يحاول هذا الكتاب الغوص في أعمال الفيلسوف الألماني «يورغن هابرماس» من خلال التعريف بأطروحاته وآرائه النقدية، مسهماً بذلك في التعريف بفلسفته ونظريته في الفعل التواصلي، وفي التعرّف على أخلاقيات التواصل وعلم السياسة، خاصة ما يسمح منها بتعليل مختلف الأداءات التي تبحث في أسس شرعية تطبيق معايير قانونية أو قرارات سياسية في مجتمع ديمقراطي.

ومؤلف الكتاب حسن مصدق هو باحث في مركز الشرق المعاصر وفي مركز تاريخ الفكر المعاصر. وهو أيضاً من القلائل الذين اهتموا بفكر هذا الفيلسوف وكرسوا له سنوات طويلة من البحث والدراسة.

كما أن الموضوع الذي يتناوله يمثل عرضاً لفكر واحد من أبرز الفلاسفة الاجتماعيين النقديين الذين أثروا في تفكيرنا المعاصر منذ ستينات القرن العشرين المنصرم، ولا يزال يؤثر إلى يومنا هذا.

وينهل يورغن هابرماس، في فلسفته، من التراث النقدي لفلاسفة فرانكفورت، ويعتبر هذا الفيلسوف النقدي وعالم الاجتماع الألماني، أحد كبار الفلاسفة في عصرنا الراهن، ومن المنشغلين بشكل كلّي بالشأن العام، فهو لم يتوقف من خلال ممارسته الفلسفية عن السعي إلى توصيل أفكاره الفلسفية والاجتماعية النقدية إلى مختلف المهتمين في العالم، إدراكاً منه أن الفكر النقدي لا يقصر على إقليم بعينه أو شعب، بل يخص جميع أبناء العالم.

وتتجلى أهمية هابرماس الفيلسوف في أنه فتح الفلسفة المعاصرة على نظرية التواصل، بشكلها المتميز، ثم سار بها قدماً، كي تمس السلوك الاتصالي، سعياً منه إلى تشخيص حال العالم بشكل عام، والمجتمعات الأوروبية بشكل خاص، ومحاولاً تحليل أسباب ونتائج ما يهدد الحياة الإنسانية، وبالأخص محاولات تحطيم بنيات الاتصال في خصوصياتها الإنسانية التي ترتبط بالقوى اللاعقلانية في عالم اليوم.

وشكلت اللغة هاجس هابرماس ومجال اهتمامه، فهي بالنسبة إليه وسيلة وسلوكاً اتصالياً، واستخدمها في نظريته في الفعل التواصلي، التي تنهض على الحوار والتفاهم بين مجموعة المتحاورين في مجتمع الأصدقاء، وسعى في سياق ذلك إلى الكشف عن العقل العملي، الذي يفرض علينا ما نعمله وما نتكلمه، من خلال الاعتراف بالتفاهم والحوار السلمي، وفي ظل ظروف وشروط الاختلاف الاجتماعي والثقافي.

وهدف هابرماس من ذلك كله، هو مواصلة تقاليد الأنوار، من خلال نظرية اجتماعية نقدية، تنهض على ترسيخ قيم الحرية والعدالة في الذاكرة الاجتماعية، وتربطها بقوى دولية تمكنها من تفتح نواة الخير العام، والفضاء الذي يتسع للجميع.

وينطلق هابرماس، من داخل الحداثة وخطابها الفلسفي، محاولاً إنقاذ المشروع الحداثي الأوروبي، ومستخدماً العقل كي يهدم أبنية العقل المتحجرة والمعيقة، ويحافظ على جوهر الحداثة بعقل تواصلي، مرتبط بالحداثة، ينتجها وتنتجه من خلال بناء مختلف للذات.

ويستمد هذا العقل التواصلي معطياته من العقل النقدي للحداثة، التي بينت الطبيعة الاختزالية لعقلانية الحداثة والتي ارتبطت بالعلم والتقنية. تلك الطبيعة التي أنتجها العقل الأداتي، أي العقل بوصفه مجرد أداة لا غير، ووجوده الكلاّني الذي شيّأ كل شيء يحيط به بما في ذلك العقل نفسه، والعقل التضمني الذي يحاول ابتلاع كل شيء.

