كتاب ـ القرن الحادي والعشرون لن يكون قرنا أميركيا ـ الحلقة الثامنة عشر ـ تأليف : بيير بيرنيس ـ لغز هائل باتساع بحر قزوين، إخفاقات مخيفة وراء التراجع الكبير لاقتصادات شرقي آسيا

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاحد 3 ربيع الاول 1424 هـ الموافق 4 مايو 2003 في حدود العام 1880، ما بين فارس والهند، وعبر جبال هندوكوش، كان الروس والانجليز يسربون عملاءهم وينصبون لبعضهم البعض الأحابيل والكمائن ويوقعون هدنات بلا طائل، هناك كما في أماكن أخرى من آسيا وافريقيا كانت ترسم على الميدان الخطوط الأخيرة للتقسيم الاستعماري، وتجري الأشواط الأخيرة لما كان كيبلنغ يسميه بـ «اللعبة الكبرى». كانت روسيا القيصرية تحاول توسيع أراضي تركستانها، وكانت انجلترا تسعى من جهتها الى تحقيق نفس الهدف في امبراطوريتها الهندية. ولذلك كان على افغانستان في النهاية أن تظل مستقلة حتى تكون دولة حاجزة ما بين منطقتين شاسعتين خاضعتين للهيمنة الأوروبية، وظلت هذه الوضعية مجمدة الى أن جاء ذلك اليوم من ديسمبر 1979 حين قرر ليونيد بريجنيف مواصلة المسيرة نحو المحيط الهندي واخضاع كابول لرقابته. في تلك السنوات عادت «اللعبة الكبرى» للميدان من جديد، بلاعبين اختلف أحد فريقيهما، الروس أنفسهم من ناحية، وفي الناحية الأخرى بدلاً من الانجليز، اللاعبون الأميركيون وشركاتهم البترولية بالاتفاق مع الأتراك حول قزوين أو بواسطة باكستان. أما ميدان اللعب فأفغانستان نفسها. انفجار الاتحاد السوفييتي على نفسه أعطى الشعور للأتراك بأن ساعة الانتقام من الروس في القوقاز وفي آسيا الوسطى بعد قرون عديدة من الانطواء والتراجع قد دقت. ففي أنقرة انبعث من جديد الحلم الطوراني القديم الذي دفنه مصطفى كمال أتاتورك بعد انهيار الامبراطورية العثمانية وبعد أن أحكمت ثورة أكتوبر قبضتها على الفتوحات القيصرية القديمة. ففي رأي الكثير من المراقبين الأوروبيين والأميركيين صارت قاعدة الناتو القديمة المتقدمة على الجانب الجنوبي من الكتلة الاشتراكية، بين عشية وضحاها، معبراً للنفوذ الى باكو وأيضاً الى عشق أباد وطشقند والمآتا من دون المرور بموسكو، ففي رأي العديد من الشركات الغربية أن تركيا ذلك البلد الاسلامي الكبير والعلماني في الوقت ذاته، والذي خطا خطوات كبيرة في الحداثة والعصرنة وتشيع منذ زمن بعيد بالتقاليد الثقافية والمؤسساتية الأوروبية والذي أدرك مستويً عالياً من التطور هو أفضل شريك لها تستطيع بواسطته الوصول الى أصقاع شاسعة يقطنها سكان ناطقون بالتركية بعد أن كانت هذه المناطق محظورة عليها. وبالطبع لا يمكن أن يكون هؤلاء الشركاء غير الشركات البترولية الكبرى. في بحر قزوين يعرف الغرب منذ فترة طويلة بترول بحر قزوين والمناطق المجاورة له ويقدر أن احتياطه يعادل احتياطي الشرق الأوسط منه ـ فحتى قبل ثورة 1917 كان بترول باكو موضع استغلال كبير. وقد انتقل بعد هذه الثورة الى المراقبة السوفييتية الكاملة ولم تعد اليه الشركات الغربية من جديد الا في السنوات الأخيرة حيث ضاعفت الاكتشافات في أذربيجان وتركمانستان وكازاخستان على أساس رخص ممنوحة من قبل الجمهوريات التركفونية الجديدة بعد أن كان الأمر مقتصراً على التعاون مع الروس. حيث تجد هذه الجمهوريات اليوم في تلك الرخص أفضل وسيلة للتخلص من الوصاية الموسكوفية. لكن المشكلة ليست مشكلة ضخ البترول بقدر ما هي مشكلة نقله نحو الأسواق الأوروأطلسية الاستهلاكية الكبرى انطلاقاً من منطقة نائية نسبياً عبر البحار والجبال والعديد من البلدان، فهل من سبل أخرى لنقل هذا البترول بتكلفة أقل وأمان أكثر؟ هنا تعود «اللعبة الكبرى» من جديد ما بين العديد من الشركاء من ذوي المصالح السياسية والاقتصادية المتناقضة. فما بين الخطوط «الروسية» ومنفذها على البحر الأسود ـ نوفوروسبسك ـ شمالاً وما بين الخطوط التركية، ومنفذها على البحر الأبيض المتوسط ـ يومورتاليك ـ جنوباً، كان اعلان حرب «الأنابيب» سريعاً، انها ببساطة حرب البترول، مثلما هي الحرب في الشيشان. لقد كان من نتائج الصراع الشيشاني المباشرة أن عرقلت ولو الى حين المشروعات الروسية البترولية لصالح المشروعات التركية. ففي الشهور الأولى من عام 1995 كان الاتحاد (الدولي) لأنابيب بترول قزوين والمشروعات المشتركة الأميركية الكازاخية لا يزالان يفكران في تجديد الأنبوب الروسي القديم الذي يربط تنغيز على بحر قزوين بنوفوروسيسك على البحر الأسود وبناء وصلة جديدة تتيح الالتفاف حول المنطقة الى الشمال من الشيشان. وقد أهملت هذه المشروعات مثلما أهملت أيضاً مشروعات أخرى أكثر تعقيداً كان يفترض تفادياً للبوسفور التركي المزدحم أن تنقل نحو البحر الأبيض المتوسط عبر ميناء بورغاس في بلغاريا، البترول القادم بواسطة الناقلات من نوفوروسبسك عبر اليونان أو عبر مقدونيا وألبانيا، وفي المقابل فقد بدأت في ديسمبر 1995 اشغال. تحديد أنبوب باكو ـ بوتومي (جورجيا) عبر يرفان (أرمينيا) وكذلك أشغال بناء وصلة تبليسي ـ يومورتاليك الذي يصلها أنبوب الموصل العراقي. وعلى ضوء هذه الأحداث ذاتها ومعطياتها الجديدة يأتي اهتمام حكومة كازاخستان المتزايد ببناء أنبوب بحري من شأنه أن يهمل أكثر نقل بترولها نحو يومورتاليك عبر قزوين واذربيجان وجورجيا. لكن بالنسبة للروس كما هو الأمر بالنسبة لخصومهم أيضاً لا تقتصر المصالح الجيوسياسية حول بحر قزوين ولا سيما في القوقاز على قضايا البترول وحدها أياً كانت أنظمة تلك القضايا. فقد ضعف جانبها الجنوبي واختلت أوضاعه بفعل تفتت الاتحاد السوفييتي. وقد صارت حدودها الدولية الجديدة أي حدود اتحاد روسيا يمر بمنطقة جبلية جد وعرة تقطنها شعوب مختلفة ومتعادية ليس لها من قاسم مشترك سوى عدائها لكل ما هو قادم من موسكو، حيث لم ينس أبناء هذه الشعوب تلك الحروب الرهيبة التي خاضوها وخسروها طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ضد الغزاة القياصرة، و لا ذلك القمع الشرس الذي مورس ضدهم أثناء الحقبة السوفييتية ولا سيما في عهد ستالين، لذلك صار التعامل مع هذه العدوانية واحداً من معضلات سياسة روسيا الأساسية. فلم يتخل الجيش الأحمر القديم الذي يسمى اليوم بالجيش الروسي عن السهر على الحدود السوفييتية الجنوبية القديمة التي أصبحت اليوم حدود جورجيا الجنوبية وحدود أرمينيا وأذربيجان (فقد نجح هذا الجيش في أن