الخسائر 14000 قطعة أثرية نادرة، الرجل الذي حذر العالم من نهب متحف بغداد يروي القصة

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاحد 10 ربيع الاول 1424 هـ الموافق 11 مايو 2003 فيما كان اللصوص يقومون بنهب متحف بغداد في أعقاب سقوط صدام حسين، كان على دوني جورج ـ الرجل المسئول عن سلامة محتوياته التي لا تقدر بثمن ـ أن يراقب الوضع بهلع وأن يطلق عيارات من الرصاص في محاولة لاثنائهم عن ذلك. وعلى الرغم من نجاته الا أن غالبية القطع الأثرية لم تسلم من النهب أو التهشيم. وبالتالي ألا يكون من حقه أن يحلم باعادة بناء ما يحتوي عليه المتحف العراقي من ثروة وطنية؟ يدمدم دوني جورج وهو يضع يده في جيبه ثم يستل قصاصة من الورق المسطر، منزوعة من اضمامة «لست أدري لماذا أستمر في حملها أينما ذهبت؟ الخربشة على تلك الورقة بقلم الحبر الجاف بالنسبة لجورج القائم بأعمال المدير والدكتور جابر خليل عضو هيئة الآثار العراقية هي بمثابة الطلب الذي يتم تقديمه من أجل الحصول على اذن بالدخول المجاني الى متحف بغداد، فهي تحمل توقيع لفتنانت كولونيل ب. اي. زاركون، الضابط المسئول عن الشئون المدنية بالكتيبة الأولى من مشاة البحرية. كان ذلك في 13 ابريل الماضي. حين وصلت الى الرجلين اللذين كانا يحتميان من المعارك في المنازل القريبة، أخبار تفيد بأن المتحف كان قد تعرض للنهب لينجحا في الوصول الى فندق فلسطين حيث يوجد مركز القيادة التابع للقوات البحرية. وعلى الرغم من ان لفتنانت كولونيل زاركون كان قد أكد في حينه أنه سيصدر للقوات الاميركية الموجودة هناك أمراً بحماية المتحف، الا أنهما ما أن وصلا الى الموقع حتى تبين لهما للتو أن الوقت قد فات. كانت «جريمة القرن» كما يصفها جورج قد انتهت. كانت الجريمة قد وقعت أيام الخميس والجمعة والسبت، حيث كانت أعداد من الذين يقومون بالنهب تصل في مجموعات أو عصابات، ثم تحمل معها الى خارج المتحف كل ما يمكنها سرقته، وتهشم ما لايمكنها حمله، الدبابات الاميركية القريبة لم تفعل شيئاً لايقافهم. ولم يبال الجنود الموجودون على ظهرها بالنداءات المحمومة التي أطلقها العاملون في المتحف من أجل التحرك لمسافات قصيرة واغلاق المدخل. لم يكن ذلك مجدياً. اذ لم يكونوا قد تلقوا أوامر للقيام بذلك. عاد جورج الى فندق فلسطين مرة أخرى، واستعار من فريق القناة الرابعة بالتلفزيون البريطاني هاتفاً يعمل بواسطة الأقمار الصناعية واتصل بصديقه جون كورتس في المتحف البريطاني. قلت له: اننا موجودون هنا بلاحماية، لقد نهب المتحف، ونحن خائفون من عودة اللصوص مرة أخرى، وربما من اشعال النيران في المبنى. وأعتقد أن نيل مكجريجور مدير المتحف البريطاني وجون كورتس قاما باتخاذ اجراء على مستوى أعلى. أعتقد بأن أنهم ربما تحدثوا الى بلير الذي تحدث بدوره الى كولن باول. ورغم مجيء الدبابات المكلفة بحراسة المتحف، الا أنها لم تصل الا بعد ثلاثة أيام. كان جورج شاهداً رئيسياً في المؤتمر الطارئ حول الآثار