كتاب ـ واشنطن والعالم معضلات قوة عظمى ـ الحلقة الثالثة ـ القيم... هي المصالح، واشنطن تؤكد رفضها الاعتراف بأي سلطة في العالم تتجاوز مصلحتها

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاحد 10 ربيع الاول 1424 هـ الموافق 11 مايو 2003 منذ أن أصبحت الولايات المتحدة قوة عالمية، أي منذ الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) أخذ التعارض التقليدي بين أنصار السياسة الواقعية، على الطريقة التي عبّر عنها هنري كيسنجر في كتاباته وبين دعاة الليبرالية المهيمنة صيغة التأكيد على دور المنظمات والهيئات الدولية أو رفضها، أي ان التعارض كان في واقع الأمر بين دعاة التركيز على أميركا والاهتمام بقضاياها فقط وبين أصحاب التأكيد على دورها العالمي. وكان الرئيس ولسون هو مؤسس عصبة الأمم المتحدة، وكان رئيس دولة كبرى، لكنه واجه مقاومة كبيرة من أنصار تيار الانكفاء والعزلة، مما حدّ من التوجه الولسوني. لكن الأزمة الاقتصادية الكبرى لعام 1929 ثم اندلاع الحرب العالمية الثانية أقنع الأميركيين المنتصرين والأقوياء بضرورة تأطير المنظومة الدولية عبر تزويدها بمؤسسات متعددة الأطراف يمكن للولايات المتحدة أن تتمتع بقدرة تعطيل القرارات التي لا تلائمها. هكذا تمّ بالتوازي تأسيس نظام «بريتون وود» على الصعيد الاقتصادي مع مؤسسات أساسية تمثلت في صندوق النقد والبنك الدوليين. أما على الصعيد الأمني فقد تأسست منظمة الأمم المتحدة التي ضمّت «مجلس الأمن الدولي» الذي يتمتع الأعضاء الدائمون فيه باستخدام حق النقض (الفيتو) و«الجمعية العامة للأمم المتحدة». وقد أضيف لهذه المنظمة عدد من المؤسسات المختصة مثل «المنظمة العالمية للصحة» و«منظمة التغذية والزراعة» وغيرهما. مع سيادة أجواء الحرب الباردة، في ظل الاستقطاب الثنائي الدولي، تراجعت فكرة وجود عالم موحد تديره المؤسسات الدولية التي تمارس فيها الولايات المتحدة دوراً مسيطراً، لكن مثل هذه الرؤية استمرت مع ذلك، بل وتأكدت داخل المعسكر الغربي. وكان مشروع مارشال لاعادة إعمار أوروبا بعد الحرب والمنظمة الغربية للتعاون الاقتصادي ومنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) بمثابة تعبيرات عن رغبة المحافظة على شعار وجود مجموعة ليبرالية ومتعددة الأطراف، لكن الشكوك بدأت تحوم على منظمة الأمم المتحدة منذ تنامي حركات التحرر الوطني ونيل عدد من الدول لاستقلالها السياسي بعد اجلاء الاستعمار عنها مما تتبعه خسارة الأغلبية المعهودة في الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي كان الأميركيون يريدون أن يستخدموها بعد الحرب الكورية للحد من فاعلية مجلس الأمن الذي كان يتمتع السوفييت باستخدام حق النقض فيه، وبالتالي يستطيعون جعله مشلولاً. حوار شفاف نسبياً لكن بعد حرب الخليج (1991) رأى البعض ان ساعة التوصل الى أمن جماعي قد دقت، وهذا ما بدا في خطابات جورج بوش الأب الرئيس الأميركي آنذاك، ووضع بعض المنظّرين آمالهم بالاستفادة من دروس السيطرة على التسلح، أي بقيام حوار شفاف نسبياً وتعاوني بين الخصوم المحتملين على خلفية اقناعهم بأنه من الملحّ على الأقل محاربة خطر السباق