مملكة ماري

مملكة ماري

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعتبر «ماري» من أوائل المدن الجديدة في التاريخ البشري حسب الباحث الفرنسي جان كلود مارجرون. والتي نشأت من العدم دفعة واحدة بهدف تحويلها إلى مركز «للتعدين» وذلك في حوالي 2900 ق.م. الباحث والكاتب السوري د. بشار خليف الذي صدر له من قبل «دراسات في حضارة المشرق العربي القديم و«العبرانيون في تاريخ المشرق العربي القديم، يرى أن «ماري» عُمرت وفق مخطط وتنظيم هادفين، حيث يشهد على ذلك منشآتها المائية واثار السور الذي يحيط بها.

وإن منظر المدينة في الألف الثالث ق.م يدل على تفكير منطقي متجانس، يمثل قوة الحضارة وتفتحها التي ظهرت في الألف الرابع ق.م، وتوجت في بداية الألف الثالث ق.م عبر إنشاء هذه المدينة التي تقع في «تل الحريري» وتبعد عن مدينة البوكمال حوالي 2 كم مثلما تبعد عن نهر الفرات أيضاً بـ 2 كم. وقد تم اكتشافها عام 1933 عبر البعثة الفرنسية برئاسة أندره بارو.

وتبلغ أبعاد التل 1000 600م، وقد عثر في الموقع على ما يزيد على الـ 25 ألف لوح مسماري معظمها يعود إلى الألف الثاني ق.م ولا يزال البحث والتنقيب جارياً فيها إلى الآن، حيث تأكد أن «ماري» الأكادية ـ العمورية كانت واقعة تحت تأثير الروحية الثقافية الرافدية، وكان خط اتجاهها التفاعلي يتجه شرقا إلى الرافدين ولا سيما في النصف الأول من الألف الثالث ق.م، وهذا ما يمكن ملاحظته سواء لجهة الفخار أو المنحوتات التي عثر عليها والتي تحمل صفاتاً رافدية في الشكل والروحية.وبناء على هذا يمكننا القول ان حركة التفاعل في هذه الفترة في ماري كانت ذات اتجاه رافدي أكثر من اتجاهها إلى العمق الغربي الشامي.

ويبدو أن هذا الأمر يتبع النشوء المبكر لماري كمدينة في بلاد الشام في ظل غياب فاعل لمدن كانت في طور التكوين كإيبلا مثلاً، أو ايمار التي لم تمتلك أدوات قوتها الذاتية مما أهَّلها لتكون مدينة تابعة للفاعلية الأقوى سواء في ماري أو ايبلا في النصف الثاني للألف الثالث. وهنا يعنينا التأكيد أن الواقع المديني في النصف الأول من الألف الثالث ق.م كان يشتمل على سلالات حكمت مدن:

أور، أوروك، لاجاش، كيش، أوما، شورباك، أدب، ماري و غيرها. وهذه كانت سومرية فيما عدا سلالات مدينتي «كيش» الرافدية بؤرة التواجد الأكادي، و«ماري» حيث كانت أكادية وبؤرة التواجد العموري.

عن المعتقدات الدينية قدمت الكشوفات الأثرية معبداً للآلهة «نيني زازا» كما أمدتنا بمعبد للآلهة «عشتار»، كذلك نجد معبداً لشمش وعشتارات ودجن نينهورساج بالإضافة إلى العثور على زقورات ذات مهمات معتقدية مدينية اجتماعية. وتشير الدلائل إلى أن الأرباب السومريين والعموريين عبدوا بآن واحد في ماري.

