كتاب ، واشنطن والعالم معضلات قوة عظمى، الحلقة الثانية، تأليف: بيير هاسنر وجوستان فايس، عرض ومناقشة: د. محمد مخلوف

ت + ت - الحجم الطبيعي

السبت 9 ربيع الاول 1424 هـ الموافق 10 مايو 2003 إلى أين تمضي أميركا؟ إنها القوة العظمى الوحيدة في عالم ما بعد الحرب الباردة، هذه مسألة لا يختلف عليها اثنان، لكن في هذه الفترة بالذات يحتدم النقاش داخلها حول توجهات سياستها الخارجية، هناك الصقور وهناك الحمائم، لكن هناك أيضاً من يقف بين هؤلاء وأولئك.. هناك الامبرياليون الجدد والمحافظون الجدد ودعاة الانكفاء على الذات. والقائلون بالأحادية القطبية العالمية، والقائلون بتعدد الأقطاب، وبين هؤلاء جميعاً، بل وربما بهؤلاء جميعاً ، يتحدد مستقبل المنظومة الدولية في الأفق المنظور. في هذا الكتاب يقوم باحث ومؤرخ بمحاولة رصد آليات اتخاذ القرارات على صعيد السياسة الخارجية الأميركية، وذلك بالاعتماد على وثائق ونصوص أساسية صادرة عن هيئات أو شخصيات فاعلة في مراكز القرار السياسي بالولايات المتحدة. فهيا بنا نتابع كيف تتم صياغة واشنطن! رؤية أميركا للعالم ورؤيتها لنفسها لا تنفصمان احداهما عن الأخرى. إن الولايات المتحدة عرّفت نفسها أولاً وقبل كل شيء من خلال علاقتها مع العالم وعرّفت في الوقت نفسه العالم من خلال رؤيته لها. وكانت قد قدّمت لنفسها باستمرار في مواجهة أوروبا المستبدة والمحاربة، على انها احدى حالتين، فإما تعتبر نفسها بمثابة «أرض موعودة» أو بمثابة «المدينة فوق التل» من أجل أن تقدّم ملجأ للمضطهدين ونموذج حكم ديمقراطي للعالم، وإما تعتبر نفسها كدولة لها مهمة «كونية» وعليها أن تجعل العالم كـ «ملاذ للديمقراطية» حسب تعبير الرئيس الأسبق ولسون. لاشك ان القليل من الأميركيين من أمثال روزفلت ونيكسون وكيسنجر، يرون الولايات المتحدة بمثابة مجرد قوة بين قوى أخرى، وإذا كان البعض قد أعلن من الخارج عن «نهاية الاستثناء الأميركي» فإن مثل هذه الفكرة لم تجد أبداً أرضاً صلبة ولم يكن من شأن أحداث 11 سبتمبر إلا أن عززت اعتقاد الأميركيين بـ «مصيرهم المتفرد»، هذا مع العلم أنه كان يمكن لتلك الأحداث أن تولّد لديهم المشاعر بأنهم يشاركون غيرهم «المصير» فهم يواجهون كالآخرين امكانية تعرضهم لضربة. ومن المفارقة ان رؤية العالم لنفسه، خاصة بعد الحرب الباردة، تقوم بقسم كبير منها على الصورة التي ترسمها الولايات المتحدة له. هكذا نجد ان التحليلات الأميركية، وبفضل الموقع المركزي لأميركا في العالم، تجد صداها الكبير لدى الآخرين منذ نهاية الحرب الباردة، وخاصة الأطروحات التي قدّمها مفكران أميركيان هما فرنسيس فوكوياما صاحب كتاب «نهاية التاريخ» وصموئيل هنتنغتون مؤلف «صدام الحضارات». لكن بالمقابل لم تجد تحليلات وأطروحات المعادين للعولمة وللنظام الدولي الراهن، والتي جعلت من الولايات المتحدة الأميركية هدفاً لها نفس الصدى والنجاح. ما بعد الحرب الباردة النموذج الأول للنظام الدولي بعد الحرب الباردة يتمثل في الصيغة التي أطلقها جورج بوش الأب أثناء حرب الخليج 1991، ويقول هذا النموذج المعروف باسم «النظام الدولي الجديد» ان أي اعتداء تقوم به دولة ما ضد دولة أخرى سيتم الرد عليه من قبل المجموعة الدولية