للتسلح أو نشوب أي حرب أكثر من التعارض فيما بينهم، وكان مثل هذا الأمل قد قام بعد أن كانت قد خفتت الآمال بالوصول إلى أمن جماعي تمّ تفهمه على أساس انه تدخل المجموعة الدولية كلها ضد أي اعتداء. وكان مايكل ماندلبوم قد رأى ان «فجر السلام في أوروبا» قد أطلّ مع توقيع عدد من الاتفاقيات بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، التي تخلّت عن موقعها كقوة عسكرية هجومية. يقول «ماندلبوم» في مقال له حول «السلام والديمقراطية والأسواق الحرّة في القرن الحادي والعشرين» نشره في مجلة «بوبليك افيرز» عام 2002 ما مفاده: «لقد ولجت أوروبا القرن الحادي والعشرين مع وجود منظومة أمن جماعي تنتهج الدول الأعضاء فيها سياسات دفاعية متشابهة ومنسقة وحيث كانت الفكرة الأساسية هي ان الأمن يشكل مسألة يمكن حلّها بطريقة أفضل بواسطة بذل الجهود المشتركة. ويقوم جوهر هذه المنظومة على سلسلة من الاتفاقيات الرامية الى تحديد التسلح. هذه الاتفاقيات كلها أعادت صياغة القوى المسلحة للخصوم في ظل الحرب الباردة على أساس مبدأين يحددان معاً الأمن الجماعي. يقول المبدأ الأول بأولوية المسألة الدفاعية، بحيث يتم تنظيم ونشر القوات المسلحة من أجل الدفاع عن البلاد وليس من أجل الهجوم على أراضي الجيران واحتلالها. ويخص المبدأ الثاني قضية الشفافية بحيث ينبغي أن تتمتع كل دولة بامكانية معرفة ما تمتلكه الدول الأخرى من قوات مسلحة وكيف وأين يتم نشر هذه القوات. «إن نظام الأمن الجماعي هذا يمثل بالنسبة للسلام والحرب ما تمثله الديمقراطية بالنسبة للسياسة وما يمثله السوق بالنسبة للاقتصاد، أي انه يمثل صيغة تسمح بتحقيق هدف يصبو الجميع إليه. وإذا كانت الوسائل الليبرالية في السياسة والاقتصاد هي السبيل للوصول الى الحرية والازدهار، فإن الأمن الجماعي هو آلية الوصول الى السلام، شأن الديمقراطية والسوق، يقوم على مفهوم المشاركة الارادية، ولكن بين الدول وليس بين الأفراد. وتعود أصوله، مثل الديمقراطية والسوق ايضاً الى الفكر الانجلوسكسوني، وهو ابداع حديث لم يكن بالامكان تصوره قبل القرن التاسع عشر ولم يكن تطبيقه ممكناً قبل نهاية الحرب الباردة». النموذج الأوروبي يولي آخرون اهتمامهم لنموذج «الاتحاد الاوروبي» وامكانية تطبيق آلياته على صعيد التجارة الدولية والتوازن النووي ونظام النقد الدولي وأنظمة الصيد البحري والملاحة الجوية، أي في جميع هذه الحالات امكانية الوصول الى صيغ من التعاون بعيداً عن أي هيمنة لطرف من الأطراف الأخرى. لكن المعارضين لمثل هذه الرؤية في مراكز القرار يعتبرون انه لا يمكن للمؤسسات الدولية أن تقدم سوى «وعود وأهمية» ذلك ان منطق المصالح القومية والوطنية وموازين القوى يكون لهما دائماً الغلبة، وانه في غياب تحديات تستهدف المصالح الحيوية فإن القوة الأميركية المهيمنة سترفض الالتزام، أي التزام، على المدى الطويل، كما انه في حالة غياب القوة المهيمنة في العالم فإن المنافسات والنزاعات ستعود من جديد وحتى في أوروبا ذاتها. وكان جون وسهايمر قد كتب في عمل له نشره عام 2001 تحت عنوان «تراجيديا سياسات القوة العظمى» ما مفاده: «تقوم بنية المنظومة الدولية على خمس فرضيات أساسية حول تنظيم العالم وتعتمد على الوقائع التالية: 1ـ الدول هي العناصر الحاسمة في السياسة العالمية، وهي تعمل في اطار من الفوضى. 