العراقية الذي عقد في المتحف البريطاني بلندن لمدة يوم واحد. وعلى الرغم من أن ما آلت اليه أوضاع المتحف العراقية وما تبقى من آثار أقدم المدن والكتابات التي عرفتها الانسانية كان قد روع العالم،الا أن جورج لم يقم بتوزيع الاتهامات. فهو شخص هادئ رزين،يميزه حاجبان اشيبان، وعلى الرغم من أنه يسرد الأحداث المؤلمة كما هي الا أنه يقولها دون ان تظهر على وجهه علامات الاستياء. والواقع أن العراق بلد محترم، وبالتالي فهو لن يضطر الى قول الكثير. قلت له عند نقطة معينة: كما تعرف، الكثيرون هنا كانوا يعتقدون بأن قرار الحرب خاطئ تماماً. «ورغم أن عينيه التمعتا قليلاً الا أنه لم يعلق على ذلك. كان سكونه ملفتاً على نحو استثنائي، لأنه كان قد مرّ بذلك كله من قبل. في سنة 1991، وفي أعقاب حرب الكويت، أقدمت مجموعة من الغوغاء على نهب تسعة من المتاحف العراقية في المحافظات. يقول» لقد فقدنا ما يربو على 4000 قطعة من المنتوجات الابداعية «في هذه المرة كان عددها يصل الى أكثر من 14000». وحتى المباني كانت بحاجة على ترميم. كان ذلك شبيهاً بما يحدث الآن، المجموعة نفسها من الناس. وقد قتل أيضاً ابن مدير متحف العمارة فيما كان يقف أمام المبنى، وكاد مدير متحف كركوك أن يلقى حتفه هو الآخر. كان جورج قد تعرض لاطلاق النار في مرات عدة لدى محاولته ايقاف أعمال النهب. وباختصار، فقد كان يدرك جيداً ما يتوقع حدوثه في أعقاب اندلاع الحرب الأخيرة، وقد حذر منه العالم مراراً وتكراراً. لم ينهب يسرق الناس بهذا الشكل؟ لقد هز الغرب لدى مشاهدة ما تم تصويره على أنه» الأمة التي كانت تحطم موروثها الحضاري. أما هو فيرى أن الأمر مختلف» لقد شاهد الناس الأميركيين وهم يطلقون النار على بوابات القصور التي يمتلكها صدام وبعد ذلك يفتحون الأبواب للناس قائلين لهم «هيا تعالوا وخذوا هذه الأشياء، لقد أصبحت ملككم الآن. وهكذا فقد بدأوا، وتحول الأمر الى شكل من أشكال الثورة العارمة التي كانت تجتاح الناس كلما قام هؤلاء بمهاجمة مبنيً من المباني الحكومية. وعلى الرغم من أنني لا أجد لهم العذر، الا أنه كما تعرف، بعد 30 سنة من نظام كهذا، فان القمع يولد الانفجار. غالبيتهم لم يكونوا من المتعلمين، وبالنسبة لهم لم يكن المتحف ليعني أكثر من مبنى حكومي يضاف الى بقية المباني الحكومية الأخرى. لم يستول هؤلاء على الآثار القديمة فقط، وانما على 95% من أثاث المكاتب وأجهزة الكمبيوتر، وغالبية آلات التصوير. لقد أغرق مكتبي بالأوراق؛ وكسرت طاولتي الى ثلاثة أجزاء وعثرت على الكرسي الذي كنت أجلس فوقه في مكان يقع على بعد 100 ياردة.