التي عليها أن تعاقب الجاني وتحمي الضحية. إن هذا يمثل في واقع الأمر ترجمة للمفهوم التقليدي في الأمن الجماعي مع اعطاء الولايات المتحدة دور المنظم وكزعيمة لتحالف طوعي أضفت عليه منظمة الأمم المتحدة صفة الشرعية. لكن هذا النموذج الذي بدا بأنه قد انتصر في حرب الخليج سرعان ما ظهرت فيه الشروخ عبر عدم القيام بأي عمل دولي شامل، مثلما كان الأمر في حالة البوسنة، أو عبر قيام الولايات المتحدة بعمل فردي من جانب واحد في بعض الحالات الأخرى مثل أفغانستان. هناك نموذج ثانٍ قال بـ «نهاية التاريخ» الذي كان المفكر الأميركي ذو الأصل الياباني فرنسيس فوكوياما أول من قال به في مقال نشره عام 1989، ثم بعد ذلك في كتابه الشهير الذي حمل عنوان «نهاية التاريخ والانسان الأخير». إن هذا النموذج يهتم أكثر بالأفكار وبالأنظمة الاقتصادية أكثر من اهتمامه بالمنظومة الدولية. ويرى فوكوياما انه بعد سقوط الفاشية وبعدها الشيوعية لم يعد هناك خصوم، أو لم تعد هناك بدائل للديمقراطية الليبرالية وللرأسمالية، وبالتالي أصبح الغرب هو الذي يمثل قيادة العالم وانه قد «خرج» من التاريخ ولن يعرف بعد اليوم ثورات أو حروب. أما البلدان الأخرى «المقطورات الأخرى» فإنها ستتبع الغرب حتى لو جنحت بعض الشيء. لكن «فوكوياما» لا ينفي امكانية قيام نزاعات قومية أو دينية في البلدان ـ أغلبية بلدان العالم ـ التي «لم تخرج بعد» من التاريخ. في الوقت نفسه يعتقد أن مثل هذه البلدان لا تشكل تهديداً أو بديلاً بالنسبة للبلدان التي دخلت في دائرة الازدهار والديمقراطية والسلام.لكن فوكوياما أدخل بعد ذلك بعض العناصر التشاؤمية أو الأكثر غموضاً المرتبطة بحالة التفسخ الاجتماعي التي تولّدها النزعة الفردية الحديثة والنفوذ المتعاظم للنساء، وخاصة تقدم علم الأحياء ـ البيولوجيا ـ الذي قد يدفع البشرية إلى مستوى «ما بعد انساني» غير واضح الملامح.على هذين النموذجين يعلق ستانلي هوفمان المحلل السياسي الأميركي الشهير في مقال له يحمل عنوان «بدأ القرن الحادي والعشرون»، ثم نشر هذا المقال في مجلة «القرن العشرين» لعدد اكتوبر 2002، وقد جاء في هذا التعليق ـ المقال: «لقد أثار هذان النموذجان للنظام الدولي الكثير من الضجة خلال عقد التسعينيات. والنموذج الذي طرحه فوكوياما لم تثبت الأحداث صحته. إن ما أعلنه في الواقع هو نهاية الصراعات الايديولوجية وانتصار الليبرالية الاقتصادية والسياسية. وفوكوياما يتنبأ بقيام عالم لا يشتمل على أي قضايا كبرى سوى التقدم المادي، وبالتالي المثير للسأم. ويذهب صموئيل هنتنغتون استاذ فوكوياما الى حد تقديم نموذج أكثر ثقافة، إذ يقول إن ما سيشهده العالم من عنف صريح أو ضمني الناتج من فوضى النظام الدولي سوف يكون بين «حضارات» وليس بين دول أو أمم أو اثنيات أو ايديولوجيات. لكن مفهومه عمّا يشكل الحضارة يظل مشوشاً. كما ان الرابطة بين الحضارة والسياسة الخارجية للدول التي تنتمي لهذه الحضارة ليست محددة بشكل وثيق في نظريته. لكن خارج هذا كله يقول الواقعيون المتشددون أو الواقعيون الجدد انه لم يتغير شيء في العلاقات الدولية منذ ثوسيديدس وميكافيللي. فهذه العلاقات هي الميدان الذي تتجابه فيه الدول والميدان الذي «يشكل فيه السيف محور العالم» وحيث ان القوة العسكرية والاقتصادية للدول هي التي تحدد مصيرها. هذا هو العالم الذي وصفه هنري كيسنجر وكنيث والتز. لكن هذا النموذج لم يعرف، للاسف، كيف يأخذ في حساباته التبدل الحاصل في العالم مثل العولمة وآثارها والادوار الجديدة لغير الدول ومستلزمات التعاون والتجديد المرتبطين موضوعيا بتكاثر اسلحة الدمار الشامل؟ والظاهرة الذاتية التي يسميها الاستاذ في سوسيولوجية التاريخ «ريمون ارون» بـ «بذرة وعي كوني». «هناك ايضا النموذج القريب للعولمة الظافرة التي تنهي وتتجاوز الحدود بفضل وسائل الاتصالات والمعلومات الجديدة في مثل هذا العالم ليس للدول المغلقة الاختيار سوى بين الانحطاط والقبول بدور مقلص وتبني اسلوب الحماية الاجتماعية في مواجهة المواطنين المتعطشين للتقدم والحماية المادية في مواجهة العدوان او الحرب الاهلية، هذا مع التأكيد على الهوية الوطنية. لكن ينبغي التمييز بين ثلاثة اشكال للعولمة لكل منها مشكلاتها الخاصة، هناك العولمة الاقتصادية الناتجة من الثورات التقنية والمعلوماتية ومن الاستثمارات في الخارج والنشاطات متعددة الجنسيات وهذا يطرح امام الدول معضلة رئيسية تتمثل في الخيار بين: الفعالية اولا ام العدالة اولا؟ «والعولمة الثقافية ثانيا كنتاج للثورة التقنية وللعولمة الاقتصادية التي تسهل تدفق المنتوجات الثقافية المسألة الاساسية في هذا العدد تتمثل في تعميم «النمطية الثقافية الوحيدة » اي «الامركة» في واقع الامر، وفي مواجهة هذا هناك نوع من «الاستياء العالمي» من فرض مثل هذه النمطية، بل ووجود ردود فعل بصيغة انبعاث ثقافات ولغات محلية وحتى هجومات ضد الثقافة الغربية على اساس انها ثقافة متغطرسة وتحمل ايديولوجيات وقيم دنيوية ودار دينية تستخدمها الولايات المتحدة الاميركية من اجل فرض هيمنتها على العالم.واخيرا العولمة السياسية كثمرة للنموذجين السابقين من العولمة وتأخذ هذه العولمة السياسية صيغتين: صغية الارجحية الاميركية وصيغة المؤسسات الدولية مثل المنظمات الدولية والاقليمية وشبكات الحكومات المتعددة، المشاكل الرئيسية هنا تعود الى حاجة جعل الكثير من هذه الهيئات ديمقراطية من جهة، وحالة عدم الاستقرار المتأتية من هيمنة الولايات المتحدة وتأرجح موقفها بين السيطرة او الانكفاء». النموذجان التاليان للنظام الدولي هما اكثر تقليدية يكمن الاول بالقول ان بعد نهاية الحرب الباردة فتنبغي العودة بكل بساطة الى الماضي، اي الي ما قبل تلك الحرب الباردة او العودة الى المستقبل، حسب تعبير جون مسرهايمر الذي يرى بأن توازن القوى الساعية للتفوق هو الامر الحاسم وحده، اذ ان غياب خطر الهيمنة الغربية في القارة الاوروبية الهيمنة الالمانية او الروسية لابد وان يؤدي الى انسحاب الولايات المتحدة من اوروبا كي يستأنف حالا الانجليز والفرنسيون والالمانيون حروبهم، ان العقبة الوحيدة امام «استئناف» مثل هذه الحروب تتمثل في الردع النووي لذلك لابد من ان يأمل الألمانيون بالحصول على السلاح النووي وقد يكون من المرجو حيازتهم له. لكن رؤية هنري كيسنجر تبدو اكثر اعتدالا اذ يعتقد بأنه يمكن للولايات المتحدة المحافظة على استقرار مختلف التوازنات الاقليمية شريطة ان لا تعكرها عبر تشجيع تحلل الدول باسم معاداة النزعة الاستعمارية او حقوق الانسان. ويرى صموئيل هنتنجتون بأن القرن الحادي والعشرين سيكون زاخرا بالنزاعات لكنها لن تكون تعبيرا عن التنافس التقليدي بين القول ويرى بأنه اذا كان القرن التاسع عشر هو قرن الامم والقوميات والقرن العشرين هو قرن الايديولوجيات فان القرن الحادي والعشرين سيكون قرن الحضارات، والخطر الاكبر هو ان تدخل هذه الحضارات في نزاعات فيما بينها.