يفرض بقاء حاميتين في كل من جورجيا وأرمينيا، مع تغذيته للحركة الانفصالية الأبخازية في جورجيا وللصراع في كاراباخ العليا ما بين أرمينيا وأذربيجان). وما الحرب الشيشانية سوى أكثر الحلقات دموية في سياسة روسيا الصعبة واستعادة الهيمنة على هذه المناطق، مثلما هي الحرب وان كانت أقل حدة الدائرة منذ أكثر من خمس سنوات الى الشرق من الشيشان في طاجيكستان شمال أفغانستان. نفط ودماء لم تخرج أفغانستان نفسها عن اطار عن هذه السياسة وانشغالاتها. فبعد أن نشروا عجزهم في الشيشان حيث لم تتمكن قواتهم بعد عامين من الحرب والمجازر من اخضاع شعب صغير ثائر ضد هيمنتهم، استقبل الروس بكثير من التشاؤم والخيبة نبأ دخول «طالبان» الى كابول نهاية سبتمبر 1996. فقد أخلوا هم أنفسهم العاصمة الأفغانية عام 1989 بعد أن تركوا فيها حلفاء مشتبهاً بهم، وقد طرد هؤلاء بدورهم اذن. ومن المعروف ان الطالبان استولوا من دون مقاومة وفي أقل من عامين على ثلثي أفغانستان هما كل الجزء الباشتوني من البلاد حيث استقبلوا استقبال الأبطال الفاتحين وحيث طبقوا الشريعة الاسلامية تطبيقاً صارماً، وحرّروا التجارة تحريراً كاملاً. وما فتئت صفوفهم كلما حققوا انتصاراً جديداً تتسع بانضمام متطوعين جدد اليها أكثر جهلاً وتعصباً حتى استولوا على قندهار العاصمة الملكية القديمة في جنوب البلاد في نوفمبر 1994، وحيرات بالقرب من الحدود الايرانية غرباً في سبتمبر 1995 ثم جلال أباد القريبة من الحدود الباكستانية شرقاً وليس بعيداً عن كابول في سبتمبر 1996. لكن العاصمة كابول المركّبة عرقياً والأكثر حداثة وعصرنة قاومت العديد من الهجمات قبل أن تسقط بدورها بعد أن اختار رئيسها وقائد قواتها الجنرال مسعود تجنيبها حماماً من الدم. ولكن فيما بعد وعند الخروج من بلاد البشتون بدأ الطالبان يراوحون مكانهم أمام خصومهم المتحصنين بمناطقهم الخاصة، الجنرال مسعود في الشمال الشرقي في مناطق التاجيك في وادي بنشير، والجنرال رشيد دستم في الشمال في مناطق الأوزبك. ولأسباب دعت اليها الضرورة تصالح المتخاصمان مسعود ودوستم (لكن الى متى؟) وانضمت اليهما في غرب كابول قوات هزارة لقائد حرب آخر يدعى عبد الكريم خليلي القريب من الايرانيين. وانتقل هؤلاء الى الهجوم المضاد ولا سيما حول نفق سالانغ الاستراتيجي. وفي هذه الظروف بعد الأستيلاء المحتمل على كابول استيلاء مؤقتاً أمراٍ غير مستبعد لكن حلم السلام الباشتوني في اسلام أباد يظل بعيد المنال. وخلف هذا الهجوم المضاد نجد بالطبع كل الذين تتعرض مصالحهم الاستراتيجية للخطر في حال حصول الطالبان على انتصار نهائي وعلى رأس هؤلاء الروس وأربعة من حلفائهم في اتحاد الدول المستقلة: التاجيك والأوزبك والكازاخ والقيرغيز. ولكن أيضاً الايرانيون والهنود. والهنود على الخصوص لا يحبذون مثل هذا الانتصار الداعم لوضع خصومهم الباكستانيين. فكما نرى هنا أيضاً فنحن في قلب «اللعبة الكبرى» التي تفوح منها رائحة البترول، لكن الأحداث التي توالت اتخذت طابعاً أكثر مأساوية، حيث غدت تفوح رائحة الدم هذه المرة من دخول الأميركيين أفغانستان. النمور والتنينات شهد العالم