وعليه وجه هابرماس نقداً شاملاً للعقل الأداتي ومركزه الفلسفي الوضعي، متبعاً دروب هوركهايمر، وأدورنو، وماركوز، وغيرهم من فلاسفة مدرسة فرانكفورت، ويقترح هابرماس «العقل التواصلي» كدرب للخروج من فلسفة الذات، من خلال «نظرية الفعل التواصلي» التي تعدّ قراءة جديدة للفلسفة الأوروبية، تظهر فيها الحداثة ـ في التحليل الأخير ـ كتحقيق لنظرية الفعل التواصلي، «على أن تفهم التواصلية خارج كل ذاكرتها الاصطلاحية وتاريخها المفهومي».

وترمي التواصلية إلى بناء مختلف للذات عبر «عقل تواصلي» يتجاوز الذات الضيقة، ويشكل نسيجاً من الذوات المتواصلة، ويستمد العقل التواصلي إمكاناته من العالم المعاش، ويؤسس عقلانية تقوم على التلاحم الذاتي، يكون فيها العقل مصدر كل القرارات. هذا العقل التواصلي مدعو إلى تجاوز عقل متمركز على الذات ووظيفته التغلب على مفارقات وتسويات نقد للعقل ذاتي المرجع، وكذلك التخلص من كل إشكالية العقلاني.

و«يتطلب الفعل التواصلي، كما تدل تسميته، تحطيم دوائر الانغلاق سواء جاءت من العبارة أو رموزها الواقعية أو ممثليها المنفذين»، بوصفه نموذج الفاعلية الموجهة نحو التفاهم وماهو أساسي في نموذج التفاهم هذا، هو الاتجاه الأدائي الذي يتبناه المشتركون في التواصل، حيث ينسقون مشاريعهم بالاتفاق فيما بينهم على أمر ما موجود في العالم، ويعول هابرماس على التوافق الفكري بين الفاعلين.

لأن الفعل التواصلي يتطلب وعياً وإرادة لتحقيقه بين «أنا» و«آخر» حيث أنا عندما أقوم بالكلام، والآخر الذي يتخذ موقفاً إزاء كلامي، نعقد كلانا، الواحد مع الآخر، علاقة بين شخصينا، في تبادل يتوسطه اللسان، يتيح للذات أن يكون لها مقابل ذاتها، كأننا متحاورون أحرار في جمهورية حرة وسقراطية.

إذاً، فالحداثة التي أفرزت فلسفة الوعي (الذات) هي التي تدعو إلى تجاوز النموذج نحو ما يسميه هابرماس بالعقل التواصلي.

ونرى أن نظرية الفعل التواصلي تحاول إعادة النظر في حراك الحداثة ومؤسساتها وإعادة بنائها من خلال الظروف التاريخية والاجتماعية التي تمر بها الحداثة، لكنها قد تصطدم لا محالة بأجهزة الحداثة السلطوية، وغائيتها، وثوابتها المتمثلة بإرادة المعرفة وإرادة التغيير وإرادة الهيمنة والتي شكلت معضلات الحداثة.

إضافة إلى ما سبق، فقد تناول هابرماس جملة من المسائل الراهنة، التي تثيرها قضايا مختلفة، كالمادية التاريخية وتطور البنى المعيارية، والتاريخ والتطور، وقضايا الشرعنة في الدولة الحديثة، ودور الفلسفة داخل الماركسية، والتطور كدياليكتيك.

إن فيلسوفاً في قامة يورغن هابرماس، يعرف جيداً أن مقاربة هذه المسائل تقتضي الاستناد إلى مقاربات العلوم الاجتماعية المعاصرة، وإلى منهجيتها، بغية الكشف عن المعيقات المفهومية، التي تقف حائلاً أمام إعادة البناء الشاملة للماركسية.

وهي فعالية بدأها منذ بداية مشواره الفلسفي في مدرسة فرانكفورت، وتتمحور حول النهوض بمهمة التخلص من الحواجز الإدراكية أمام الفاعلية التواصلية، بوصفها فاعلية للتحرر من كل مظاهر الإيديولوجيا وإحالاتها الميتافيزيقية.

ونستطيع القول إن هابرماس في سعيه لإعادة بناء الماركسية، فإنه يقحمها، أو لنقل يدمجها، في نظريته التواصلية: نظرية الفعل التواصل، مستخدماً اللغة كوسيلة وسلوك اتصالي، وكاشفاً عن العقل العملي، الذي يفرض علينا ما نعمله وما نتكلمه، كي ننجز الاعتراف بتفاهم وحوار سلمي في ظروف وشروط الاختلاف الاجتماعي والثقافي، وبواسطة نظرية اجتماعية نقدية.