ويحدد هنتنجتون مصدرين لعدم الاستقرار هما الاسلام وليس بالمعنى الاصولي فقط ـ والصين، ويرى بأن الوسيلة الوحيدة لتفادي حرب الاديان تكمن في قيام نوع من «يالطا» جديدة، اي تقسيم جديد لخارطة العالم، بحيث يكون لكل حضارة مركز زعامة لا يتدخل في شئون الحضارات الاخرى، وقد كان هنتنجتون حتى عام 1993 من انصار سياسة تؤكد على تفوق الولايات المتحدة ومركزها الريادي في العالم لكنه اعتبر بعد ذلك بان النزوع الكوني، يونيفرسال للولايات المتحدة يهدد السلام العالمي للخطر كما ان التعددية الثقافية تهدد هويتها.ونموذج آخر للنظام الدولي لا يركز على دور الدول والحضارات وانما بالاحرى على وجود عملية «تفسخ عنيف» او «عنف فوضوي» محلي وشامل بنفس الوقت ويرى «روبر كابلان» بان ليبيريا او سيراليون تقدمان صورة جيدة عن عالم الغد بما في ذلك بالنسبة للغرب، وتتسم هذه الصورة بضياع الشرعية وانتشار الاوبئة وتعاظم ظاهرة تمرد الشباب .. الخ واذا كانت الجيوش الافضل تسلحا وتدريبا هي التي تنتصر في المجابهات المسلحة فان مستقبل العنف يكمن في الاحرى بما يسميه المحللون الاستراتيجيون بـ «النزاعات ذات الحدة الضعيفة» والتي تتراوح بين عمليات السلب وحتى المجابهات على قاعدة الانتماءات الاثنية. النموذج الاخير الذي يتم تقديمه في هذا السياق للنظام الدولي يتم التعبير عنه خاصة في كتاب ماكس سنجر وآرون ولدوفسكي الذي يحمل عنوان «النظام الدولي الواقعي: مناطق السلام ومناطق العواصف». وهذا النموذج يبتعد كثيراً عن جميع النماذج الاخرى اذ يؤكد على وجود ثنائية راديكالية بين المركز، اي الغرب المستقر والمزدهر الديمقراطي والسلمي نسبياً وحيث من المستبعد قيام ثورات أو حروب وبين المحيط، اي بقية العالم حيث لاتزال الحروب والثورات والفوضى والمجاعات تعيش فساداً. لكن المركز لن يكون مستقبل المحيط، كما يقول فوكوياما، والمحيط ايضا لن يكون مستقبل المركز، حسبما يؤكد كبلان؟ وكذلك لا يشكل تهديداً بالنسبة له كما يعتقد صموئيل هنتنجتون. لكن في الحالتين يوجد عالمان لكل منهما منطقه الخاص به ونمط حياته المختلف عن الآخر، مع ذلك يمكن للمركز بين الحين والآخر، ان يتدخل في المحيط من اجل حماية مصلحة خاصة محددة او يوقف مذبحة يمكن ان تتسع رقعتها هذا لا ينفي ان مسيرة هذين العالمين محكوم عليها بالتباعد.