2ـ تمتلك القوى الكبرى باستمرار قدرة ما على القيام بهجوم عسكري. 3ـ لا يمكن لأية دولة أن تتيقن من انه ليست هناك دول أخرى تضمر حيالها نوايا عدوانية. 4ـ تولي القوى الكبرى أولوية مهمة لبقائها. 5ـ تمتلك الدول بعداً عقلانياً نسبياً يجعلها قادرة على رسم استراتيجيات تزيد حظوظ بقائها.«هذه السمات التي يتصف بها النظام الدولي يبدو أنها لا تزال قائمة تماماً في مطلع هذا القرن العشرين، إذ لا يزال العالم يشتمل على دول تتصرف في اطار فوضوي، كما ان الأمم المتحدة أو أي مؤسسة دولية أخرى لا تمتلك أي سلطات زاجرة حيال القوى الكبرى. وكل دولة من الدول تقريباً تمتلك قدرة هجومية عسكرية ما، ولا يبدو ان نزع السلاح العالمي مطروحاً في الأفق القريب. بل على العكس يبدو وبوضوح ان تجارة الأسلحة هي في ازدهار كبير والسلاح النووي يتكاثر، وفي الوقت نفسه ليس بمقدور الدول الكبرى أن تعرف نوايا بعضها البعض، فمثلاً ليس هناك من يستطيع ان يتنبأ بما ستصبح عليه أهداف السياسة الخارجية للصين أو لألمانيا في أفق عام 2020، وليس هناك ما يدل على أن مفهوم البقاء هو اليوم أقل مما كان عليه قبل 1990 في الأهداف التي تحددها الولايات المتحدة الأميركية لنفسها. وليس هناك أي سبب للاعتقاد بأن الفكر الاستراتيجي لدى القوى الكبرى قد قلّ شأنه منذ نهاية الحرب الباردة. وبشكل عام، إذا كانت الصورة القائمة للقوى في أوروبا وشمال شرق آسيا تبدو قليلة العدائية، فإن مثل هذا الوضع لن يستمر عشرين عاماً. ففي أوروبا يتمثل السيناريو الأكثر احتمالاً هو ان أميركا سوف تنسحب من القارّة، وبالتالي سوف تبرز ألمانيا من جديد كقوة مسيطرة. أما في شمال شرق آسيا فإن الوضع سوف يتطور بالتأكيد حسب أحد المنحيين التاليين، فإما لا تصبح الصين قوة مسيطرة كامنة، وبالتالي قد تسحب الولايات المتحدة عندها قواتها من المنطقة، مما سيجعل من اليابان قوة مهمة، ولكن سيبقى النظام الاقليمي متعدد الأقطاب ومتوازناً. مع ذلك ستغدو مسألة الأمن أكثر الحاحاً مما هو عليه اليوم بسبب المشكلات المرتبطة باستبدال الولايات المتحدة باليابان في النسق الاقليمي للقوى الكبرى. وإما أن تصبح الصين قوة مسيطرة كامنة مما سيؤدي الى اختلال التعددية القطبية الاقليمية، وبالتالي سوف تحتفظ الولايات المتحدة عندها بقواتها في المنطقة من أجل موازنة كفة الصين». حول الاحادية القطبية يستمر النقاش في أميركا حول غايات وأهداف السياسة الخارجية وحول وسائلها. فمن جهة ينطرح السؤال عمّا إذا كان ينبغي للولايات المتحدة أن تعطي الأولوية للأهداف القومية أو للأهداف الدولية الشاملة؟ومن جهة أخرى ينطرح السؤال الخاص بمعرفة ما إذا كان ينبغي ترجيح حرية العمل والتحرك ـ أي التصرف بشكل منفرد بالأفضل ـ أو البحث عن الاجماع والقواعد المشتركة ـ أي التنسيق مع القوى الأخرى، وربما عن طريق المؤسسات الدولية؟ لكن الاجابة عن هذين السؤالين لن تكون وافية وحاسمة لتحديد حقيقة أهداف السياسة الخارجية الأميركية، إذ يمكن أحياناً القيام بتصرف منفرد تحت لافتة المعايير الكونية والأهداف الدولية مثلما طرحت الولايات المتحدة حيال العراق، أو ربما يتم البحث عن تحقيق مصالح قومية وأنانية عبر تبني استراتيجية متعددة الأطراف أو تحت غطاء المؤسسات، لكن القاعدة العامة هي ان الممارسة المنفردة للسلطة قد تؤدي في أغلب الاحيان الى عدم أخذ مصالح الآخرين حقاً بالحسبان أو ترجمتها بطريقة لا يرون أنفسهم بها. وعلى العكس تؤدي عملية التنسيق وآليات تعدد الأطراف الى ايجاد نوع من التوفيق بين المصالح المختلفة.وقد ساد الشعور بتنامي الميل نحو ترجيح مفهوم «الطرف الوحيد» في ظل رئاسة بيل كلينتون وخاصة اعتباراً من عام 1994، ففي البداية كانت ادارة كلينتون تقول بـ «تعددية اطراف متشددة» واعطت مثل ادارة جيمي كارتر الديمقراطية السابقة اهتماما كبيرا لحقوق الانسان وللقضايا ذات النفع العالمي العام مثل مشكلة البيئة، لكن اعضاء الكونغرس الجدد من الجمهوريين وزملائهم عابوا على ادارة كلينتون اهمالها للمصالح الاميركية لصالح رؤية قالتها مجموعة دولية «غير موجودة» كما عابوا عليها قيامها بمفاوضات وتوقيع اتفاقيات تحد من حرية حركة الولايات المتحدة وتمنعها من استخدام وسائل الضغط التي تملكها لدرجة ترغم الآخرين، دولا كانوا ام غير دول، للانصياع لارادتها.وكما قال هنري كيسنجر: «ان ما تم تقديمه من قبل النقاد الاجانب على انه بحث اميركي عن السيطرة كان في حالات كثيرة ردا على مجموعات ضغط داخلية، وكانت هذه المجموعات بدفع من الكونغرس تدعو لتبني سياسة خارجية اميركية متفردة ومتشددة.ذلك لانه وعلى عكس المخاطبات الدبلوماسية التي تكون عادة دعوة للحوار، جاءت القرارات التشريعية بمثابة اوامر صادرة ينبغي العمل بها او رفضها، اي كانت ما يعادل عمليا انذارات اخيرة، هكذا كانت مثلا العقوبات المفروضة على الشركات التي لا تحترم اجراءات المقاطعة ضد كوبا (قانون هيلمز ـ بورثون الشهير عام 1996)، وضد ايران وليبيا (قانون داماثو ـ لينيدي 1996) كما هدد بعض الاعضاء النافذين في الكونغرس الاميركي بالقيام بعمليات رد رادعة ضد الدول التي توافق على مشروع اقامة محكمة جنائية دولية (وقعت عليه بلدان الاتحاد الاوروبي ووافق عليه كلينتون ولكن ورفضه بوش). لكن الانشغال اكثر، وخاصة من زاوية الامل، بالمصالح المباشرة للولايات المتحدة مما هو بمصالح الانسانية على المدى الطويل او بما يشهده العالم من بؤس، لم يكن مقتصرا على الكونغرس وعلى الجمهوريين، ان خبيرين كبيرين من اعضاء ادارة كلينتون هما «وليام بيري» وزير الدفاع ميّزا عام 1999 بين ثلاث فئات من المصالح القومية حسب الاهمية التنازلية.الفئة الاولى تخص المصالح التي تمس مباشرة بقاء الولايات المتحدة وحلفائها، وتشمل الفئة الثانية المصالح الاستراتيجية المهمة عسكريا واقتصاديا، اما الفئة الثالثة والاخيرة فتخص دائرة المصالح الأبعد والأكثر احتمالا للنقاش مثل المحافظة على السلام او حماية الشعوب المضطهدة في مناطق ليست حيوية بالنسبة للولايات المتحدة. لقد تبع هذا نقاش كبير خاصة مع «لجنة المصالح القومية الاميركية» التي اقترحت ضرورة التمييز بين المصالح والقيم. ذلك ان المصالح وحدها