وعليه يريد هابرماس ـ بعد ماركس ـ مواصلة تقاليد عصر التنوير النقدية، التي تنهض على ترسيخ الحرية والعدالة في الذاكرة الجمعية، وربطها بقوة دولية تساعد على تفتح النواة، التي لم تولد بعد، لديمقراطية أكثر شمولية. كما يريد هابرماس إعادة الصدقية للمشروع الحداثي، وكذلك مصداقية التنوير العقلاني في مواجهة التسلط والعقلانية الأداتية.

من جهة أخرى، يعتبر هابرماس الفرد والجماعة مبدأين أساسيين، لا يجوز مقابلتهما ضدياً، بل يجب النظر إليهما بوصفهما ثنائية أصلية في الديمقراطية. وبهذا يتجاوز هابرماس الفكرين: الليبرالي الذي يعلي من شأن الفرد على حساب الجماعة، والماركسي الذي يعلي من شأن الجماعة على حساب الفرد.

ويشترط القبول بمبادئ المساواة والاستقلالية، بوصفها مبادئ مؤسسة للمجتمع الديمقراطي. غير أنه إذا كان التوافق يتيح قيم الاندماج والاستقرار بين مكونات الجماعة، فإن ذلك لا يعني التسليم بأن التراضي شرط لشرعية الجماعة أو شرط لوجودها. ومن هنا لا يجوز وضع الأمة أمام الدولة ولا الدولة أمام الأمة.

ويعتقد المؤلف أن التصور الديمقراطي التواصلي الذي يقترحه هابرماس يؤكد على المؤسساتية في دولة القانون الديمقراطي وإجراءات التداول التي تلزم تقديم الحجة لتبرير شرعية القرارات.

فضلاً عن أن التصور التفاعلي يتمركز فيه التواصل ما بين الذوات المشاركة على حيازة تصور عقلاني كوني للإرادة العامة، وليس على المعتقدات الخاصة بكل جماعة.

ويتبع المؤلف أسلوب المقارنة ما بين النموذج الديمقراطي الكلاسيكي والنموذج الديمقراطي التواصلي لإعادة تأويل موضوع حماية الحقوق الفردية، إذ إن الحقوق السياسية للتواصل والمشاركة، ومنها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، يمكن اعتبارها شرطاً وضمانات لا بد منها للاستقلالية الديمقراطية، والتي لا تمكن ممارستها إلا على قاعدة الشك الدائم وإعادة السؤال فيها باستمرار.

ويبقى التفكير في شرعية القانون في المجتمعات الديمقراطية، خاصة من جهة تفعيل مقتضيات المساواة والاستقلالية بمبادئ أخلاقيات النقاش، شيئاً ضرورياً لا بد منه.

لذلك يتوجب تفعيل الديمقراطية نتيجة استمرار الصراع الدائر بين تعدد المصالح وجبروت قوى السوق والاستبداد السياسي القائم في مواضع عديدة من العالم، وخصوصاً في بلداننا العربية، حيث تأتي الديمقراطية بوصفها سؤال الضرورة للخلاص من الاستبداد وفتح الطريق أمام مختلف القوى الاجتماعية والسياسية المكبوتة للتعبير عن ذاتها.

فضلاً عن أن الديمقراطية التداولية ترسي حق المجتمع المدني بكافة مستوياته وتشكيلاته في تأسيس فضاء عام للتداول، يُقدم فيه الأفراد وجهات نظرهم والحلول التي تمكنهم من التحرر من منطق الأنظمة الشمولية المستبدة، بعد عجزها وفشلها في بناء دولة لجملة مواطنيها في حين تتيح الديمقراطية للأفراد حق إحكام تدخلهم في محيطهم وإسماع صوتهم، وتوسيع مجال الحرية والمسؤولية والمحاسبة، وهي لن تستطيع ذلك من غير الاستقلالية والمساواة اللتين تعرّفانها.

ويكمن دور فلسفة التواصل النقدي، التي اجترحها هابرماس، في نقد الديمقراطية التمثيلية، وفي محاولة تحرير مجال الاتصال الإنساني من قبضة العقل الأداتي والتشيؤ والاغتراب.

* عمر كوش

الكتاب: يورغن هابرماس ومدرسة

فرانكفورت ـ النظرية النقدية التواصلية

الناشر: المركز الثقافي العربي

بيروت ، الدار البيضاء 2005

الصفحات: 270 صفحة من القطع الكبير