ان مثل هذا التمييز بين المركز والمحيط اختفى تقريباً منذ احداث 11 سبتمبر 2001 بواقع تداخل العالمين، كما كشف عنه الهجوم الذي استهدف برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك ومبنى البنتاغون. لقد بدل هذا الهجوم بعمق رؤية الاميركيين للعالم، وبالتالي بدل موقعهم ودورهم، قبل ذلك كانت الرؤية السائدة هي تلك التي يتبناها الرئيس السابق بيل كلينتون وروج لها الصحفي المعروف توماس فريدمان والقائلة بوجود عولمة سعيدة تجر بموجبها الولايات المتحدة بقية العالم الى منطق السوق والديمقراطية، وكان يقابل هذه الرؤية اكثر تشاؤماً عبر عنها جورج دبليو بوش وعدد من المحللين المستقلين والقائلة بأنه ينبغي على الولايات المتحدة الاميركية الاهتمام اكثر بمصالحها المباشرة وخاصة على الصعيد الدفاعي وببعض المناطق الاساسية في اسيا واميركا اللاتينية.. فما هو اهتمامها بمصير العالم والانسانية. والذي ساد فيما بعد تمثل في رؤية قاتمة للعولمة تحت شعار الصراع الذي يمتد الى جميع القارات بين «الخير» الذي تجسده اميركا و«الشر» الذي يجسده الارهاب. لكن مثل هذه الرؤية الجديدة انما تجد جذورها في معطيات قديمة قدم الولايات المتحدة نفسها. المهمة الكونية هناك قاعدة ثابتة في التاريخ الاميركي لم تعرف سوى بعض الاستثناءات النادرة، وتتمثل في القول ان الولايات المتحدة ليست بلاداً مثل البلدان الاخرى وان عليها ان تؤدي مهمة ذات بعد كوني، لكن يمكن لفكرة الاستثناء الاميركي هذه ان تأخذ صيغة نموذج فريد تنبغي المحافظة عليه، نموذج الارض الموعودة الحرة والجمهورية، أو ان تأخذ صيغة النضال من اجل ارساء اسس حضارة تكون الولايات المتحدة زعيمة لها. لكن منذ اللحظة التي تمثل فيها الولايات المتحدة الموقع المركزي على رأس العالم الحر في ظل الحرب الباردة أو باعتبارها القوة العظمى الوحيدة بعد ذلك فإنه يمكن للدورين ان يختلطا او يتكاملا، فالمحافظة على النموذج يمكن ان تكمن في الانسحاب من العالم وربما تحت حماية درع مضاد للصواريخ والاكتفاء ببعض التدخل في الجوار عندما يكون الخطر كبيراً بالفعل، كان هذا هو مفهوم ريتشارد هاس، مدير فريق التخطيط في وزارة الخارجية الاميركية اليوم، ولكن هذا المفهوم قد اختل لديه بعد 11 سبتمبر 2001، لكن اذا تم النظر الى «كونية» النموذج كقيمة اساسية فإنه كان ينبغي في هذه الحالة نشره وجعله مثلاً يحتذى به. وبالنسبة لجورج دبليو بوش ولأغلبية الاميركيين فإنهم يرون بضرورة اعلان الحرب في جميع اصقاع العالم ضد اولئك الذين يريدون تدمير هذا النموذج والذين يشكلون تهديداً متعدد الوجوه ويمكن ان يتواجدوا في مركز المركز او في محيط المحيط. انه نضال حتى الموت وحيث المطلوب هو تدمير العدد، بهذا المعنى قال «ريشار هاس» بأن الشريف لم يعد متردداً لكنه تحول الى «شرطي العالم» وهذا دور كان القادة الاميركيون وجورج دبليو بوش خاصة قد رفضوه مبدئياً على الدوام. مع ذلك وفي الوقت الذي اصبح النضال ضد الارهاب يشكل المهمة المركزية للسياسة الخارجية الاميركية يمكن تصور هذا الدور بأشكال مختلفة تتناظر مع مختلف تقاليد الولايات المتحدة، فالمثاليون قد يجدون فيه المهمة التي اوكلتها العناية الالهية للولايات المتحدة بأن تكون بطلة «الخير» في مواجهة «الشر». اما الواقعيون فقد يعتبرونه بمثابة الدفاع عن ابقاء الاوضاع على ما هي عليه، او الدفاع عن نظام دولي يعتمد على هيمنة الولايات المتحدة، وكان البعض من امثال برزنسكي قد قدموا الولايات المتحدة على انها القوة العظمى الاخيرة التي قادت العملية المؤدية الى قيام مؤسسات عالمية وهناك الكثيرون. اليوم مثل «روبير كيجان» يرون في بلادهم بطلة قانون دولي هي بالوقت نفسه صاحبته ومنفذته وبالتالي لا يمكن ان يكون ضدها لانها هي التي تجسده.