كما قدمت نصوص ماري ما يزيد على 125 اسماً إلهياً مقدساً مثل: شمش، سين، أدد، عشتار، إيا، ننهورساج، داجان، الخ.. أما الأضاحي المقدمة للآلهة فكانت دوماً من الخراف الذكور، وكانت تؤكل بعد ذبحها، مع ملاحظة أن الكنعانيين كانوا يحرقونها. وتشير الوثائق أيضاً إلى ظهور اسم إله هو «أتور مير) وتعني بوابة ماري، وربما هذا يعطي دلالة إلى وجود إله قديم في ماري أعطاها اسمه. أما معابد ماري في هذه الفترة فسنجد معبد: عشتار، شمش، ننهورساج، عشتارات، نيني زازا، داجن.

كما عثر على زقورات ذات وظيفة اعتقادية ودنيوية.، كما أن مساكن الكهنة كانت تقام إلى جوار المعابد. وقد أبانت مكتشفات ماري على نشوء ظاهرة جديدة تمثلت في انشاء قصر ـ معبد، وهي ظاهرة مميزة بين مدن المشرق العربي آنذاك. وربما هذا يدل على وجود نوع من التصالح بين السلطتين الاعتقادية والزمنية.

وقد عثر أيضاً على مجموعة كبيرة من تماثيل العباد الورعين في معابد ماري، والذي يرجّح أنه كانت هناك ورشات عمل تنتج تماثيل بشرية متشابهة تبيعها للراغبين من الرجال والنساء. وعلى مدى عدة قرون 2700 ـ 2350 ق.م انتجت ورشات ماري تماثيل رجال مثلوا وقوفاً، أو في بعض الأحايين جلوساً، حفاة يرتدون مئزراً معذقاً بأكمله أو طرفه فقط، يشده إلى الخصر أحزمة، ويستر النصف السفلي من الجسم، أما النصف العلوي فيبقى عار. ومثّلت النساء واقفات وجالسات حفاة يرتدين ثوبا فضفاضا يستر الجسم.

وقد كانت معابد ماري على صنفين: الأول: هو المعبد الطويل حيث يكون المصلى طويلا. الثاني: معبد يكون مخططه شبيها بمخطط بيت السكن وهو بيت الرب.

وتشير الدراسات إلى وحدة النمط المعماري بين المعبد 2 في إيبلا مع بيت العبادة التابع للقصر في ماري والذي يرقى الى 2300 ق.م. وكان الرب الحقيقي أو الرب الوطني في ماري هو داجان، (دجن). مع أن الملوك كانوا آنذاك، قد درجوا على وضع بناتهم في سلك الكاهنات في المعابد ومنهم: نارام سين الذي وضع ابنتيه لتكونا كاهنتين في معبد شمش، وهما «شوماشاني» و«مكيبار» الذي بعد وفاته تدهورت أوضاع الامبراطورية الأكادية ووهنت «توفي 2232 ق.م» مما ادى الى هجوم قبائل الكوتيين القادمين من جبل ايران،

حيث سيطروا على الجناح الرافدي ولا سيما شماله لحوالي مئة سنة، وتندر المعطيات المعمارية والكتابية التي يمكن أن يتركوها، ما يعني أن فاعليتهم الحضارية هامشية وعلى مرتبة ادنى من الفعالية الأكادية.

لكن مع طرد الكوتيين وصعود نجم «أور» التي شملت فاعليتها كمملكة، منطقة الفرات الأوسط بما فيها ماري وتوتول وآشور وجبيل بالاضافة الى المدن الرافدية، سوف نجد أن ماري ستدخل عصر تأسيسها الذهبي العمراني والاقتصادي وكل مجالات الحياة، وهذا ما سوف يعبر عن نفسه في فاعلية ماري العمورية مع مطلع الألف الثاني ق.م. إذ في فترة فاعلية أور ومملكتها، تسلّم حكم ماري سلالة حكام يدعون «شاكاناك» وتعني الوالي ـ الولاة، وكان هؤلاء يمثلون أور في ماري ويقدّر عددهم بحوالي 13 حاكما بدأت فترة حكمهم عام 2266 ق.م واستمرت 2008 ق.م.