الا أنه كان هناك نوع آخر من اللصوص. أولئك الذين كانوا يعرفون تماماً ما يريدون، ليتجاهلوا التماثيل المزيفة والأشياء التافهة ويهرعوا الى البحث في المستودعات والمخازن المقفلة. لقد عثرنا على قاطعات زجاج وأطقم مفاتيح. كانوا قد وصلوا الى هناك بواسطة طريق خلفية، مخترقين بوابتين من الفولاذ وجداراً من الآجر المضغوط. من الواضح أنه كانت تتوفر لديهم خارطة مفصلة للمبنى». وعلى الرغم من عدم توفر معلومات كافية عما أخذوه الى الآن، الا أن هؤلاء كانوا لصوصاً محترفين لهم فريق من العملاء الذين يقفون على قائمة الانتظار، وما هي الا فترة وجيزة حتى تحتكم أسواق بيع الآثار العالمية على كنوز أور والنمرود وبابل. الا أن جورج ما زال يشعر بالتفاؤل على الرغم من ذلك «أعتقد أن الجهود المبذولة لمنع هذه المواد من الوصول الى السوق أصبحت الآن أكثر فاعلية بالمقارنة بما كانت عليه بعد سنة 1991. كما أن المتاحف العالمية ستمتنع عن شرائها. وحدهم هواة جمع التحف الشخصية يشكلون خطراً.ان علاقات جورج بريطانيا والمتاحف الغربية الكبرى تعود الى زمن بعيد. فقد ولد قبل 52 عاماً في قاعدة «سلاح الجو البريطاني» بالحبانية، حيث كان يعمل والده محاسباً، وهولايرى أي خطأ في وجود علماء الآثار الأجانب في بلاد الرافدين. ويضع ربطة عنق ألمانية أنيقة تحمل صورة التنين موشوشو، الحيوان المدلل الذي كان يفضله الاله مردوخ، الذي تجسد صورته المرسومة على بوابات بابل القرميدية فخر المجموعات الألمانية. ولكن هل يعتقد أن افريز الصيد الآشوري الكبيرالموجود في المتحف البريطاني يجب أن يعاد الى العراق ؟ «رغم أن هناك من يطالب باعادته،الا أنني أعتقد بأن علينا أن ننظر اليه على أنه قرض طويل الأمد تم تقديمه لبريطانيا حيث يتسنى للكثيرين أن يشاهدوا عظمة بلاد الرافدين.تساءلت عن المشاعر التي يحملها بعض علماء الآثار البريطانيين لدى سماعهم بأن بريطانيا وأمريكا قد فقدتا الحقوق الأخلاقية التي تسمح لهما باستئناف التنقيب في العراق فأصابته الصدمة لذلك «ان لدينا موروثاً يعود للانسانية كلها، كما أن البعثات البريطانية والأميركية كانت تتقاسم ذلك باستمرار.البريطانيون في نينوى، والأميركيون في الأنبار ـ هؤلاء هم أصدقاؤنا. خلال الأيام الأولى التي أعقبت أعمال النهب، توجه هو وفريقه الى المساجد القريبة وطلب من الأئمة أن يطلبوا من الناس أن يعيدوا المسروقات «كان ذلك مجدياً! لقد أعيدت طابعة جهاز الكمبيوتر الذي يخصني، وعدد لابأس به من تماثيل نمرود المصنوعة من العاج، المطلي بعضها بالذهب». وذات يوم، حضر رجلان امتنعا عن ذكر اسميهما وأرادا التحدث الى جورج بمفرده وأخبراه بأنهما كانا موجودين في المتحف ساعة تعرضه للنهب فقررا أن يأخذا الأشياء لحفظها في منزليهما. كما أخبراه بأنهما سيعيدانها، حالما تستقر الأوضاع. وقد حضرا بعد يومين، بعد وصول الدبابات الاميركية المكلفة بحراسة المتحف الى هناك أخيراً. كان بحوزتهما، تمثال شلمانصر الثالث المهشمة أجزاؤه الى قسمين، مخطوط حجري باللغة المسمارية، لوحان يحتويان على نقوش سومرية يصل عمرها الى 6000 عام والكثير من الأشياء التي يمكن حملها. يقول «رغم أننا لم نسأل على الاطلاق عن هويتيهما أو مكاني اقامتيهما، الا أنني أريد أن أقول هذا الشيء:ان هؤلاء هم العراقيون الحقيقيون. بقلم: نيل أتشيرسون _ ترجمة: مريم جمعة فرج عن «جارديان»

Email