبهتين المدنية والعسكرية الحاكمة. فقال نوري السعيد: إن الرئيس الأتاسي كان ينظر لهذا التطور بقلق عظيم، وأنه عبّر عن قلقه كثيراً، وفي الوقت الذي كان فيه نوري السعيد يعمل على إبعاد العراق عن المسرح السوري،

كان يعمل أيضاً على حمايته من أي أذى يصيبه من الأتراك ويؤيد هذا الرأي اللواء غازي الداغستاني معاون رئيس أركان الجيش في إفادته أمام المحكمة العسكرية العليا الخاصة قائلاً: كان عدد من اللاجئين السياسيين السوريين قد جاؤوا إلى العراق قبل تاريخ افتضاح المؤامرة عام 1956، وكانوا يتسلمون رواتب من الحكومة، ويعملون على تشكيل إذاعة سوريا، وجيش سوريا الحر.

كما أن بعض أولئك طلب قيادة جيش عراقي يرتدي الملابس العسكرية السورية، ويهاجم سوريا لتحقيق الاتحاد بين البلدين، واعترف الشاهدان رفيق عارف، وأحمد مختار بابان، بأن عبدالإله ونوري السعيد كانا يعدان على إشراك الجيش في تحقيق الاتحاد. وفي ضوء ذلك، ولغرض تنفيذه الفكرة التي كان يصر عليها نوري السعيد، أقيم مخيم كبير بجوار مدينة (الرطبة) العراقية الحدودية مع الأردن، والقريبة من الحدود السورية لعدد من المواطنين السوريين المتطوعين بعد أن زودتهم حكومة السعيد بالسلاح اللازم لغرض التدريب العسكري الذي بدأوا به فعلاً.

ورغم أن المؤامرة قد اكتشفت في دمشق، وافتضح أمرها عربياً وعالمياً، إلا أن نوري السعيد يسانده عبدالإله استمر في أعماله لغرض تحقيق غاياته، حتى قررت كل من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا القيام بهجوم مسلح على سوريا تساندهما كل من تركيا والعراق، ولا تعارضه دولة الكيان الصهيوني التي تحد سوريا من الغرب، تحت ذريعة أن الخطر الشيوعي وصل سوريا، وأن الدول الغربية ترى ذلك خطراً على الشرق الأوسط، وتهديداً للأمن العراقي المرتبط بالعالم العربي، وبالوجود البريطاني تحديداً.

أنور محمد

الكتاب: نوري السعيد وبريطانيا خلاف أم وفاق؟

الناشر: دار الأوائل ـ دمشق 2005

الصفحات: 240 صفحة من القطع المتوسط

Email