ويُعتقد أن حكم هذه السلالة بدأ في هذه الفترة ـ فترة فاعلية أور ـ استعادت سيطرتها على منطقة الفرات الأوسط، بمعنى أنها عادت لمملكتها، وكانت علاقاتها جيدة مع مدن الجنوب الرافدي. ومن أهم المكتشفات التي جرت في عام 1965 ـ وتشير الى العصر الذهبي لمدينة «ماري» العثور على جرة تحتوي عدة لقى اطلق عليها اسم «كنز أور» وفيها خرزة مغزلية كبيرة من اللازورد عليها كتابات مسمارية تقول: أهدي هذه الخرزة المغزلية الى الربة غال، ميزا نيبادا ملك أو عندما كان أنسور ملك معيرا / ماري.

وعثر في الجرة على تمثال صغير من العاج لامرأة عارية، وتمثال صغير من النحاس لآلهة عارية، ولوحظ أن شعرها عليه عصبة جبهية من الذهب، وقرنان صغيران ـ علامة الألوهية ـ كما عثر على نسر له رأس أسد، وقد تم نحته في لوحة سميكة من اللازورد حيث ان رأسه وجناحاه من الذهب ونزلت عيناه بالقار.

وحوى الكنز ايضا على زوجين من الأساور الاول من النحاس والثاني من الفضة، وعلى ثمانية مشابك من الفضة والبرونز والذهب ورأس المشبك من العاج، وسوار من الخرز صنع من الذهب واللازورد، وعقد مصنوع من الذهب واللازورد والفضة، وثلاث نجوم من الفضة، وست تمائم لازوردية، وخرزة كبيرة مغزلية من اللازورد متعددة الوجوه منقوش عليها بالمسمارية.

شهدت مدينة ماري منذ تأسيسها معالم عمرانية وانشائية تتناسب مع ذهنية التخطيط المسبق. حيث اننا أمام أنظمة متطورة للري كالأقنية والسدود، وأنظمة ملاحية مبتكرة، بالإضافة إلى سعي المدينة لتأمين مياه الشرب عبر الأقنية والسدود التي تجمع مياه الأمطار.

ويبدو أن الازدهار الذي وصلت إليه ماري مع تأسيسها وانطلاقتها في القرون الثلاثة الأولى من الألف الثالث تجلى واضحا في القصور الفخمة والمعابد، ومنحوتات تدل على وجود مدرسة فنية في ماري تعد من أقوى مدارس الفن وأكثرها أصالة في «المشرق العربي» على حد تعبير أندره باور، إذ ان البيئة المعمارية المكتشفة في ماري احدثت انقلاباً في المفاهيم المتعارف عليها حول عمارة بلاد المشرق.

لكن هذه المدينة الحضارة التي صارت تنافس، صار حمورابي يشعر بقوتها، وبالمقابل صار «زمري ليم» ملك ماري يشعر بتعاظم قوة حمورابي، ولا يملك إلا أن يدافع عن مدينته بعد ان رفض ان يعترف بحمورابي ملكا.

وبعد أن فرغ الجيش البابلي بقوامه المؤلف من 000. 10 ـ 000. 20 جندي، من حربه في بلاد يموت بعل، توجه لاحتلال ماري، ويتصادم الجيشان، وتسقط ماري محتلة بحيث يعثر على بطاقتين تحملان عبارة (سلة رسائل خدم «زمري ليم») وعلى الوجه الآخر ذكر الشهر والسنة 32 من حكم حمورابي، ما يشير الى احتلال الجيش البابلي لماري. لكن بعد سنتين سوف تنتفض ماري، مما يدفع حمورابي إلى تدمير أسوارها وحرقها بالكامل وكان ذلك في حوالي 1760 ق.م.

أنور محمد الكتاب: مملكة ماري

الناشر: دار الرائي ـ دمشق 2005

الصفحات: 336 صفحة من القطع المتوسط

Email