في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين بعد وثبة اليابان الاقتصادية القوية خلال العقدين السابقين والتي تواصلت بعد ذلك ولا تزال، ظهور التنينات وهي تايوان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وهونغ كونغ. وقد طفا بعدها «النمور» ممثلة في تايلاند متبوعة بماليزيا وأندونيسيا والمقاطعات الصينية الساحلية، بينما كانت دول أخرى تتهيأ للوثب بدورها كالفلبين وميانمار (برمانيا سابقاً) بل وحتى فيتنام (أشبال النمور) وقد اندهش العالم كله لـ (انطلاقة تلك الأوز البرية) التي اصطفت في مثلث وراء اليابان قائدة المجموعة المدهشة والقلقة في الوقت ذاته. وازاء ظهور هؤلاء العمالقة الآسيويين كان لا بد أن تصاب الاقتصاديات الصناعية القديمة لأوروبا الغربية وأميركا الشمالية التي تراوحت معدلات نموها السنوي ما بين 2 و 3% وأقل من ذلك أحياناً مقابل 7 الى 8% عند منافسيها الجدد، بالهلع والارتجاف. فقد دفعت مخاطر ترحيل رؤوس الأموال نحو هذه «الالدورادوات» (مفردها الدورادو أي مواطن الثروة) ذات الأجور المنخفضة والكثافة السكانية الضعيفة في عالم لم يعد فيه أصحاب رؤوس الأموال يتضايقون من الاتحاد السوفييتي، الى اعادة النظر في «المكتسبات الاجتماعية» القديمة المحصل عليها عبر قرن من الكفاحات العمالية، حتى صار الأغنياء أكثر غنى والفقراء أكثر فقراً في «الشمال» وفي «الجنوب» على السواء. فمنذ بعض الوقت صارت اقتصاديات آسيا الشرقية المتألقة تصطدم بمصاعب كبيرة: أزمة النظام المصرفي الياباني، هبوط التنافسية في كوريا الجنوبية، انخفاض معدلات النمو في كل البلدان المعنية تقريباً. واذا كان معظم المراقبين لم يصلوا الى حد الاعتقاد بأن المعجزة قد استحالت الى وهم وبأن «النمور» ليست في النهاية سوى «نمور من ورق» فان الأمر ما فتئ يحيرهم ويثير الكثير من تساؤلاتهم. ففي هذا الشأن تقول مجلة «ايكونوميك ريفيو» الصادرة في هونغ كونغ في يناير 1997: «بعد قليل لن تصبح سنوات الرفاه والبذخ والنمو بمعدلاته العالية سوى ذكرى من ذكريات الماضي». ففي كل مكان في المنطقة بات من الواضح أن «النمور» الصغيرة والتنينات الكبيرة التي دبّ فيها التعب والاعياء لن تصبح بعد سنو ات النشوة والأوهام سوى بلدان صناعية عادية بمشاكل اجتماعية لا تختلف اختلافاً كبيراً عن مشاكل أوروبا القديمة. وقد كان هذا الوضع بديهياً جداً في اليابان وفي تايوان وفي كوريا الجنوبية وهي البلدان الثلاثة الأقدم صناعياً والأكثر تحقيقاً للتطور في مجال الديمقراطية النقابية والبرلمانية. أما في باقي دول جنوب شرق آسيا فلم تكن مؤشرات الاخفاق والتقهقر أقل بداهة وتفاقماً. لقد قام النمو الهائل في اقتصاديات آسيا االشرقية في الثمانينيات وفي بداية التسعينيات على تصدير العمل رخيص التكلفة المنجز في القطاعات التي لا تتطلب تقنيات عالية كصناعة النسيج أو في القطاعات ذات التقنية الأكثر تعقيداً التي تعتمد على عمال من ذوي المستويات التعليمية المتوسطة بحكم تكرارية المهام والحد الأدنى من الأتمتة التي لا تتطلب تأطيراً بكفاءات يد عالية كالتجهيزات المنزلية، السيارات وبعض القطاعات الالكترونية. ولكن مهما اتسعت