يمكن ان تبرر اللجوء الى القوة ـ مثلا مثل الوقاية من هجوم يستهدف الولايات المتحدة او بروز قوة مهيمنة معادية في اوروبا او آسيا او بروز قوى معادية على تخوم الولايات المتحدة او تلك التي تؤمن السيطرة على المحيطات في الوقت نفسه ثم اعتبار مسائل تشجيع حقوق الانسان والديمقراطية والتنمية بمثابة مهام «أقل اهمية في الاولويات الاميركية» لكن بالتعارض مع هذه المقولة اعتبر مفكر مثل «ستانلي هوفمان» بان التمييز بين المصالح والقيم انما هو تمييز «سطحي» ذلك انه يتم تحديد المصالح بواسطة القيم الخاصة بمختلف الانظمة او الاحزاب السياسية وايضا بقضايا بقاء الانسانية عبر الوقاية من حرب نووية ومن الجرائم ضد الانسانية وضد المجازر الجماعية. ان المشاكل المرتبطة بالنظام الدولي هي على الاقل بنفس الدرجة من الالحاح والضرورة بالنسبة للولايات المتحدة الاميركية نفسها التي تكتسبها المصالح الاميركية بالمعنى الدقيق للكلمة. ولقد تبنى جوزيف ناي موقفا وسطا كالعادة اذ اعتبر بأنه من الخطأ اعتبار المصالح الانسانية بمثابة مصالح هامشية.ذلك على اساس ان اي تعريف حديث للمصلحة القومية وخاصة بالنسبة للقوة العظمى الاميركية، ينبغي ان يتضمن الابعاد الاخلاقية والسياسية التي تسمح للولايات المتحدة اعطاء الشرعية لأرجحية دورها عبر تأمين المصالح العامة كالسلام والعدالة للآخرين، لكنه يعتبر بنفس الوقت بأن مسألة الامن ينبغي ان تبقى دائما في رأس الأولويات .. مثلما كان الامر بالنسبة للمنافسة عندما كان التهديد السوفييتي قائما، كذلك يرى ان النضال ضد الانتشار العشوائي للسلاح النووي والرقابة عليه بما في ذلك في روسيا له اولويته بالقياس الى خروقات حقوق الانسان في الجمهورية الشيشانية او غيرها.من هنا يمكن فهم واقع ان اعداء اشداء سابقين للاتحاد السوفييتي لا يولون اليوم اهمية كبيرة للسياسة القمعية التي تنتهجها روسيا، انطلاقا من اللحظة التي يمكن ان تكون فيها نافعة للمصالح الاميركية في ميدان النضال ضد نزعة التشدد الاسلامية وضمن اطار المعارضة بين المصالح والقيم بدت احداث 11 سبتمبر 2001 بمثابة مفاجأة كبرى بالنسبة للقائلين بمثل هذا التعارض وقد كتب «اوين هاريس» المدير الفخري لمجلة «ذي ناشونال انترست» ذات الميول المحافظة يقول: «اخيرا تمت العودة الى الوقائع بالقياس الى الافكار اليوثوبية المثالية ذات الطابع الشمولي». ضمن هذا السياق ليس مستغربا ان يكون الاكثر حماسا لأولوية المصلحة القومية هم انفسهم الاكثر تشددا للاحادية القطبية واكبر اعداء المؤسسات الدولية، وهذا الموقف يبدو بأكثر اشكاله جذرية واستعراضا حيال المحكمة الجنائية الدولية التي تشكلت من قبل معاهدة روما في شهر يوليو 1998 ولم يكتف الرئيس جورج دبليو بوش، مثل سابقه، بعدم عرضها على مجلس الشيوخ للتصديق عليها، بل انه ذهب الى حد سحب التوقيع الاميركي الذي كان كلينتون قد قام باقتراحه. لا شك بأن اغلبية الدول الكبرى ـ باستثناء بريطانيا ـ لم تبد حماسها حيال المشروع وسعت لحماية نفسها من التعرض لادانات قد تصيب رعاياها وتشل من قدراتها على التدخل الخارجي، لكن بالنسبة للجناح الذي يؤكد على مقولة السيادة وعلى