بالطبع، يثير هذا الزعم احتجاجات اولئك الذين يعتبرون بأن مثل هذا يجعل من الولايات المتحدة «دولة جانحة» بامتياز اذ انها تزعم قيامها بإملاء القوانين بدلاً من الانصياع لها، وكذلك اولئك الذين يعتقدون بأن المؤسسات متعددة الاطراف هي المؤهلة وحدها كي تضفي الشرعية على عمل الولايات المتحدة. من هنا يأتي النقاش حول طبيعة المنظومة الدولية، وهل هي وحيدة القطب او متعددة الاقطاب وحول الموقع الامبريالي او غير الامبريالي الذي تحتله اميركا. ومن الملفت للانتباه ان تأكيد الاحادية القطبية على الصعيد الدولي لم تتأكد بهذا القدر من الوضوح في النقاشات الاميركية إلا منذ ان اظهرت احداث 11 سبتمبر 2001 ان هناك تحدياً جدياً للقوة العظمى الوحيدة في العالم، بل ان تلك الاحداث شكلت بمفهوم «القطب» ومفهوم «القوة» ذاتهما، وبدا ان جميع الاطروحات تصب في طاحونة محاولة الولايات المتحدة تأكيد أمنها مطمئنة عبر التذكير المستمر بالبعد العسكري والتقني لتفوقها. لكن في الوقت نفسه، تصطدم الولايات المتحدة، على صعيد امكانيات دفاعها عن نفسها وعلى صعيد نفوذها، بتحديات وبأشكال من المقاومة لا تستطيع تحديد مداها بدقة. هناك امكانية للحركة غداة سقوط جدار برلين في خريف عام 1989 كان هناك شبه اجماع على القول بوجود انتقال من وضع الاستقطاب الثنائي الدولي بين معسكرين «غرب وشرق» الى وضع تسود فيه قوة عظمى وحيدة، وكان السؤال البارز الذي اختلف حوله المنظرون الاميركيون يتمثل في معرفة عما اذا كانت هذه «اللحظة من الاحادية القطبية» قابلة للاستمرار وعما اذا كان الاستقرار سيسود في ظل هيمنة قطب دولي واحد، او عما اذا كانت سيادة قوة واحدة ستؤدي بالضرورة الى ايجاد ائتلاف مهمته خلق توازن دولي، او اخيراَ معرفة اذا كان مثل هذا الوضع سينتهي الى اقامة مؤسسات دولية تتولى مهام الحكومة؟! هذا الاحتمال الاخير شرحه باسهاب مستشار الامن القومي الاميركي الاسبق زيجينو بريجنسكي في كتابه الشهير «رقعة الشطرنج الكبيرة».ان جميع هذه الاطروحات حول امكانية استمرار الاحادية القطبية في النظام الدولي على مدى المستقبل المنظور أو امكانية تغييرها، لا يمكن في نهاية المطاف فصلها عن فكر ملموس اكثر يخص مستجدات الوضع الدولي ومدى امكانية تطبيق مفهوم القطب على هذا الوضع.. هذا ما اثبتته جميع التجارب التاريخية السابقة والتي شهدت استقطابات ثنائية جديدة في مواجهة القوة المهيمنة. وذلك لان آلية توازن القوى تملك قدرة على فرض نفسها على مختلف القوى الراهنة وعلى قيادييها، ويرى القائلون بمثل هذا الرأي أن الاحادية القطبية الدولية لا تنطبق سوى على بعض ابعاد الواقع الدولي وليس على ابعاد اخرى تخضع لمنطق تعددية الاقطاب وتزداد اهميتها باستمرار.لكن يمكن للعالم ان يكون ذا قطب واحد او ثنائي القطبية او متعدد الاقطاب من وجهة النظر التقليدية للقوى. مع ذلك لا يمنع هذا واقع وجود مراكز نفوذ ومراكز قرار واشكال من المقاومة يمكنها ان تشوش واحياناً تشل آليات التوازن الدبلوماسي والردع الاستراتيجي وايضا توازن السوق.. وباختصار قواعد اللعبة الدولية.

Email