هذه المجالات فان اتساعها هذا لا يمكن أن يمتد الى ما لا نهاية ولذلك صار الكل ينافس الكل، بينما صار السباق نحو الانتاجية والقيمة المضافة أكثر فأكثر الحاحاً استدعى الاعتماد أكثر فأكثر على عمال أكثر كفاءة وأداءً وأكثر كلفة أيضاً وكذلك على استثمارات جد عالية في مجالات البحث والتنمية التي كثيراً ما كانت مهملة في هذه البلدان ـ اللهم الا في حال دفعها «أموال طائلة» ومرهقة للأميركيين والأوروبيين واليابانيين. فعملية التقرب من معيار الأمم الصناعية القديمة كان أمراً محتوماً على هذه البلدان. لكن اليابان ذات السكان الأكثر تقدماً في السن صارت البلد أكثر ترحيلاً لرؤوس الأموال في العالم. وقد حذت حذوه كل من سنغافورة وتايوان وكوريا الجنوبية بحثاً عن مواطن جديدة للأيدي العاملة الرخيصة. وقد كانت الصين أكثر هذه المواطن جذباً واستقطاباً لهذه الأموال بحكم دكتاتوريتها السياسية والاجتماعية (كتشغيل الأطفال وملايين السجناء) غير أنه كان من الواضح أن هذا الحل البديل لم يكن حلاً أبدياً بأي حال من الأحوال. ولكن قد تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. ففي هذه المنطقة من العالم الخارجة لتوها من التخلف، والتي لم تزل مناطق واسعة منها تعاني الفقر قد تصبح معدلات التنمية غير كافية لتأمين البقاء للعديد من المؤسسات والحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي في هذه البلدان. فقد كانت تايلاند مثلاً عام 1996 مسرحاً لاضطرابات عنيفة وكان التوتر السياسي والاجتماعي في قمته في ميانمار (برمانيا سابقاً) حيث أصبح العمل الحربي لا يطاق، من دون أن ننسى الكفاح البطولي لجائزة نوبل للسلام «آونغ سان سون كويي» ضد الدكتاتورية. وقد تنخفض هذه المعدلات الى 2 أو 3% فقط كما توقعه في فرنسا وألمانيا في أفضل أيام الأزمة الاقتصادية العالمية، بعض المحللين. واذا كان المدير العام للبحث الاقتصادي في معهد غولدمان ساش بهونغ كونغ يقول تعليقاً على هذا الوضع: ان الأشجار لا بد وأن تتوقف في النهاية عن النمو. فان مين سنغ كيه أستاذ المالية الدولية بجامعة سيول يكتفي في وصف المرحلة الحالية من حياة «الأتنة» و«النمور» بـ «العصر الوسيط» دون أي تعليق آخر عما ستؤول اليه هذه الأوضاع في المستقبل. اخفاقات مخيفة من ناحية أخرى فان السباق نحو التسلح الذي أحدثه على الخصوص تصاعد قوة الصين العسكرية وهو السباق الذي دخلت فيه بدرجات متفاوتة كافة بلدان المنطقة قد حوّل حصة هامة من موارد هذه البلدان المالية نحو تطوير هذا القطاع العسكري الذي بات ملحاً على حساب متابعة نموها الاقتصادي. ان خطورة الأزمة التي ضربت ابتداءً من صيف 1997 بلدان جنوب شرق آسيا ثم آسيا الشرقية بكاملها لم يتنبأ بها حتى أكثر المراقبين خبرة ودراية بقضايا هذه المنطقة. فمنذ بعض الوقت صارت اقتصاديات آسيا الشرقية المتوهجة هذه تتعرض لاخفاقات مخيفة ـ أزمة النظام المصرفي الياباني، هبوط التنافسية في كوريا الجنوبية ـ ففي خلال صيف عام 1997 انهارت بورصة بانكوك انهياراً عنيفاً نتيجة للافراط الكبير في القروض المصرفية التي كان يسهّلها منذ سنوات عديدة تدفق رؤوس الأموال الأجنبية