الاحادية القطبية والذي يبدو انه ينال رضا الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش فانه يرفض فكرة القانون الجنائي الدولي نفسها بقوة وكذلك مفهوم القانون الدولي الانساني او على الاقل تطبيق هذه القوانين المحتمل في الولايات المتحدة الاميركية وقد عبر عن هذا الوضع متهكما «شارل كروزامر» عندما قال: «ان خط الخلاف الاساسي في مفاهيم السياسة الخارجية يفصل اولئك الذين يعتقدون بالورق واولئك الذين يعتقدون بالسلطة، وكانت مدرسة الورق هي التي حكمت خلال عقد التسعينيات، وهذا ما يؤكده ايضا المتشددون حيال مسألة السيادة، مع ما يحمله هذا الامر من مفارقة اذ كانت الولايات المتحدة، من وجهة نظر نظرية وعملية ايضا في اصل قيام المحاكم الجنائية في نورمبرج وفي لاهاي، وفي قيام منظمة الامم المتحدة والمشاركة الفعالة في صياغة ميثاقها. الاحادية والتعددية معا لكن من الصحيح ايضا القول الاحادية والتعددية معا قد رفضت باستمرار الاعتراف بأي سلطة اعلى من سلطة دستورها كما انها لم تصادق وحتى في ظل الرؤساء الديمقراطيين، الا جزئيا وبشكل متأخر على عدد من الاتفاقيات الاساسية للقانون الدولي الانساني ـ لم توقع مثلا على الاتفاقية الخاصة بالالغام ضد الافراد، ورفضت الانصياع لقرار محكمة العدل الدولية في لاهاي بخصوص نزاعها مع حكومة نيكاراغوا التي اشتكت من دعمها لمتمردي الـ «كونتراس» اما بالنسبة لأعمال تدخلها في الخارج فقد اعتبرت الولايات المتحدة دائما بأن موافقة منظمة الامم المتحدة مرغوب بها ولكنها ليست الزامية، وهذا ما كانت مادلين اولبرايت، وزيرة الخارجية سابقا، قد لخصته بالقول: «نقول بتعددية الاطراف عندما نستطيع ذلك وبالاحادية عندما ينبغي علينا التحرك»، ان مثل هذه المقولة جرى في الواقع عكسها بظل ادارة الرئيس بوش الحالية، هذا ما تدل عليه قائمة الاتفاقيات التي جرى عدم المصادقة عليها، مثل اتفاقية كيوتو حول البيئة، واتفاقية موسكو حول الاسلحة المضادة للصواريخ والاتفاقية الخاصة بالاسلحة البيولوجية مما يؤكد على تفضيل العمل بمبدأ الاحادية القطبية. وحيال التصورات المختلفة للنظام الدولي تبرز مواقف متطرفة يصل بعضها الى قول مجموعات من اليمين المحافظ، بان منظمة الامم المتحدة تسعى وبالتواطؤ مع واشنطن احيانا، لاحتلال الولايات المتحدة واقامة حكومة عالمية، ويذهب المتطرفون في التفاؤل الى الاعتقاد بأن السلام سيحل عبر تطبيق القانون الدولي وبانتظار ذلك تبقى الامم المتحدة هي وحدها التي تملك شرعية استخدام القوة، اما داخل الادارة الحالية فان النقاش يدور بين اولئك، مثل كولن باول، الذين يؤكدون على فائدة اللجوء الى تحالفات واسعة ومرنة الى اقصى درجة ممكنة تحت قيادة الولايات المتحدة واولئك، من امثال ريتشارد بيرل، الذين يرون بأنه كان يمكن ضمن بعض الحدود سحب الفائدة من تعددية الاطراف في ظل الحرب الباردة لكن ليس لها سوى السيئات بعدها وفي عصر التفوق الاميركي، كما يرى هؤلاء بأن منظمة الامم المتحدة هي جمعية غير مسئولة لدول ضعيفة غالبا واستبدادية ومعادية للولايات المتحدة ولاسرائيل. تأليف: بيير هاسنر وجوستان فايس ـ عرض ومناقشة: د. محمد مخلوف

Email