والمضاربة العقارية الجنونية المترتبة عن ذلك التدفق الهائل في الأموال. فقد هبطت العملة التايلندية على الفور هبوطاً سريعاً وعنيفاً هي الأخرى وجرّت معها الى زوبعة هذه الأزمة معظم الأسواق المالية المجاورة التي تعاني من نفس الأمراض والتي عرفت بدورها انهيارات مالية مماثلة: كوالالمبور، جاكرتا، رانغون، مانيلا باستثناء هونغ كونغ وسنغافورة اللتين لم تصبهما عدوى هذه الأزمة وتبعاتها. فقد تم خفض سعر معظم عملات المنطقة الأخرى التي كانت على غرار «البات» (أي العملة التايلندية) مرتبطة بالدولار الأميركي وفقاً لسعر تكافئيّ ثابت ـ الروبي الأندونيسي والرنجيت الماليزي والبيزو الفلبيني على الخصوص ـ هبوطاً قوياً رغم الدعم المالي الياباني وصندوق النقد الدولي نفسه الذي فرض على الجميع مقابل هذا الدعم اجراءات تقشفية صارمة. فقد تجاوزت الخسارة الاجمالية في البورصة بعد مرور أربعة شهور في أكتوبر من ذلك العام (1997) المائتي مليار دولار. لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد. ففي نهاية اكتوبر هبت رياح عاتية على مدى بضعة أيام على هونغ كونغ التي كان احتياطها من العملات الصعبة المقدرة بنحو ستين ملياراً مضافاً اليها احتياطي الصين نفسها المقدر بثلاثة أضعاف ذلك المبلغ، احتياطاً قوياً جداً. فقد قامت كوريا الجنوبية على الخصوص بتعويم مؤسساتها الصناعية والمالية الشهيرة وهي «التسيبولات» وهي التجمعات الصناعية والمالية الشبيهة بـ «الكريتسوس» اليابانية ـ التي أصبحت فجأة مهددة بالانهيار مثل قصور الورق تحت ثقل مضارباتها الجنونية السابقة، دايو وهيونداي وسامسونغ الخ.. وقد تمكنت مساعدة دولية قدرها 57 مليار دولار أعلى من تلك التي استفادت منها المكسيك قبل عامين من انقاذ هذا البلد العضو في منظمة التجارة العالمية والتنمية الاقتصادية ـ القوة الاقتصادية العالمية الحادية عشرة ـ من انقاذ هذا البلد من الافلاس ـ مقابل تطهير واسع لمؤسساتها الانتاجية والمالية. وقد أسهم في هذه المساعدة الهائلة كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والبنك الآسيوي للتنمية ومعظم الدول الصناعية الكبرى الأخرى ولا سيما الولايات المتحدة واليابان التي كانت جميعها تخشى امتداد الأزمة الى باقي الأسواق المالية في العالم أجمع حيث باتت سوق طوكيو المالية، الثانية في العالم، مهدّدة بالانهيار انهياراً مباشراً. ورغم كل ذلك فقد كان هذا الخطر في بداية العام 1998 قائماً. فلم يعد أحد، على أية حال، يتحدث عن «النموذج الآسيوي في التنمية» الذي تغنى به على مدى سنوات طويلة أقطاب المالية العالميون والذي لم يكن سوى نتيجة للاستغلال المفرط لشغيلة هذه المنطقة من العالم.ولعله من الجائز التفكير بأن هذه النمور و التنينات قد تستطيع بعد أن تذيب شحومها وتعيد فتل عضلاتها أن تثب من جديد وتحقق طفرات جديدة. ولا شك أن فك ارتباط عملاتها بالدولار سوف يجعل هذه الوثبة المستقبلية أيسر وأقوى ولا سيما بالعمل على زيادة معدل نمو في تنافسية صادراتها التي عانت كثيراً بسبب ارتفاع كلفة العملة الأميركية التي شهدت خلال السنوات الأخيرة انتعاشاً ملحوظاً.

Email